خاص: قراءة- سماح عادل
عرف المصريون طريق الوعي الروحي، وحاولوا التواصل مع الحقيقة المطلقة، والتناغم مع مكونات الكون، هذا ما تناوله كتاب (اليوجا المصري فلسفة التنوير”المعرفة الروحانية”) للكاتب الأمريكي”د. مواتا آشبى” ترجمة “صفاء محمد”، وهو كتاب هام وكاشف.
الميثولوجيا والفلسفة ..
يتناول الكتاب الميثولوجيا والفلسفة معرفا إياهم: “إن الميثولوجيا والفلسفة هما وسيلة لشرح معاني ومفاهيم كونية وروحانية لا تستطيع الكلمات العادية أن تعبر عنها لأنها مفاهيم أبعد من مستوى لغة العقل. عن طريق القصص والتشبيه المجازى، تستطيع الميثولوجيا نقل رسائل روحانية معينة إلى قلب ووعى المستمع. علينا أن لا ننظر للميثولوجيا على أنها مجرد قصص تاريخية وقعت أحداثها في الماضي البعيد فهي أعمق من ذلك بكثير.
تحمل الميثولوجيا والفلسفات القديمة رموزا باطنية غنية بالحكمة والمعرفة الروحانية، ولذلك يجب ألا ينظر إليها باعتبارها أحداثا تاريخية، وإنما هي وسيلة لنقل أفكار مجرة، وصور أولية في عالم المثل “أي الجوهر”، كانت موجودة في الماضي وستظل موجودة دائما، لأنها حقيقة مطلقة لا يعتريها التغيير.
تكمن قيمة التعاليم الروحانية للحضارات القديمة في أنها لا تتغير بتغير الزمن، لأنها تعبر عن قيم مطلقة، لذلك على طالب المعرفة الروحانية أن يقوم بدراسة الميثولوجيا القديمة. ولكي نعى رموزها، علينا أحيانا أن نتخلى عن ما تعلمناه من قبل لكي نستوعب الحكمة الموجودة في تلك الميثولوجيا”.
دراسة التاريخ..
ويشرح الكتاب أهمية دراسة التاريخ القديم: “قد يتساءل القارئ: ما الذي تعنيه دراسة التاريخ القديم بالنسبة لإنسان العصر الحديث؟ ما الذي يمكن أن نتعلمه من حضارات استمرت لآلاف السنين في مصر وأثيوبيا، ثم بدأت في الأفول؟ هل نفعل ذلك لكي نعيد تكرار نفس نماذج الحضارات القديمة في عصرنا الحديث؟ أم أننا نفعل لكي نستخلص المثل والحكمة، لكي نبنى شيئا جديدا أقرب إلى الأصل وأقرب إلى الإله؟ في كلتا الحالتين، فإن دراسة النصوص القديمة والبرديات ليست كافية، لأنها مجرد خطوة أولية على طريق فهم أسرار العلوم الباطنية”.
جهل الروح..
ويواصل الكتاب: “جاء في كتاب الخروج إلى النهار “كتاب الموتى” أن “الروح” التي هي خالدة بطبيعتها تأتى إلى الأرض وتتجسد في جسد مادي لتتعلم دروسا معينة، ثم تعود إلى بيتها في عالم الروح، وهي نقية، طاهرة، لم تلوثها التجربة المادية. وفي رحلة تطورنا الروحي نمر بتجارب عديدة ما بين الفضيلة والرزيلة، حسب درجة وعينا. و درجة نقاء القلب هي التي تحدد لنا تلك التجارب التي نمر بها و تحدد أيضا النتائج التي تفضي إليها تلك التجارب.
يمر الإنسان بالعديد من تجارب التجسد، يولد ثم يموت ثم يولد ليعي حياة أخرى، ثم يموت ليولد من جديد، وهكذا. ومن خلال تجربة إعادة التجسد يحاول الإنسان أن يكتشف الحقيقة المطلقة والتي بالوصول إليها يستطيع التحرر من الألم ومن السجن داخل دائرة الموت والحياة.
إن “حجاب الجهل” هو السبب في عدم القدرة على معرفة طبيعة أرواحنا ومعرفة “الإله” وهو السبب في أننا نتعامل مع الكون وكأنه كيان منفصل عنا. عندما نصل إلى المعرفة الباطنية سنتحرر من وهم الانفصال عن الكون وعن الإله، ونتحول إلى “مستنيرين”. إلى عارفين. إلى حكماء وقديسين. ذلك هو الخلاص، وتلك هي الغاية التي تسعى إليها اليوجا المصري.
عندما تصبح الروح وهى كينونتنا الحقيقية على استعداد للعودة مرة أخرى إلى بيتها، إلى الأصل، إلى الإله، تبدأ في طرح أسئلة حول طبيعة وجودها في هذا العالم، هذه الأسئلة تشكل ضغطا وتصبح عبئا على العقل”.
البا..
ويحكي الكتاب عن البا: “تبدأ ال “با” الوعي الإلهي داخل كل فرد في تكوين ضغط على وعينا اليقظ الذي يحاول طرح إجابات عقلانية لأسئلة الروح. وسعيا للوصول إلى إجابة عن الأسئلة الروحانية، يبدأ الإنسان أيضا رحلة البحث في حكمة القدماء وفي تراث الحضارات القديمة.
وعندما ننتبه وندرك هذا الضغط الذي تقوم به ال “با” “الروح” على الوعي اليقظ، عندها سيقودنا “الحدس” إلى طريق المعرفة الروحية، وسنبدأ في التخلص من المفاهيم القديمة المادية الزائفة. إن تطهير العقل من الأفكار الزائفة يتطلب منا الكثير من الصبر. فبمرور الوقت وبممارسة التأمل و الاستبطان “مراقبة النفس”، تبدأ نظرتنا للعالم تتغير شيئا فشيئا. يبدأ اهتمامنا بالعالم المادي والنظر إليه باعتباره حقيقة مطلقة يتغير بالتدريج، ليحل محله وعى جديد يدرك وجود عالم آخر ماورائي ويرى فيه الحقيقة المطلقة. وعندما يتحقق ذلك، سنصحو من الغفلة والسبات الطويل الذي كنا فيه، وكأننا استيقظنا من حلم طويل.
والوصول إلى هذه اليقظة الروحية، هو ما يعرف ب “وعى حورس”، أو وعى بوذا أو كريشنا.
يقول المثل المصري القديم:
*إن الحقيقة المطلقة ليس لها اسم، فهي تقع في العالم الماورائي، حيث لا أسماء. ولكن الحكيم يطلق عليها “الكل””. هناك العديد من الطرق يمكن للروح أن تسلكها في سعيها للوصول إلى غايتها وتعددت الطرق والغاية واحدة، وهي “الواحد/ الكل/ الأصل” الموجود داخلنا وداخل كل شيء في الكون”.
حقيقة واحدة..
وعن وجود حقيقة واحدة فقط يضيف الكتاب: “إن هذا العالم المليء بالأشياء التي تبدو منفصلة وبالعديد من البشر والكائنات الأخرى هو في الحقيقة مجرد تجسيد لحقيقة واحدة. لكيان واحد. لعقل كوني واحد.
تتوقف درجة النضج الروحي للإنسان على درجة وعيه بتلك الحقيقة. وعندما يعيها بشكل كامل، عند ذلك يكون قد استرد الوعي الكوني، ووصل إلى التنوير أو المعرفة الروحانية.
يبدأ طريقة المعرفة الروحانية بدراسة تعاليم الحكمة القديمة، وبعد أن تستوعب القلوب ما في هذه التعاليم، تبدأ المرحلة التالية وهي تدريب القلب على التخلي، أي عدم التعلق بالعالم المادي، بحيث تحيا في العالم المادي بدون أن تحب أو تكره أشياء معينة دون غيرها، ولا تكون عندك رغبة في شيء معين دون غيره. وبمرور الوقت تبدأ في مراقبة أفعالك بحيث تأتى متناغمة ومنضبطة مع “الماعت” “النظام الكوني”، بحيث تتخلص تدريجيا من التصرف بطريقة رد الفعل الخالي من الوعي.
وبالتدريج يتعلم طالب المعرفة الروحانية كيف يسيطر على مشاعره وأفعاله، فلا يعد يتصرف من منطلق الغريزة كالحيوان، ولا من منطلق الأنا، ولا يتأثر بمدح أو ذم الآخرين، بل يسمو فوقهما.”
الاتصال بالجوهر الإلهي..
ويتابع الكتاب: “تعلمنا طرق اليوجا أن يكون وعينا متصلا طوال الوقت بالجوهر الإلهي، وأن نحيا في “الماعت”. أي نحيا في تناغم مع النظام الكوني. وعند الوصول إلى المعرفة الروحانية لا يمكن للمستنير الحقيقي أن ينظر إلى الآخرين الأقل علما باستعلاء، وإنما سيجد بقلبه عطفا وحبا شديدا لهم ورغبة في خدمتهم وليس الاستعلاء عليهم.
ومن هذا المنطلق يقدم المعلم الروحي خدماته للآخرين بكل تواضع وحب ورغبة صادقة في مساعدتهم. وعندما يصل اليوجى إلى هذه المرحلة، فإن قلبه يشهد تحولا جذرية من الوعي المادي إلى الوعي الروحي. هذا التحول في الوعي هو ما كان يرمز له المصري القديم بالجعران “خبرى.”
إن ما يقوم به طالب المعرفة الروحية يشبه ما قامت به إيزيس في الأسطورة الشهيرة عندما اعتنت بالطفل الوليد حورس “الوعي الإلهي” وقامت بتربيته في مكان بعيد بأحراش البردي بالدلتا بعيدا عن الأعين، إلى أن كبر ونضج وأصبح قادرا على محاربة عمه “ست” رمز الجهل والجشع.
وكما يحمى المزارع الشجرة الصغيرة في بداية نموها بأن يضع حولها سياجا يحميها، كذلك يجب على طالب اليوجا أن يحمى نفسه عند سيره في طريق المعرفة الروحانية بأن يقلل من تعامله مع الأشخاص ذوى الطاقة السلبية، وأن ينتقى صحبته من الأشخاص الذين يشاركونه نفس الاهتمامات الروحانية. وأن يبحث دائما عن الحكماء والمعلمين الروحيين ليأتنس بهم.”
دروب مختلفة للوعي الروحي..
وعن الطرق المختلفة للذهاب إلي الوعي الروحي يكمل الكتاب: “يقدم علم اليوجا للإنسان طرقا متعددة للوصول إلى الوعي الروحي، وبرغم تعدد تلك الطرق إلا أن هناك دائما عناصر مشتركة بينها. قد يفضل طالب اليوجا طريقا دون آخر، إلا أنه في النهاية سيجد أن الطريق الذي اختاره لا يختلف كثيرا عن الطرق الأخرى.
إن رحلة الروح إلى موطنها هي رحلة فردية تقطعها الروح وهى وحيدة.
يقول المثل المصري القديم:
“يصل الإنسان إلى الخلاص عن طريق سعيه وجهده هو، وليس عن طريق جهد أو سعى الآخرين”. إن الاعتماد على طريق واحد من طرق اليوحا يعتبر مفيدا لمرحلة مؤقتة. وعندما يصل الوعي الروحي إلى درجة النضج، كما نضج حورس في الأسطورة بفضل رعاية ايزيس وحبها، عندها سيصبح الإنسان جاهزا لخوض معركته مع الجهل والجشع والكراهية والتعلق بالعالم المادي. وهى معركة تنتهي عادة بالوصول إلى حالة من التوازن التام والتصالح بين الأضداد”.