19 ديسمبر، 2024 7:06 م

“روح التربية”.. التعرض للأخطار أحد وسائل تقوية الصغار

“روح التربية”.. التعرض للأخطار أحد وسائل تقوية الصغار

خاص: قراءة – سماح عادل

في كتاب “روح التربية” للكاتب “غوستاف لوبون” ترجمة “طه حسين” وهو كتاب قديم يتناول أسس التربية السليمة، لكن الطريف فيه أنه يقلل من شأن شعبه من الفرنسيين، في مقابل تضخيم ومبالغة في صفات وفضائل الشعب الانجليزي، فيصل إلي درجة التحيز الشديد للانجليز علي حساب شعبه واظهاره بمظهر الضعيف المتخاذل.
ونقرأ هنا “الأسس النفسية للتربية” الذي خصص لها الكتاب الفصل الثاني ليعرضها.
الأسس النفسية للتربية..
يبدأ الكتاب الحديث عن “غاية التربية”: “يتحدثون اليوم عن التربية الخلقية عند تكوين الأخلاق وإيجاد الرجال، ويتحدثون في هذا كثيرًا فيحسنون الحديث. ولكن أين الأساتذة الذين يستطيعون أن يحققوا هذه التربية فيكوِّنوا الأخلاق ويُوجِدوا الرجال؟ بل أين الأساتذة الذين يستطيعون أن يدلوا على المناهج التي توصل إلى هذه التربية؟ لقد تقرأ مجلدات التحقيق وهي ستة ضخام فلا تجد فيها من ذلك إلا أشياء عامة غير محدودة ولا واضحة، وهذا يدل على أننا نقول كثيرًا في غير طائل. ومع ذلك فقليل من الموضوعات له خطر هذا الموضوع؛ لأن التربية الصحيحة مقياس ما للأمم من قيمة، وهي بذلك أجل من التعليم خطرًا.
فإذا سألت عن قيمة الفرد ما هي وما مقياسها أجابك اللاتيني: هي ما تعلم الفرد، ومقياسها ما نال الفرد من الشهادات، ولكن الإنجليزي والأمريكي لا يحفلان بهذه الشهادات ولا بالعلم إلا قليلًا، وقيمة الفرد عندهما خلقه وشخصيته وقوته الإرادية وقدرته على الابتكار، فهو إنسان إن حصل على هذه الخلال، وهو إن حصل عليها قادر على أن يعلم في كل وقت ما هو في حاجةٍ إلى أن يعلمه، هو واثق بأنه سيكون إنسانًا.
على كل حال إن أخطأه الحظ فلم يكن شيئًا مذكورًا. فالرجل عند الإنجليز والأمريكيين قوة عاملة مبتكرة معتمدة على نفسها، وهو عند اللاتينيين شخص بيده شهادات تثبت حظه من الذاكرة، هو عند الإنجليز والأمريكيين رشيد وعند اللاتينيين قاصر أبدًا يظل طول حياته تحت سيطرة الدولة التي تمنحه الشهادات وتعين له الطريق التي يجب أن يسلكها، وترسم له الخطة التي يجب أن يتبعها في سلوك هذا الطريق.
الغاية الصحيحة للتربية إنما هي تقوية بعض الأخلاق والصفات كالشخصية والابتكار والإرادة والشعور بالتضامن ومضار العزم وما يشبه ذلك، ولا سبيل إلى تقوية هذه الصفات إلا بتمرينها ولا سيما أقلها ظهورًا عند الفرد”.
تقوية الفضائل..
وعن الحث علي تنقية الذات من الشرور: “وإذا كان الأمر كذلك فعمل التربية إنما هو تقوية الفضائل ومحاربة الرذائل. ومن هنا لم تكن التربية واحدة بالقياس إلى الشعوب كلها، فلكل شعب مزاياه التي يجب تقويتها ونقائصه التي يجب إضعافها، ولن تكون التربية واحدة بالقياس إلى الإيطالي والروسي والفرنسي والإفريقي. أما نظام الجامعة عندنا فهو لا يقاوم نقائصنا وإنما ينميها.
قليل جدٍّا حظ اللاتينيين من الشعور بالتضامن وتبادل الحب، ولكنا نتعجل فنقضي على هذا الحظ القليل بهذا النظام السيئ الممقوت، نظام المسابقة والمكافأة الذي نبذه الإنجليز والألمان منذ زمن طويل. قليل جدٍّا حظ اللاتينيين من الابتكار والقوة الشخصية، وكيف يكون لهم منهما حظ وهم خاضعون أبدًا للمراقبة؟ فكل أعمالهم منظمة محدودة معينة، ليس لهم فيها اختيار ولا ابتكار، بل ليس لهم من وقتهم ما يسمح لهم بأن يشعروا أن لهم شيئًا من الحرية. وما رأيك في أطفال يشفق عليهم آباؤهم وأساتذتهم أن يتخذوا العربة دون رقيب ليذهبوا إلى متحفٍ من المتاحف؟
حظ اللاتينيين قليل من الإرادة، وكيف يعظُم حظهم منها وهم خاضعون لسلطة الأسرة أطفالًا ولسلطة المدرسة شبانًا؟ فإذا بلغوا سن الرجال أسرعوا إلى حماية الدولة فطلبوها وتهالكوا عليها.
حظهم من التسامح قليل، وكيف يعظُم حظهم منه وهم لا يشعرون من حولهم إلا بالتعصب في كل شيء؟ تعصب في الدين وتعصب في التعليم، فهم مترددون بين التعصب الديني وبين التعصب الثوري، وليس من حولهم ما يحبب إليهم حرية الرأي؛ فأساتذة الجامعة وأساتذة المدارس الدينية لا يضمر بعضهم لبعض إلا بغضًا وحقدًا وازدراءً، وما بهذه الطريقة يستطيع الأساتذة في الجامعة أو في المدارس الدينية أن يصلوا بتلاميذهم إلى هذا الجو الطلق، جو البحث العلمي الصحيح”.
التعصب..
ويذكر الكتاب عن التعصب: “ولقد يظهر أن التعصب أشد عيوب الأمم اللاتينية، وأنه سينتهي بها إلى الانحطاط الذي ليس دونه انحطاط، لقد فقدت إسبانيا مستعمراتها كافة فلم يمنعها ذلك أن تمضي في خلافها الديني. ويظهر مثل ذلك في إيطاليا ومثله في فرنسا. ولعل هذا العيب يفسر ما نشهد من أن هذه الأمم اللاتينية التي كانت على رأس الأمم المتحضرة قد أخذت تنحط عن مكانتها، فإذا أصابها الانحطاط الشديد فسيكون لأساتذة الجامعة وأساتذة المدارس الدينية من التأثير فيه حظ عظيم”.
المناهج النفسية للتربية..
ويضيف الكتاب عن المناهج النفسية في مجال التربية: “الأمر في التربية كالأمر في التعليم، يجب أن يستحيل الشعوري إلى لاشعوري، وربما كان ذلك أظهر في التربية منه في التعليم؛ فإن الأخلاق لا تُكسب بالمنطق أو البحث النظري وإنما تكسب بالتمرين والتدريب. ومن هذه الأخلاق ما هو وراثي وهي أخلاق الشعوب، فهذه الأخلاق محتاجة إلى قرون لتُكسب، وأثر التربية فيها قليل، ولكن التربية مع ذلك تستطيع أن تقويها وتنميها. ولقد يحتاج المربي إلى كتبٍ مفصلة في تطبيق هذه النظرية التجريبية دائمًا التي تنال التربية والتعليم معًا، ولكني أكتفي بأمثالٍ قليلة
سهلة:
تنمية الملاحظة والدقة: هاتان خصلتان تشتد الحاجة إليهما في كل وقتٍ وتقل العناية من الناس من يذهب مفتوح العينين ولكنه لا يرى شيئًا بهما دائمًا، حتى قال بلاكي: “وغريب جدٍّا أن نحدق ولا نرى؛ ذلك لأن أعيننا قد تعودت النظر في الكتب لا في غيرها ففقدت القدرة على تحقيق العناية التي وجدت من أجلها، فلننظر إذن إلى التعليم الأولي الذي يعلم الطفل أن ينظر فيرى، وينبها إلى ما يمكن أن يفوته لننظر إليه كأنه التعليم الصحيح”.
أتظن أن هناك حاجة إلى طرق غريبة يجب اتخاذها لتربية الملاحظة والدقة؟ كلا! يجب أن تتخذ طريقة سهلة ولكنها مجهولة، يجب أن يُنتفع بأوقات الرياضة التي يقضيها التلاميذ متنزهين، فيؤخذ التلميذ بأن ينظر جيدًا ويرى جيدًا ويصف ما نظر ورأى وصفًا دقيقًا بقدر الاستطاعة، وليس يجب أن يؤخذ التلميذ بأن ينظر كل شيء فيراه ويصفه، وإنما يجب أن ينبه التلميذ إلى شيء صغير كنافذة من النوافذ أو شكل عربة من العربات أو جزء من النافذة أو جزء من العربة، فإذا مضى أسبوع على هذا النحو من التمرين، ثم سألت التلميذ أن يصف ما رأى، دُهشت لما تجد من دقة لم تكن تنتظرها، وما تزال تنتقل به في هذا السلم قليلًا قليلًا حتى تصل به إلى أن يرى إجمالًا ما كان يرى تفصيلًا.
وهنا تستطيع أن تستغني عن دروس الإنشاء الفارغة السخيفة التي يصف فيها التلميذ زوابع لم يرها ومعارك وقعت بين أبطالٍ لم يسمع عنهم إلا في الكتب، تستطيع أن تستغني عن هذا الإنشاء، وتكلف التلميذ أن يصف ما رأى وصفًا دقيقًا بقدر الاستطاعة، وأن يقدم لك إلى جانب هذا الوصف صورة مجملة، ليس يعنينا منها القسم الفني وإنما تعنينا منها الدقة وحسن الملاحظة، هنالك يشعر التلميذ بضعف ملاحظته وقلة حظه من الدقة، وهناك يشعر بالحاجة إلى أن يعيد الملاحظة والتحديق فيما رأى ووصف، فقد يخيل إلينا حين نمر مرات متعددة أمام شيءٍ من الأشياء أننا قد أحسنا علمه وأتقناه، حتى إذا أردنا أن نعيد ما علمنا في وصف أو رسم عرفنا أن قد كان علمنا ناقصًا نقصًا شديدًا. فلا بد إذن من إعادة النظر والملاحظة والوصف”.
الملاحظة..
وشدد الكتاب علي الاهتمام بالملاحظة والوصف: “هذه طريقة سهلة ولكن أساتذة الجامعة يجهلونها الجهل كله، ولقد رأيت في بلدٍ من بلاد أوروبا عجيب طائفة من تلاميذ مدرسة المعلمين، فلاحظتهم فإذا هم لا ينقلون إلى ما حولهم ولا يدرسون هذا البلد درسًا قائمًا على الملاحظة، وإنما يدرسونه في الكتب ويبحثون عن آراء رآها غيرهم فيه من قبل ليستعيروها دون أن يكوِّنوا لأنفسهم منها رأيٍّا خاصٍّا.
تنمية الميل إلى النظام والتضامن وقوة الحكم وما يشبهها: هذه الخلال من أشد الأشياء لزومًا في الحياة؛ ولهذا عُني بها الإنجليز عناية شديدة فنمَّوها في نفوس الشبان بواسطة الألعاب التي يسمونها ألعابًا مربية، والتي لا أتعرض لوصفها في هذا الكتاب؛ لأنها خطرة شاقة، فلن يرضى عنها الفرنسيون الذين يحبون أبناءهم ويشفقون عليهم من الخطر إشفاقًا شديدًا. فكلنا يعلم أن الأسر الفرنسية تكره أن يتعرض أبناؤها للعنف والخطر، وأن المحاكم قد جعلت مدير المدرسة مسئولًا عما يمكن أن ينال التلميذ من شر”.
تفضيل التعرض للخطر..
ويمجد الكتاب من التعرض للأخطار: “وإذن فلن يرضى الآباء ولا الأساتذة عن مثل هذه الألعاب، فلا فائدة من تفصيلها، ومع ذلك فأثرها في التربية عظيم؛ لأنها تبعث في نفس الطالب الشعور بالقوة والتبعة والتضامن، وما إليها من الصفات التي ضمنت للإنجليز السيادة. ويكفي أن أدلل على ما بيننا وبين الإنجليز من فرقٍ بمَثلٍ ذكرته في بعض كتبي فدُهش له كثير من الناس: إذا استبق الإنجليز والفرنسيون في لعب الكرة كان الفوز للإنجليز دائمًا؛ لأن الشاب الإنجليزي أثناء اللعب يحرص لا على أن يفوز هو، بل على أن تفوز جماعته، فإذا أحس أن الحظ سيحول بينه وبين أن ينال الكرة أعان رفيقه على أن ينالها، بينما الشاب الفرنسي لا يفكر إلا في نفسه فإما أن يفوز هو وإما ألا يفوز أحد، فإذا أخطأه الحظ لم يعن رفاقه ولم يفكر في إعانتهم؛ لأنه لا يشعر بهذا التضامن وإنما يشعر بنفسه ليس غير؛ ولهذا الخلق أثره في حياتنا العامة.
فالفرنسي آثر شديد الأثرة في جميع أطوال حياته، وقد جرَّ علينا هذا الخُلُق مصائب وآثامًا ما نزال نذكر بعضها في الحرب الأخيرة. هذه الألعاب التي لا نقدرها ويقدرها الإنجليز تكوِّن في نفوس الشبان خُلقًا جليل الخطر يَكلَف به الإنجليز كلفًا شديدًا وهو ضبط النفس، يكلَفون به كلفًا شديدًا حتى إن أحدهم إذا شعر بضعف هذا الخُلق عنده تكلَّف الخطر وتجشَّمَ الهول لتنميته وتقويته. ولقد رأيت ضابطًا إنجليزيٍّا في إقليم من أقاليم الهند الوسطى موبوء تنتشر فيه الأفاعي والحيوانات المفترسة بحيث يتعرض من خرج وحده أثناء الليل لضروب الهلاك، رأيت هذا الضابط ذات ليلة يخرج من الفندق وقد آوى الناس إلى مساكنهم، فسألته أين يذهب وحده في هذا الإقليم الخطير؟ فأجاب في خجلٍ احمر له وجهه إنه يشعر بضعف قدرته على ضبط النفس، فهو يخرج؛ ليكتسب هذا الخلق، وقد عرفت بعد ذلك أنه كان يخرج ليكمن للنمر في مخبأ بعيد ليس من الممكن أن تناله فيه المعونة، وهذا خطر جدٍّا فقد يمكث الكامن فيه ساعات وربما مكث الليلة كلها دون أن يرى شيئًا، ولكنه قد يرى النمر وهو ملزم أن يتحدث إلى نفسه طول كمونه بما ينتظره من الخطر وأن يستعد له، فإذا أقبل النمر وجب على الكامن أن يكون من حضور الذهن ورباطة الجأش بحيث يستطيع أن يصوب النار إلى رأس النمر فيقتله في ثانيتين أو ثلاث؛ لأنه إن أخطأه أو جرحه فهو مقتول لا محالة. بهذا التعرض للخطر يُكوِّن الإنجليز مزاياهم الخُلقية، وبهذه المزايا يسودون العالم”.
تنمية الإرادة..
ويتابع الكتاب: “تنمية الإرادة ومضاء العزم: مثل هذين الخُلقين وراثي في أكثر الأحيان، ومع ذلك فتستطيع التربية إلى أن تنميه قليلًا أو كثيرًا، وليس إلى ذلك من سبيلٍ إلا أن يوضع التلميذ غالبًا في مراكز تضطره إلى أن يعزم ويمضي عزمه دون أن يَهِن أو يَضعُف.
عن الشاعر وردوث بلاكي أنه اعتزم ذات يوم أن يصعد في الجبل فاعترضته زوبعة، ولكنه لم يعدل عن عزمه، معلنًا أن تغيير الرجل رأيه فيما اعتزم لأن عائقًا عرض له، لا يخلو من خطر على الأخلاق. يعجب الإنجليز بذوي الإرادة والعزائم الماضية، فيحبونهم ويكرمونهم مهما تكن جنسيتهم، ولقد خطب فذكر هذا الخُلق عند الإنجليز، في مدرسة إبسوم اللورد روسبري وذكر تكريمهم للرجل من حيث هو رجل مهما تكن أمته أو شعبه، ومهما تكن صلة المودة أو العداوة بينهم وبين هذه الأمة.
ذكر إعجاب الإنجليز بالكلونيل مرشان الذي تكلف الأهوال في سياحة إفريقية دامت ثلاث سنين، وعرَّضت السائح وأصحابه لأخطارٍ مختلفة متنوعة. وذكر إعجاب الإنجليز لأنه رجل حقٍّا.
خُلق الإرادة ومَضَاء العزم يَنقص اللاتينيين كثيرًا، وهم مع ذلك في أشد الحاجة إليه، فلولا ضعف هذا الخلق في أنفس الفرنسيين لما كانت الهزيمة الأخيرة، فقد كان لدينا جيش لا ينقصه الشجاعة ولا الذكاء، وإنما كانت تنقصه الإرادة ومضاء العزم والقدرة على الابتكار والاعتماد على النفس. فكان رؤساء الجيش على اختلاف طبقاتهم ضعافًا مترددين، بينما كان رؤساء الألمان من القوة الخلقية ومضاء العزيمة والاعتماد على النفس، بحيث كان كل واحد منهم يُقدِم على الشيء شاعرًا بخطر ما يُقدم عليه.
فلا بد إذن من تربية هذا الخُلق في أنفسنا، والسبيل إلى ذلك كما قلنا هو أن يوضع التلميذ غالبًا بحيث يحتاج إلى أن يعزم وحده، فإذا عزم مضى في عزمه حتى أتمه كله”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة