19 ديسمبر، 2024 9:00 م

قصة الحضارة (145): الشعر في اليابان كالبذرة تنبت من قلب الإنسان

قصة الحضارة (145): الشعر في اليابان كالبذرة تنبت من قلب الإنسان

خاص: قراءة- سماح عادل

يحكي الكتاب عن الفكر والأدب في الحضارة اليابانية القديمة وعن الكتابة والتعليم وكيف كانا ترفا لا ينالهما إلا الأغنياء، وعن الشعر الياباني وعذوبته. وذلك في الحلقة الثانية والأربعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الفكر والفن في اليابان القديمة..

يحكي الكتاب عن الفن والفكر في الحضارة اليابانية القديمة: “كان اليابانيون قد استعاروا طرائق الكتابة وأساليب التعليم من أولئك الصينيين الذين جعلوا يتهمونهم بالهمجية لكن اللغة كانت يابانية خالصة، وأرجح الظن أنها كانت لغة منغولية قريبة الشبه باللغة الكورية، لكنها لم تكن مشتقة من اللغة الكورية أو غيرها مما نعرف من لغات، اشتقاقاً يقوم على صحته البرهان القاطع، واللغة اليابانية تختلف عن اللغة الصينية بنوع خاص في كثرة مقاطعها واتصال أجزائها رغم بساطتها؛ فليس فيها أحرف حلقية ولا أحرف تخرج مع هواء التنفس ولا سواكن في أواخر الكلمات ما عدا حرف ن.
وتكاد كل حروف المد فيها أن تكون منغَّمة طويلة، ونحوها كذلك طبيعي وسهل، فقد استغنت في الأسماء عن التمييز العددي بين المفرد والجمع، كما استغنت عن التمييز الجنسي بين المذكر والمؤنث؛ كذلك استغنت في الصفات عن درجات التفضيل، وفي الأمثال استغنت عن التصاريف التي تدل على ضمير من قام بالفعل؛ وضمائر المتكلم والمخاطب والغائب فيها قليلة العدد، وليس فيها أسماء للوصل على الإطلاق؛ لكنها من جهة أخرى تحتوي على تصاريف تتغير بها الصفات والأفعال تبعاً للنفي ولصيغة
الفعل في حالة الأمر مثلاً أو غيره، وهم يستعملون بدل أحرف الجر التي تسبق الكلمات المجرورة، أحرفاً تأتي بعد الكلمات لتحدد المقطع الأخير من الكلمة وفي ذلك ما فيه من مشقة وعناء، وحلت عندهم عبارات تكريمية معقدة، مثل “خادمك المطيع” و”سعادتكم” محل ضمائر المتكلم والمخاطب”.

اللغة اليابانية..

ويفصل أكثر عن اللغة اليابانية: “وقد استغنت اللغة فيما يظهر حتى عن الكتابة، إلى أن جاءها الكوريون والصينيون بهذا الفن في القرون الأولى بعد ميلاد المسيح، ومنذ ذلك الحين، اكتفى اليابانيون مدى مئات من السنين بطريقة الكتابة التي شاعت في “المملكة الوسطى” ليبعدوا بها عن كلامهم الذي يشبه في جماله لغة الإيطاليين؛ ولما كان حتماً عليهم أن يستخدموا حرفاً كاملاً من حروف الخط الصيني ليدل على كل مقطع من كل كلمة يابانية، فقد أصبحت الكتابة اليابانية في عصر “نارا” أعسر ضروب الكتابة التي عرفها الإنسان تقريباً.
ثم حدث في القرن التاسع أن سن قانون يعمل على الاقتصاد في هذا الاتجاه، بأن يحدد كثيراً من الإشكالات اللغوية، فأراح هذا القانون أهل اليابان بما قدمه إليهم من صور الكتابة المبسطة، إذ قدم إليهم صورتين كل منهما يستعمل حرفاً صينياً، بعد اختصاره في صورة خطية منحنية، ليمثل مقطعاً من المقاطع السبعة والأربعين التي منها يتألف الكلام المنطوق عند اليابانيين؛ وهذه الأشكال التي تمثل السبعة والأربعين مقطعاً، حلت عندهم محل أحرف الهجاء”.

الأدب الياباني..

وعن معضلة التعرف علي الأدب الياباني: “ولما كان شطر كبير من الأدب الياباني مكتوباً بالصينية، ومعظم بقيته ليس مكتوباً بالكتابة المقطعية الشائعة، بل هو مزيج من الأحرف الصينية وأحرف الهجاء اليابانية، كان من المتعذر إلا على القليلين من العلماء الغربيين أن يتمكنوا من الأدب الياباني في أصوله؛ فنتج عن ذلك أن أصبح علمنا بالأدب الياباني لا يتجاوز قطعاً متناثرة من هنا وهناك، ولذا فهو علم يخدعنا عن الأصل، ويستحيل أن يكون حكمنا على ذلك الأدب ذا قيمة كبيرة، ولما وجد اليسوعيون أن حوائل اللغة تقف في وجوههم سدوداً منيعة، قرروا أن لغة تلك الجزر قد صاغها الشيطان ليمنع نشر تعاليم الكتاب المقدس (الإنجيل) في بلاد اليابان” .

ترف الكتابة..

وعن الكتابة باعتبارها ترف يواصل الكتاب: “لبثت الكتابة أمداً طويلاً بمثابة الترف يستمتع به أبناء الطبقات الرفيعة، ولم يبذل أي مجهود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر في سبيل نشرها بين طبقات الشعب؛ ففي عصر “كيوتو” أقام الأغنياء مدارس لأبنائهم، كما أنشأ الإمبراطوران “تنشي” و “مومو” في بداية القرن الثامن في كيوتو، أول جامعة يابانية؛ ثم نشأت مجموعة من المدارس الإقليمية شيئاً فشيئاً، تحت رقابة الحكومة، كان من حق متخرجيها أن يلتحقوا بالجامعة، ثم كان من حق من تخرج في الجامعة بعد اجتياز الامتحان المطلوب، أن يشغل مناصب الدولة؛ لكن جاءت الحرب الأهلية في الشطر الأول من العهد الإقطاعي، فأوقفت هذا التقدم في ميدان التعليم؛ وأهملت اليابان فنون العقل حتى أسعفتها الحكومة العسكرية التي قامت عليها أسرة “توكوجاوا” بأن أعادت السلام وشجعت العلم والأدب؛ وقد عدها “أيياسو” سبة فظيعة أن يجد تسعين في كل مائة من طائفة “السيافين” لا يعرفون القراءة أو الكتابة.

وفي سنة 1630 أنشأ “هياشي رازان” في “ييدو” مدرسة تخرج المعلمين في إدارة البلاد وفي الفلسفة الكونفوشيوسية، ولقد تطورت هذه المدرسة فيما بعد وأصبحت هي جامعة طوكيو؛ وكذلك أسس “كومازاوا” سنة 1666 في “شيزوتاني” أول كلية في الأقاليم، وأجازت الحكومة للمعلمين أن يلبسوا السيوف، فينافسوا طائفة “السيافين” في منزلتهم الاجتماعية، وبهذا شجعت طلاب العلم والباحثين والكهنة أن يقيموا مدارس خاصة في المنازل والمعابد لتعلم الناس تعليماً أولياً؛ وبلغ هذا الضرب من المدارس ثمانمائة سنة 1750، يتعلم فيها ما يقرب من أربعين ألفاً من الطلاب، وكانت كل هذه المعاهد من أجل أبناء “السيافين” أما التجار والفلاحون، فكان لا بد لهم أن يقنعوا بمحاضرات عامة، ولم يكن يتعلم من النساء على نحو منظم إلا الفتيات، ولم يتسع التعليم بحيث يشمل الجميع إلا حين مست الضرورة ودعت الحاجة بتأثير الحياة الصناعية وهي في ذلك شبيهة بأوربا”.

الشعر..

وعن الشعر الياباني يحكي الكتاب: “أقدم ما وصل إلينا من الأدب الياباني هو الشعر، وأقدم الشعر الياباني هو خير شعر اليابان إطلاقاً في رأي أصحاب العلم من أهل اليابان أنفسهم؛ ومن أقدم وأشهر الكتب اليابانية، كتاب الـ “مانيوشو” ومعناها “كتاب العشرة آلاف ورقة” وهو عشرون مجلداً، جمع فيها ناشران للكتاب أربعة آلاف وخمسمائة قصيدة، نظمها الشعراء خلال الأربعة القرون السالفة، وفيها تجد على الأخص شعر “هيتومارو” وشعر “أكاهيتو”، وهما الشاعران الرئيسيان اللذان ازدهر فيها الشعر في عصر “نارا”، ومن شعر “هيتومارو” هذه الأسطر الموجزة التالية التي كتبها يرثي بها حبيبته حين ماتت وتصاعد الدخان من جثمانها المحترق إلى شعاب التلال:

أواه؟ أهذه السحابة هي حبيبتي؟

هذه السحابة التي تجوب في الوهد العميق

الذي يتخلل جبل هاتسوزو المنعزل؟

ولقد حاول الإمبراطور “دايجو” محاولة أخرى ليحفظ الشعر الياباني من أيدي الفناء، فجمع ألفاً ومائة قصيدة نُظمت خلال القرن والنصف قرن الماضيين؛ فجمعها في ديوان مشترك أطلق عليه اسم “كوكنشو”، ومعناها “قصائد قديمة وحديثة”، وكان مساعده الأيمن في هذا العمل “تسورايوكي” الشاعر الظالم الذي كتب مقدمة للديوان، هي لنا أمتع من المقطوعات التي جاء لنا بها ربة الشعر عندهم، التي توجز القول إيجازاً قال في تلك المقدمة:

“الشعر في اليابان كالبذرة، تنبت من قلب الإنسان فتورق من اللغة أوراقاً لا حصر لعددها. ففي هذا العالم المليء بالأشياء، ترى الإنسان مجاهداً في سبيل ألفاظ يعبر بها عن الانطباع الذي تركته المرئيات والمسموعات في قلبه. وهكذا حدث لقلب الإنسان أن وجد التعبير المنشود في ألفاظ تمتعه، وجدها في جمال الزهر، وفي إعجابه بتغريد الطير، وفي حسن استقباله للضباب الذي يغسل بِنَدَاه سهول الأرض، كما وجدها في حزنه الذي شاطر به العطف على ندى الصباح السريع الزوال. لقد اهتز الشعراء إلى قرض الشعر كلما رأوا البطاح بيضاء برذاذ الثلج الذي يتناثر من زهرات الكريز الساقطة في أصباح الربيع، أو سمعوا في أمسيات الخريف حفيف الأوراق وهي تتساقط أو كلما رأوا مشاهد الأيام المؤلمة البشعة تنعكس أمام أعينهم على مرآة الحوادث عاماً بعد عام. أو كلما أخذتهم الرعدة حينما رأوا قطرة الندى الزائلة ترتعش على الكلأ المزدان بلآلئه”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة