(مدن الهلاك والشاهدان) أنموذجا
لم اعرف لماذا كانت مجتمعاتنا تحتفي بكل هذه التقاليد والطقوس ؟لماذا كان العرف والشرع يقصي القانون ،والعيب والحرام أقوى من الحقيقة،والتغيير والتجديد خيانة ، والخوف بابا مغلقا على ضحاياه ؟كل هذه الأسئلة تسعى هذه القراءة لكشفها او تحاول الإجابة عنها عبر نصوص علاء مشذوب ((مدن الهلاك والشاهدان ))حيث تشكل هذه النصوص مناخا وواقعا أسطوريا وثقافيا بامتياز حيث تكشف هذه النصوص عن بنية ثقافية تتخذ من الصراع مابين المقدس والمدنس حاضرة دائمة في حياة البشر فالمعبد الكبير في (مدن الهلاك) يتوسط المكان والنقوش الطينية والرسوم و شجرة التفاح و الأفاعي ترتبط كلها باللاوعي الجمعي والأسطوري لشعوبنا تكون بمثابة رموز ونواميس مقدسة وخالدة و الخروج على هذا الناموس المقدس هو تدنيس لهذا المقدس أما في( الشاهدان )فرغم اختلاف المشهد إلا انه يحمل نفس الشحنة الروحية والأسطورية المقدسة التي يحملها المعبد في مدن الهلاك ، فكربلاء بما تحمله من ارث ديني وثقافي لطائفة معينة تشكل عبر تاريخها الطويل تيار ممانعة لثقافة السلطة الحاكمة والتي طالما كانت بيد طائفة مختلفة تقمع كل من يحاول التمرد على السلطة او فرض ثقافة دينية مختلفة ،ليتحول الصراع بين المقدس والمدنس الى ثيمة أساسيه في النص كاشفتا في الوقت ذاته عن ميل لاشعوري للكاتب يتضح كحنين وتقديس لهذا المكان بوصفه ((هوية )) أو ارث ثقافي والذي يتحول الى انفصال روحي عند تهديده بهويات أخرى . حيث يتكشف ذلك الحنين عن لسان الراوي الذي يوصف المكان ويرسمه كمقدس ((اما كربلاء ذلك المكان الذي ورث القداسة منذ ألاف السنين وختم بالحسين ومازال على محرابه يذبح الآلاف …الخ )). تعتمد هذه النصوص على رؤية تاريخية وأسطورية تسعى لكشف الصراع الوجودي مع قوة الطبيعة . صراع مع المدينة وصراع مع آليات القمع وسلطة التابوات والقيم والأعراف التي تخلق مقدسات أكثر أبوية وتسلط ( بداويه)، فالمجتمعات البدائية والبدوية هي وحدها المحكومة ببنية ( بداويه ) تعتمد نظام القرابة المغلق والحضور الطقسي المقدس كأنساق ثقافية ثابتة . إن المرجعية التي تربط النص بمجتمعه وعالمه ومكانه هي مرجعية ثقافية تعبر عن نزوع تشكيل المقدس أو الثابت كدال في العلاقات التي تربط النصوص بعضها ببعض، وهذا الفهم للعلاقات بين العالم والمكان والحيز الثقافي والاجتماعي يعيدنا الى قراءة( لفي شتراوس )للمجتمعات البدائية والأساطير والتي تعتمد الكشف عن بنية العلاقات التي توحد بين جميع هذه المجتمعات و أساطيرها والتي ينبثق منها اللاوعي في الوعي ، فاقتراف الخطيئة ضد المقدس أو عصيان أوامره يستدعي النفي او الإقصاء كبنية لا شعورية جاهزة لدى هذه المجتمعات ، ((يعاقب هرقل لقتله الحيوان نصفه طائر ونصفه ارضي يعود لفتاة أبواها أصاحب المعبد فيحكم عليه بالنفي خارج المعبد ومصادرة نصف أملاكه عبر إحالة واضحة للقصة ادم وحواء والخطيئة التي أدت إلى خروجهما من الجنة ذلك الخروج المرتبط بالخطيئة الأولى كما روته لنا كتبنا المقدسة ويتكرر المشهد في (الشاهدان )حيث اعتداء إسماعيل على احد الضباط يحكم على العائلة ياسين بالهروب أو الخروج إلى العاصمة فيصبح الزمان هو الشاهد على المدن ومصائره ،لتبدأ عقدة الشعور بالذنب المحكومة بخطيئة الجد الأول والتي يحاول الكاتب فرضها كحتمية تاريخية مرتبطة باللاوعي التاريخي فدمار مصائر إبطال علاء مشذوب يكون كنتيجة للخطيئة الأولى والتي لا يمكن التكفير عنها إلا بطقوس الاسترضاء عن ذنب الأجداد فالخطيئة في المجتمعات المقدسة تقتضي التكفير عنها بطقوس جماعية لتتحول هذه الطقوس كبنية أساسية في جميع الإحداث كعهد او ناموس مقدس بين الإنسان و السلطة كدلالة اجتماعية وثقافية، ومن ينقض هذا الناموس تحل علية أللعنة ولا يتم هذا الاسترضاء إلا عبر عقد اجتماعي مقدس وهو الزواج الذي طالما شكل بنية أسطورية جاهزة لسترضاء المقدس، فزواج هرقل من ابنتا المزارع هي عودة للتصالح مع السلطة رغم عدم تعود هرقل الرضوخ إلى هذه السلطة ،وكذلك في الشاهدان يتزوج ياسين من امرأة (هي اقرب الى الراهبة منها الى المرأة العادية ) لكن ورغم كل محاولات الاسترضاء تبقى اللعنات تحيط مصير إبطال علاء مشذوب ففي مدن الهلاك لم يفلح هرقل الجد إن يرفع اللعنة عن أبنائه اما في الشاهدان تعتكف عائلة ياسين في دار أبيهم وهم مثقلون بالديون والعذابات لتتحول الخطيئة إلى حتمية تاريخية. أن هذا التمازج الأسطوري بين الروايتين يكشف عن بناء النص نفسه ففي النص يكاد يكون المؤلف هو الراوي والسارد والكاتب والشاهد على الإحداث من خارجها بإحساس لا يختلف عمن يشاهدها من داخلها ليختلط لدى الروائي الذاتي والموضوعي والأحادي والشمولي لأنه هيمن على الرواية وشخصياتها مما خفف من وعي الذات لدى الإبطال و افقد النص الحدث المفاجئة وبالتالي يصبح الصراع مابين المقدس والمدنس صراع محسوم سلفا للمقدس على المدنس هو الحدث الفعلي الذي يجترئ علية فعل ألحكي ،كاشفا عن بعد فكري( بداوي ) يرتكز علية النص يتضح في ميل لاشعوري لفرض نسق بدائي مقدس+بدوي سلطوي حيث يطغى الأبوي البدوي والتعبدي البدائي على جميع مفاصل الحدث داخل النصوص والتي لم يستطع الكاتب من توظيفها جيدا وإنما لامسها من بعيد عبرا بطال رواياته رغم تهميش دورهم الحقيقي داخل النص وعدم فاعليتهم في فرض واقعا جديد ، كاشفا في نفس الوقت عن نزوع ثقافي يقف بالضد من ثقافة التغير والتجديد وهو جوهر الصراع اليوم
ففي مجتمعنا العراقي لازلت العائلة العراقية تعيش هذا النزوع البداوي المرتبط بالغيبي والتبريري المقدس ، فلا احد يحلم بالخروج على الملك او عن الناموس او العرف الاجتماعي .