ظاهرة الحرارة المناخية لم تفارق بلاد الرافدين منذ القدم , ولعلها من أهم اسباب انشاء الجنائن المعلقة كما ذكرها المؤرخون , فقد نسبت حدائق بابل المعلقة إلى الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني – الذي حكم بين العامين 562 و605 قبل الميلاد – وذكر بأن سبب بنائها هو إرضاء زوجته الفارسية ملكة بابل والتي كانت ابنة أحد قادة الجيوش الايرانية التي تحالفت مع أبيه، والذي بذل الجهد الكبير في قهر الآشوريين … ؛ وكانت تدعى اميتس الميدونية والتي افتقدت المعيشة في تلال بلاد فارس وكانت تكره العيش في أرض بابل المسطحة , ولم تستطع تحمل الاجواء الحارة في بابل وقتذاك ؛ فضلا عن ان الفرق بين مناخ بلاد فارس ومناخ بابل كان كبيرا ؛ لذلك قرر نبوخذ نصر أن يسكنها في مبنى فوق تل مصنوعة بأيدي الرجال، وعلى شكل حدائق ناظرة ؛ الا ان نوعية الحرارة وكذلك درجاتها في القرون والعقود المنصرمة تختلف اختلافا كبيرا عن الحالة المناخية الان ؛ فقد كانت بلاد الرافدين مليئة بالأشجار والنخيل والمراعي الخضراء فضلا عن الانهار والروافد المائية الكثيرة والاهوار وينابيع وعيون الجبال , فالرياح عندما تهب تحمل معها رطوبة المياه وعطر الازهار , وكل العراقيين يتذكرون جيدا , ان الماء كان يبرد في انية ( الحب ) الفخارية , والرقي يبرد بمجرد وضعه على السطح وملامسته للهواء ؛ فضلا عن انتشار الظلال في كل مكان والذي يجنب العراقي من التعرض المباشر لأشعة الشمس اللاهبة .
وبمرور الايام وتقدم بني البشر ؛ تتسبب الأنشطة البشرية المختلفة في ارتفاع متزايد في درجة الاحترار العالمي ، ومن بين العواقب المترتبة على ذلك : موجات الحرّ الأكثر شدّة ؛ ومن المرجح أن تتفاقم الأمور يوما بعد يوم , وأصبح من المؤكد أنَّ ظاهرة الاحتباس الحراري تجاوزت 1.5 درجة مئوية خلال فترة 12 شهراً بين فبراير 2023 ويناير 2024، ويأتي ذلك بعد إعلان 2023 العام الأعلى حرارةً في التاريخ… ؛ وتأتي الزيادة في درجات الحرارة بسبب تغير المناخ الناجم عن الأنشطة البشرية، وعززتها ظاهرة النينيو المناخية الطبيعية، وهي ظاهرة مناخية واسعة النطاق تنطوي على تقلب درجات حرارة المحيطات في وسط وشرق المحيط الهادئ الاستوائي، إلى جانب التغيرات التي تطرأ على الغلاف الجوي العلوي .
فقد اصبح العالم اكثر سخونة وحرارة بعد عصر الصناعة , بل لا توجد مقارنة بين عصر ما قبل الصناعة البشرية وما بعدها , اذ ان هذا التغير السلبي في المناخ ؛ نتج عن النشاط البشري، وبشكل رئيسي بسبب الاستخدام الكبير للوقود الأحفوري – الفحم والنفط والغاز – في المنازل والمصانع ووسائل النقل ؛ فعندما يحترق الوقود الأحفوري، فإنه يطلق الغازات الدفيئة، ومعظمها ثاني أكسيد الكربون (CO2)، ما يحبس طاقة إضافية في الغلاف الجوي بالقرب من سطح الأرض، والذي بدوره يؤدي إلى ارتفاع حرارة الكوكب.
والعراق كالعادة له حصة الاسد في كل خراب ودمار ( فهو بكل عزه لطام ) فالبلاد قد تصل إلى مرحلة “الغليان” ؛ والحرارة فيها تهدد كل شيء , وقد تصدرت مدن العراق في الكثير من الاوقات قائمة المدن الاكثر حرارة , اذ تعتبر بعض المدن العراقية من المناطق العشر الأكثر سخونة في العالم لاسيما في الاعوام الاخيرة , وسجلت تسع مدن عراقية في قائمة أكثر 10 مدن حرارة في العالم، بينما كانت 13 مدينة عراقية في قائمة أكثر 15 مدينة حرارة في العالم، التي يعدها موقع Eldorado Weather… ؛ فالعراق وكما صرحت الأمم المتحدة : واحد من الدول الخمس في العالم الأكثر تأثرا بآثار تغير المناخ … ؛ وقد حذّر المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة فولكر تورك من أن ما يشهده العراق من جفاف وارتفاع في درجات الحرارة هو بمثابة “إنذار” للعالم أجمع، وفقا لفرانس برس… ؛ واستعاد تورك تعبيراً استخدمه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ، حيث قال إن العالم قد دخل في “عصر الغليان”، مضيفاً أنه “هنا (في العراق)، نعيش ذلك، ونراه كلّ يوم”… ؛ ومن أهم اسباب التلوث البيئي والتغير المناخي في بلاد الرافدين ؛ كمية الاسلحة المحرمة وغيرها التي القيت عليه خلال الحروب والنزاعات العسكرية , بالإضافة الى الانبعاثات الكربونية والغازية الناتجة عن الصناعات النفطية وغيرها , وانتشار ثاني اوكسيد الكربون في الاجواء بسبب الكثرة الكاثرة من تشغيل محركات المولدات الكهربائية الاهلية والسيارات والاليات , وكذلك تجريف الاراضي الزراعية وتمدد الجفاف والتصحر , وتجفيف الاهوار وقلة الموارد المائية فقد عملت دول الجوار على خنق العراق من خلال قطع الانهار والروافد او تقليل حصة العراق منها , فضلا عن تلوث المياه , و ضعف الاهتمام بتشجير المدن وتطوير خطط الزراعة والري ومكافحة التصحر … الخ .
الارتفاع الكبير في درجات الحرارة والتغير المناخي دفع العراقيين إلى تغير نمط حياتهم ، إذ باتت مهن عدة تغير نظام عملها من ساعات النهار الحارة إلى ساعات الصباح الأولى ؛ وطالما لقي الكسبة والعمال حتفهم بسبب ضربات الشمس وارتفاع درجات الحرارة حتى الحيوانات في حديقة الزوراء هلكت بسبب الحر , و قد عزف العراقيون عن العمل في ساعات النهار الحارة وتحت اشعة الشمس كما كانوا يفعلون ايام الحصار في عهد النظام البائد , مما تسبب بارتفاع معدلات البطالة والفقر , ويقول الخبير الاقتصادي علي المعموري لموقع “الحرة” : أن موجات الحرارة والجفاف التي تضرب العراق باستمرار دمرت القطاع الزراعي وتسببت بأضرار كبيرة للقطاعات الأخرى … ؛ ويضيف المعموري : أن “قطاع البناء والإسكان تضرر كثيرا، فيما ارتفعت أسعار الخدمات بسبب ارتفاع الحرارة، ويؤدي الطلب الزائد على الكهرباء الشحيحة أساسا إلى أضرار كبيرة بقطاع الاقتصاد”... ؛ ويشبه المعموري أسواق بغداد ومراكزها التجارية في موسم الحر بـ”التجمعات الميتة” حيث ينخفض التبادل التجاري بمستويات كبيرة... ؛ ويحذر المعموري من أن استمرار الأوضاع بهذه الطريقة قد يجعل البلاد “غير صالحة للحياة” خلال مواسم الصيف الطويلة التي تمتد أحيانا لستة أشهر... .
والذي يفاقم مشكلة ارتفاع درجة الحرارة في العراق أزمة الانقطاع المتكرر في التيار الكهربائي ؛ اذ يعاني قطاع الكهرباء من التهالك، ولا يوفر سوى ساعات قليلة من التيار خلال اليوم. ويلجأ البعض إلى المولدات الكهربائية، لكن ذلك يكلّف نحو 100 دولار في الشهر لكل أسرة، وقد لا يكون متوفرا للجميع ؛ ما يعني توقف أجهزة التبريد مثل المراوح والمكيف والثلاجات والمبردات ، وذلك نتيجة تقادم محطات الكهرباء، ونقص إمدادات الغاز اللازم القادم من إيران لتشغيل المحطات، مع تعرضها كذلك لأعمال التخريب المستمرة , فضلا عن الفساد المستشري في مفاصل وزارة الكهرباء .
تلفح وجوه العراقيين ( السموم) يوميا , وتحرق اشعة الشمس اللاهبة جلودهم , وتغير ملامحهم , وارتفاع درجات الحرارة ينهك قواهم ويتعب اجسادهم ويعطل حواسهم , فكأنهم في سقر , اذ يهربون من حر الشوارع الى ( وخمة ) حرارة البيوت , وما ان يفتحوا صنبور الماء للاستحمام وتبريد الجسد حتى ينزل ماء الخزانات عليهم كالحميم المستعر , فهم كالمستجير من الرمضاء بالنار , وفوق كل هذه المصاعب , لا يستطيعون تشغيل المكيفات بسبب انقطاع الكهرباء , وعندما يستعينون بالمولدات الاهلية تبدأ رحلة عذاب جديدة معهم , فبمجرد تشغيل مروحة اضافية تنطفئ الكهرباء , فضلا عن انها لا تشغل اجهزة المكيفات , فقط المراوح والمبردات والتي قد تزيد الحر لهيبا , فماذا تعمل المروحة وسط التلوث البيئي والاحتباس الحراري و( سموم الكيظ) …؟!
وعليه لابد من تشمير سواعد الجد , والالتفات الى هذه المشكلة الكبيرة والظاهرة الخطيرة , و وضع الحلول والمعالجات السريعة وبعيدة المدى , واعلان حالة الاستنفار الحكومي لمواجهة هذه الظاهرة وما يترتب عليها من تداعيات خطيرة وطويلة الامد ؛ ومن الحلول المقترحة ما يلي :
1- ايجاد حلول فورية ومعالجات ناجحة لمشكلة الكهرباء في العراق , والاستعانة بالطاقة الشمسية والطاقات النظيفة والصديقة للبيئة ؛ والتخلص من المولدات الاهلية .
2- اقامة الدعاوى في المحاكم الدولية للمطالبة بحقوق العراق المائية من دول الجوار , وترشيد استهلاك المياه , وتخزينها بشتى الطرق والوسائل , وايجاد طرق علمية تمنع تسرب مياه الانهار والامطار الى الخليج .
3- اعلان حملة وطنية كبرى لاستصلاح الصحارى فضلا عن الاراضي الصالحة للزراعة والزراعية , والبدء بحملات التشجير و زراعة الاشجار المثمرة والمحاصيل الزراعية , وتظليل الشوارع والمؤسسات والدوائر والمدارس والكليات … الخ ؛ بالأشجار المعمرة والكثيفة ؛ وانزال اقسى العقوبات بحق من يجرف الاراضي الزراعية او يقطع الاشجار في الاماكن العامة …؛ وتوجيه المواطنين نحو الزراعة والتشجير في بيوتهم او بالقرب من منازلهم .
4- تجهيز كافة دوائر الدولة واماكن العمل العامة والخاصة بأجهزة التبريد , ومراعاة شروط السلامة فيها .
5- تقليل مصادر الانبعاثات الكربونية والغازية قدر المستطاع , وكذلك تقليل اعداد السيارات والاليات والاستعاضة عنها بالسيارات الكهربائية او المترو او الباصات الحديثة المكيفة وكذلك القطارات الحديثة وبناء محطات الانتظار المكيفة .
6- تعطيل الدوام الرسمي عندما ترتفع درجات الحرارة بحيث تشكل خطرا على صحة الموظفين والعاملين , وتقليص ساعات الدوام في ايام الحر الشديد , ومنع المواطنين من الانشطة والفعاليات الدينية والاجتماعية والثقافية اذا كانت تعرضهم لأشعة الشمس فوق البنفسجية .
7- تقديم المنح وكافة التسهيلات للمواطنين للاستجمام والسياحة في شمال العراق او خارجه , مع عقد الاتفاقيات مع الدول التي تضمن تحقيق مصالح العراقيين عند الذهاب الى تلك الدول للسياحة ؛ كأن تفرض الحكومة العراقية على الدول التي يسافر العراقيون اليها للسياحة ؛ اسعارا محددة فيما يخص السكن والنقل وغيرهما ؛ كما تفعل الحكومة الايرانية مع العراق ؛ اذ بذلت الجهود الحثيثة لرفع الفيزا , ثم هيئت المساجد والاوقاف الدينية لاستقبال الزوار الايرانيين مجانا , بل حتى النقل في احيان كثيرة اذ تنقل العتبات المقدسة في مواسم الزيارة الايرانيين مجانا , وتفرض اسعارا محددة على اصحاب الفنادق بحيث لا تتجاوز ال 7 دولارات عن سكن الشخص الواحد , ناهيك عن المواكب التي تقدم الطعام مجانا … الخ ؛ فنرجو من حكوماتنا العراقية ان تحذو حذو الحكومة الايرانية وتشترط على الدول الاخرى , شروطا تصب في صالح العراقيين ؛ فالخليجي الذي يهرب من اشهر الحر ويسافر الى الدول ذات المناخ الجميل والصحي , ليس افضل حالا من العراقي , فالعراقي احق بثروات بلاده من غيره .
8- انشاء المسطحات والمسابح المائية , والنافورات والمرشات المائية والتي تحيط بها الاشجار , في كل مكان , وصناعة خزانات ماء لتبريد المياه او لا اقل لتخفيف درجة حرارة المياه داخلها ؛ وحث المواطنين على بناء السراديب تحت الارض هروبا من موجات الحر القاتلة .