كنا في سني الدراسة الشرعية الأصولية شبابا يافعين وكنا لاختلاف مفاهيمنا ولانفتاح صحبتنا -كما هي عادة الشباب- اذا حدثنا احدنا بخبر غريب قلنا له دون تردد انت تكذب بل احيانا ننطلق بالحلف : والله كذب ، الى ان بدأ مشايخنا او اساتذتنا الجامعيين بشرح القواعد الاصولية فحفظنا منها ان “الاصل في الخبر الصدق او اصل الانسان صادق ما لم ترد قرينة على انه كاذب” ، فبدا كثير من الكذابين بيننا يحاججنا شرعيا ولم يعد لنا قِبل برده ، حتى يبين الله كذبته او يطويها النسيان ،
لكن وببلوغنا الرشد والنضج عرفنا ان هذا اصل شرعي اصولي ليس شرطا ان ينسحب على الحياة العامة ، والتي يمكن ان تكذّب فيها الانسان بفطنتك و حدسك او بسمعته وعاداته بل وبحكمتك وتجربتك فاذا لم تفعل او لا تحسن ان تفعل فانت لست اصوليا تتبع قواعد الاستنباط بل مغفل تتلبسك شواهد “الاستعباط” ،
وانا احد الذين صار من الصعب ان تمرر عليه كذبة او تغريه بوعد كاذب ، ومرت السنين مع الدكتاتور أو الطاغية المنضبط والمفهوم التوجهات الى ان هبط علينا قبل عقدين من الزمن -ومع الامريكان والفرس المحررين-مجموعة لصوص وكذابين ونصابين بثياب سياسيين ومعارضين ومناضلين ومتدينين فأنستنا الفرحة الحكمةَ والنضج والتجربة وعاد الناس الى القاعدة الشرعية بان “الاصل في الانسان الصدق مالم يرد دليل على انه كاذب” وانا انضممت هذه المرة – وبشكل غير متوقع- الى الجموع وصرت اثقف لهؤلاء واحث الناس على معاونتهم وطاعتهم ، ليس الغرابة في انني صدقت فانا كنت “أصولیا” ولم اتفحص وجوههم بعد ولم ار افعالهم -بدليل انني عندما رايتهم او قابلت بعضهم علمت تماما ومن اول سنة اننا في ورطة كبيرة- ، وليست الغرابة الأخرى في ان الناس صدقتهم على اصل براءة الذمة بل الغرابة في انهم كذبوا وكذبوا وسرقوا وسرقوا ونصبوا ونصبوا اعوام واعوام وما زالت الناس بل كثير من الناس يصدقهم ويامل فيهم خيرا ،
ومن علامات غرابة الجماهير وسذاجتهم -من غير التي ساقها المنظرون السياسيون السابقون- و ادلة سهولة حكمهم وقيادهم من قبل السياسيين الصدفويين قبل المحترفين ، هو موضوع الكهرباء في العراق ،
فكل سنة يعيد الحكام والسياسيون الكذبة نفسها ويسرقون الأموال نفسها ويصرحون التصريحات نفسها فتصفق الجماهير نفسها ويعلقون صور الزعيم والرئيس والمنقذ والشريف والبرلماني نفسها و و ، ثم ياتي الصيف نفسه فتلتهب الارض تحت اقدام الناس نفسها وتنصهر بيوتهم من جديد ، فيبداون بالهجوم نفسه من جديد ويهبط عليهم الذكاء وتنطلق التعليقات : (لعن الله فلان وسحقا لنا لاننا نصدقكم ، اعطيناكم اصواتنا ، انتم متنعمون ونحن نصطلي ، لن نصدقكم مرة اخرى ، الخ الخ )، وما ان ينتهي لهب الصيف وياتي الفرج من رب العالمين لا من غيره وبسبب دورة الطبيعة يهدا العوام وتعود المنشورات الرومانسية مرة اخرى مع السياسيين القدماء او المتجددين ، ويعود الموال نفسه وانت تراقب كل عام هذه الجماهير العجيبة وتسبّح ربك وتشكره على نعمة ربما اهداها اليك ومنعها عن غيرك لفضل منه وكرم ومنة ولذلك اوصى النبي العظيم عليه الصلاة والسلام ان تقول- شكرا لله- الحمد لله عافانا مما ابتلاك به لان الله قادر على ان يبتليك لكنه عفا عنك فلا تغتر وتنسب الفضل لعقلك ونفسك وجهدك ،
قال لي احد الاصحاب يوما وقد شارف الصيف على الدخول وانتهت مهام وظيفتي السنوية على حسب الأصول ، وهو ينظر الي وقد جهزت بيتي باجهزة التكييف الحديث وحكّمت شبابيكه وجوانبه ، قال وقد استغرب مثل كل عام منذ عشرين عام : اراك تحزم حقائبك مرة اخرى مثل كل صيف رغم انك جهزت البيت بكل وسائل التبريد ، فلماذا الرحيل؟
قلت : وهل ترى انني ساذج لأطمئن لمثل هكذا رجال واصدق مثل هكذا حكومة !