19 ديسمبر، 2024 9:17 م

قصة الحضارة (142): في الفلسفة اليابانية “القلب هو مقر الإله”

قصة الحضارة (142): في الفلسفة اليابانية “القلب هو مقر الإله”

قصة الحضارة (142): في الفلسفة اليابانية “القلب هو مقر الإله

خاص: قراءة- سماح عادل

يحكي الكتاب عن الفلسفة والفكر في الحضارة اليابانية القديمة، وحكي عن بعض الفلاسفة العظام في تاريخ اليابان. وذلك في الحلقة الثانية والأربعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

المفكرون..

انتقل الكتاب للحديث عن الفكر والفلسفة في الحضارة اليابانية القديمة: “جاءت الفلسفة كما جاء الدين إلى اليابان قادمة من الصين، وكما أن البوذية قد انتهت إلى “نيبون” بعد دخولها في “مملكة الشعب الوسطى الزاهرة” بستمائة عام؛ فكذلك بلغت الفلسفة مرحلتها الواعية في اليابان متخذة صورة المذهب الكنفوشيوسي بما يقارب من أربعمائة عام بعد أن أفاضت الصين على الكونفوشيوسية حياة جديدة.

ففي نحو منتصف القرن السادس عشر، ظهر رجل من سلالة الأسرة اليابانية المشهورة، وهو: “فيوجيواراسيجوا” ولم يُرْضه العلم الذي حصله باعتباره راهباً؛ وكان قد سمع بحكماء عظماء في الصين، فقرر أن يرتحل إلى هناك طالباً للعلم؛ ولما كان الاتصال بالصين محرماً في سنة 1552، فقد دبر الكاهن الشاب خطة يعبر بها مياه البحر في سفينة كانت تشتغل بالتهريب؛ وحدث أن كان يرقب هذه السفينة في نُزُل في الميناء، فسمع إذ ذاك طالباً يقرأ بصوت عال باللغة اليابانية كتاباً صينياً عن كونفوشيوس؛ فكم كانت غبطة “سِجوا” حين علم أن الكتاب من تأليف “شوهسي” تعليقاً على “العلم الواسع”؛ فهمس لنفسه قائلاً: “هذا هو ما كنت أسعى إليه منذ طويل”.

ولبث يبحث حتى حصل على نسخة من هذا الكتاب كما حصل على نسخ من سائر ما أنتجته الفلسفة الكونفوشيوسية، وانغمس في تتبع ما في هذه الكتب من مجادلات،

حتى نسي رحلته إلى الصين؛ ولم تمض بضعة أعوام حتى جمع حوله طائفة من طلبة العلم الناشئين، الذين نظروا إلى فلاسفة الصين نظرتهم إلى وحي أوحى به إليهم عن عالم طريف يسوده الفكر الدنيوي.

وسمع “أيياسو” بما قد انتهت إليه تلك الدراسات، فطلب من “سِجوا” أن يأتيه ليعرض عليه مضمون هذه المؤلفات الخالدة التي تنسب إلى كونفوشيوس؛ لكن الكاهن المعتمد بنفسه آثر البقاء في مكانه الهادئ الذي يدرس فيه، وأرسل بدلاً عنه أحد تلاميذه النابهين؛ ورغم عكوفه هذا، أخذ الشباب الممتاز في عصره بفاعلية العقل، يحج إليه ويطرق بابه، واستوقفت محاضراته الأسماع إلى حد جعل الرهبان البوذيين في كيوتو يرفعون عقائرهم بالشكوى، قائلين إنها لثورة أن يقوم كاهن أصيل لم يزل في سلك الكهنوت، فيلقي محاضرات عامة أو يعلم الشعب، غير أن الأمر حُلَّتْ عقدته بموت “سجوا” موتاً مفاجئاً (سنة 1619)” .

“هاياشي رازان”..

وعن فيلسوف شهير آخر يذكر الكتاب : “وسرعان ما كسب تلميذه الذي أرسله إلى “أيياسو” شهرة فاقت شهرته، وأصبح له من التأثير ما بزَّ به تأثير أستاذه؛ وكان تلميذه هذا هو “هاياشي رازان” الذي مال إليه الحكام العسكريون الأولون من أسرة “توكوجاوا”، فجعلوه مستشارهم وطلبوا إليه أن يصوغ لهم الكلمات التي يتوجهون بها إلى الشعب؛ وضرب “أيمتسو” مثلاً لطائفة النبلاء، إذ جعل يختلف إلى محاضرات “هاياشي” في سنة 1630.

وسرعان ما ملأ هذا الشاب الكونفوشيوسي صدور سامعيه حماسة للفلسفة الصينية، حتى لم يعد عسيراً عليها أن يجتذبهم من البوذية والمسيحية على السواء، ويضمهم إلى العقيدة الخلقية البسيطة التي أشاعها حكيم “شانتونج” في أرجاء الشرق الأقصى؛ فقد أنبأهم أن اللاهوت المسيحي خليط من أوهام خلقها الخيال ولا تعقلها العقول، كما أنبأهم أن البوذية مذهب يفت في عضد الأمة اليابانية ويتهدد نسيجها بالوهن وروحها المعنوية بالضعف.

يقول لهم “رازان”: “إن كهنتكم يذهبون إلى أن هذه الحياة الدنيا فانية زائلة؛ ثم تعملون أنتم على أن ينسى الناس علاقاتهم الاجتماعية، وبهذا تقتلون في الناس روح الواجب والفعل الصواب؛ ثم تقولون إن طريق الإنسان محفوف بالخطايا؛ فاهجر أباك وأمك وأبناءك ومولاك، وابحث عن الخلاص، وهاأنذا أقول لكم إني قد تعمقت الدراسة، فلم أجد قط للإنسان طريقاً سوى ولائه لمولاه وطاعة الابن لآبائه”.

وكان “هاياشي” ينعم في شيخوخته بشهرة هادئة، حين شبت النار الكبرى في طوكيو سنة 1657، فشملته بين من قضت عليهم من أنفس بلغت مائة ألف؛ وكان تلاميذه قد أسرعوا إليه ينذرونه بالخطر الداهم، لكنه لم يفعل سوى أن هز رأسه وعاد بنظره إلى الكتاب؛ فلما دنت منه ألسنة اللهب، أمر بمحفة يحمل فيها، وحملوه وهو لم يزل يقرأ في كتابه؛ وقضى ليلته تلك كما قضاها غيره ممن لا يحصيهم العدد قضاها في العراء تحت نجوم السماء؛ ومات بعد ذلك بثلاثة أيام متأثراً بالبرد الذي أصابه أثناء الحريق”.

“موروكيوسو”..

وعن مفكر آخر يواصل الكتاب: “وعوضت الطبيعة اليابان عن موته، بأن هيأت لها في العام الثاني لموته رجلاً من أشد أنصار الكونفوشيوسية حماسة؛ وذلك هو “موروكيوسو” الذي اختار لنفسه “إله العلم” إلهاً يرعاه؛ ففي صدر شبابه قضى ليلة بأسرها أمام ضريح “متشيزان” يؤدي الصلاة، ثم وهب نفسه للعلم بعزم الشباب، وكانت عزيمته شديدة الشبه بعزيمة معاصره سبينوزا .

سأنهض من نومي كل صباح في الساعة السادسة، وآوي إلى مخدعي كل مساء في الساعة الثانية عشرة ولن أجلس بغير عمل إلا إذا حال دون ذلك أضياف أو مرض أو غير ذلك من ظروف قاهرة….

لن أنطق بباطل سأجتنب الألفاظ التي لا تعني شيئاً، حتى إن كنت أوجه الحديث إلى من هم دوني

سأكون معتدلاً في طعامي وشرابي

وإذا اشتعلتْ فيَّ الشهوات، سأقضي عليها فوراً، دون أن أعينها قط على التزايد

إن تشتت الفكر يفسد قيمة القراءة، فسأقاوم جهدي كل ما يصرفني عن حصر انتباهي، وسأقاوم في نفسي العجلة الزائدة.

سأسعى إلى تثقيف نفسي بنفسي، ولن أسمح للرغبة في الشهرة أو في الكسب أن تحدث في عقلي اضطراباً.

إني سأنقش هذه القواعد في صفحة قلبي، وسأحاول أن أتبعها.

وإني لأشهد الآلهة على ما أقول.

ومع ذلك فلم يكن “كيوسو” ليدعو الناس إلى عزلة العلماء التي نعهدها في رجال العصور الوسطى، بل كان له من رحابة الأفق ما كان “لجيته”؛ فوجَّه نفسه وجهة تساير العالم في مجراه:

إن اعتزال الناس أحد الطرق، وإنه لطريقة جميلة، لكن الرجل الأعلى يسره أن يزور الأصدقاء؛ إن الرجل ليصقل نفسه صقلاً باتصاله بالناس؛ وإن من أراد تحصيل العلم، لا مندوحة له عن الصقل عن هذا الطريق أما إن اعتزل كل شيء وكل إنسان، فإنما هو بذلك يجاوز جادة الصواب….

إن طريق الحكماء ليس منفصلاً عن طريق الحياة اليومية. فعلى الرغم من أن البوذيين يسحبون أنفسهم من العلاقات الإنسانية، فيبترون الرابطة بين المتبوع وتابعه، وبين الوالد وولده، فهم عاجزون عن بتر علاقة الحب من أنفسهم…. إنها أنانية أن تسعى وراء السعادة في العالم الآخر. لا تظنوا أن الله بعيد عنكم، بل ابحثوا عنه في قلوبكم، لأن القلب هو مقر الإله.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة