22 نوفمبر، 2024 5:25 ص
Search
Close this search box.

النفط .. مكمن الثروة ومكامن العنف والفساد

النفط .. مكمن الثروة ومكامن العنف والفساد

[email protected]

     مع تدفق الذهب الاسود مطلع القرن المنصرم, استبشر أجدانا بان شريان من شرايين الحياة قد هلّت بشائره, وان فجر جديد قد بزغ مؤذناً بميلاد عهد الرخاء والرفاه, عهد أشبه في آثاره بلمسة الملك الإغريقي “ميداس” الذي حظي بلمسة أسطورية بتحويل كل ما تلمسه يداه إلى ذهب إبريز, ولم يدر الغابرون الذين انتشوا للوهلة الأولى وعقدوا آمالهم على الذهب الأسود، إن هذه العجيبة التي انبعثت من جوف الثرى سرعان ما سيمتزج مدادها الأسود بالدم والدموع وتكون وبالا عليهم وعلى اجيالهم القادمة, وستكتوي بنيران الحروب والانقلابات والانظمة الاستبدادية القامعة والفاسدة التي كان النفط حافزاً لقفزها على السلطة وسبباً لتشبثها فيها.

 

     لقد ارتبط النفط بالحرب ارتباطا وثيقا منذ بداية القرن العشرين، لكن طبيعة هذه العلاقة تغيرت بمرور الزمن مع تعاقب الأحداث وتبدل الظروف, ولا يزال النفط يعتبر سلعة إستراتيجية حيوية فائقة الأهمية بالنسبة للغرب، لهذا فقد كان الهدف من هذه الحروب والانقلابات والاحتلالات هو ضمان امن الإمدادات من خلال إحكام السيطرة على الأرض, ومن المرجح إن ثمة حروباً جديدة ستدور رحاها في دول ضعيفة تنتشر فيها الفوضى والقلاقل ترتبط بالنفط, حيث تنهار إيرادات الضرائب غير النفطية، وتتدهور الشرعية السياسية، ويتآكل احتكار العنف المنظم أي القدرة على تسخير أدوات البطش وفرض هيمنة السلطة القائمة بالقوة, وفي مثل هذه الحروب تستخدم إيرادات النفط الهائلة بطرق شتى لا حصر لها لتمويل العنف ولتبني اقتصاد سياسي لصوصي سلاب نهاب ضار في هجماته الفتاكة على فرائسه, وفي أسوا الأمثلة ما يجري في العراق بعد غزوه، حيث يعتمد اللاعبون الرئيسيون فيما يتعلق بموارد دخلهم على استدامة العنف وتأييده. وهكذا تتحول مناطق الحروب إلى ملاذات آمنة مثلى تؤوي الإرهاب فيصول ويجول ويعربد, وحتى في أحسن الأمثلة، التي تبدو إن إيرادات البترول تنجح في معاضدة وتعزيز حكم شكل ما من أشكال السلطة المركزية، تنحوا الإيرادات الى جيوب الفاسدين لتستقر أخيرا في البنوك الغربية.

     إن حروب النفط أصبحت اشد التصاقاً بمفهوم المردودية والمغانم، وأكثر إدرارا للعائدات, فمهما تكن دوافع المتقاتلين ومهما تنوعت الخلافات، من العرقية إلى الدينية أو غيرها، فإنها تحرك رحى الصراع فحيثما يكون هنالك نفط تنزع هذه الحروب إلى الاشتمال على صراعات للسيطرة على المرابح الاستثنائية التي يفيض بها هذا المورد النفيس, وفي حين انه من الناحية التاريخية بقي الحال يسير دائماً على هذا المنوال، فان الذي تغير في الشطر الثاني من القرن العشرين إنما هو توليفة منظومة اللاعبين الذين يمكن إدراجهم في زمرة أصحاب السلوك الذي يلتمس الظفر بالعائدات ويتلهف للحصول على ريع النفط, فالحروب القديمة كانت حروباً جيوسياسية، إذ انطوت على تنافس بين الدول، لاسيما القوى العظمى، وذلك للسيطرة الميدانية على الأرض، ولتكوين أحلاف قوية مع اللاعبين المحليين لإقامة سلطة قوية مركزية وبسط نفوذ مهيمن عليها، كي تضمن هذه الدول الحظوة بالعقود النفطية والامتيازات على اقل تقدير, وكانت أهمية النفط وخطورة دوره باعتباره سلعة إستراتيجية قد برزت جلياً في الربع الأول من القرن العشرين وتزايدت هذه الأهمية مع تنامي دور النفط في تدوير عجلة الصناعة, أما في أيامنا هذه حيث تتضافر المنافسة الجيوسياسية مع الصراعات التي تنشب بين شتى اللاعبين المحليين، وهي صراعات تؤدي بالفعل إلى تفتيت الدولة ذاتها، بل قد تفضي حتى إلى تقويضها على سبيل المثال الحروب الانفصالية ، كما تحتدم هذه المنافسة وتستعر شراستها بالسلوك السلاب العنيف الذي ينتهجه اللاعبون المناهضون للدولة، سواء منهم المحليون او الأجانب، وغايتهم الاقتناص المباشر لعائدات النفط بشتى السبل المشروعة منها وغير المشروعة.

     إن ابتغاء العائدات والجري الحثيث لالتهام حصة الأسد منها في البلدان المصدرة للنفط قد تسربت نزعته تدريجياً بصورة هيكلية متسلسلة من القمة الى القاعدة، وتغلغل هذا الاتجاه في المجتمع، حسبما يرى الباحثون، وانتقل من مستوى التنافس الدولي، الى التنافس المحلي على مستوى الدولة، وبلغ في نهاية المطاف مرحلة التنافس بين اللاعبين المناوئين للدولة على المستوى المحلي, وحين يحدث هذا في الدول المحبطة او الفاشلة، فان العائدات لا تستخدم في تزويد الحكومات النفطية المركزية بالأموال والأسلحة لتحكم شعبها وتفرض هيبتها فحسب ، بل وتصبح مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالعنف في كل مستوياته، مما يجعل من الصعوبة بمكان إعادة تأسيس السلطة من خلال السيطرة على الأرض, ويفسر هذا الارتباط بين المسلك الذي يسعى للحصول على العائدات والعنف ضمن صيغة ما يطلق مصطلح دائرة ابتغاء عائدات النفط وهو تطور منحرف بالغ السوء, فليست العلاقة بين النفط ودرجة انصهار العراق في بوتقة مفهوم الدولة ومطواعيته وانقياده للحكم وإمكانية إخضاعه لسلطان الدولة بالأمر الجديد, وبما ان النفط هو دخل العراق الرئيسي، شكل هذا السائل الأسود النفيس جوهر مفهوم الدولة في بلاد الرافدين، وحاك نسيج الأنظمة التسلطية المتعاقبة التي حكمته، وصاغ شطراً لا يستهان به من خصائصها وطبيعة تعامله مع شعبه, فعلى مدى عقود من الزمن، ومنذ ان أصبح العراق من كبار مصدري النفط رسم ريع البترول ملامح هذه الدولة بصفتها الموزع الرئيسي للثروة من جهة، وباعتبارها السلطة المهيمنة المستبدة، صاحبة اليد العليا في شتى الأمور, واثر هذا الامر بدوره في سلوكيات العراقيين جميعاً, وهذا يقود الى التساؤلات الجدلية التالية: أيمكن ان تكون تأثيرات وعواقب هذه العلاقات هي الأعظم إذا ما قورنت بالتنافس الجيوسياسي على موارد البلاد النفطية الهائلة؟ وهل يمكن لهذه العلاقة ان تكون أفصح لساناً وانصع بياناً في تفسير تاريخ العراق الحديث وماتخلله من صراعات؟ وهل يمكن ان يقال، ان قابلية تفجر الأزمات واندلاع الحروب هي خصلة متأصلة في صميم تركيبة هذا البلد؟

     وهذا ما يثيره الجدل الدائر حول دور البترول في غزو العراق في تساؤل اعم واشمل: فما هي العلاقة بين النفط والحرب؟ ان ثمة اتفاقاً على نطاق واسع في ميدان بحوث العلوم الاجتماعية، سواء في جانبها الكمي او النوعي إضافة الى أذهان الجمهرة العامة من الناس، على ان هناك صلة مؤكدة بين النفط والحرب, إلا ان هذا الارتباط بالغ التعقيد، إذ غالباً ما يتسم فك طلاسم هذا التعقيد بصعوبة بالغة لا سيما إذا أجريت البحوث استناداً الى دراسات العلوم الاجتماعية الكمية فحسب. لقد اجريت العديد من الدراسات في بؤر الصراع المختلفة لتسليط الضوء على مدى تسبب النفط في تفجير الصراعات او إثارة النزاعات، او زيادة خطورتها، او التخفيف من احتقاناتها، وما هي الآليات المحددة التي تؤدي لهذه النتيجة وتهيئ أجواءها، وما هي السبل التي تسلكها الأمور في تطورها حتى تبلغ نهاياتها في آخر المطاف؟ وهل يغير تملك النفط وحيازة البلدان المبتلاة بالحروب والصراعات لاحتياطياته من طبيعة الصراع، وإذا كان هذا صحيحاً فكيف يتم هذا التغيير؟ وقد ظهرت نتائج الدراسات ان هذه المناطق رغم تباين ديموغرافيتها إلا إنها تشترك جميعا بأنها بؤر من بؤر الصراعات العرقية والسياسية وخضوعها تحت هيمنة العصابات المسلحة وتلاشي دور الدولة فيها وهذا ما يرجح ان الدول العظمى قد أججت الاضطرابات فيها لمنع استغلال مواردها ووضعها في قائمة الانتظار كاحتياطي استراتيجي مستقبلي.

     ومع ان النفط ثروة مخبوءة في جوف الثرى اشبه بلغم قد ينفجر في أي لحظة ويتسبب في كوارث امنية واجتماعية جمة عند التعامل معه دون روية، إلا انه من الممكن ان يكون عاملا مهما واساسيا في رقي الشعوب وتنميتها، وان يخفف من حدة الصراع وشيوع ظاهرة البنادق المأجورة التي يتسبب بها الاقتصاد المتدهور، فباستثناء بعض الحقول النفطية البحرية، فان النفط بطبيعته لا يمكن تطويره واستخراجه في مناخ مضطرب يعج بالقلاقل السياسية، ولا في ظروف شديدة التأزم تتسم بانهيار كامل للدولة، فكل الأطراف الافتراضية المستفيدة من عائدات البترول حريصة في نهاية المطاف على الاستثمارات الضخمة، وعلى ضمان سيادة حكم القانون وعلى حفظ النظام العام, غير انه من المفارقات الصارخة في هذا الصدد ان العواقب الأبرز للاعتقاد السائد الذي يذهب الى ان الأرض يمكن السيطرة عليها عسكرياً وانه بالإمكان إعادة إقامة الحكومات الملائمة للغرض قسراً في المناطق والبلدان المصدرة للنفط والتي مزقتها الصراعات وتفجرت فيها الأزمات، والنتيجة الأظهر ليست هيمنة أعظم على إمدادات النفط، او سيطرة اكبر على الأسعار بل تردياً اكبر للأوضاع، وانهياراً أشنع للاستقرار السياسي والاقتصادي، اللهم ان كان هناك ثمة استقرار أصلا, وفي الحقيقة، فان القوى العظمى، كلما زادت من محاولاتها للهيمنة على سبل الوصول الى النفط وإمداداته بالأساليب العسكرية، وبإقامة الحصون والبروج المشيدة، والقلاع المدججة بالأسلحة حول الجيوب التي تكتنز النفط، وبنشر الجنود على امتداد خطوط أنابيب النفط، كلما تقهقر امن الإمدادات وزادت مخاطر حدوث الأزمات. وكما أظهرت حرب العراق بشكل فاجع، فان حروب البترول الجديدة تهدد بانبثاق دول مارقة او مخفقة، وهو ما يهدد وبصورة مهولة بتقويض الأمن العالمي, والخلاصة ان النفط نعمة كبرى ينبغي بذل جهود خارقة لئلا يتحول الى نقمة ولعنة, وأما المسار الحالي الذي تمضي الأمور في سياقه فلا يبشر بالخير حتى الآن, والمساعي المبذولة لتفادي السلبيات الحتمية للمناهج السياسية والاقتصادية المتبعة حالياً لا تفي بالغرض ولا تحقق الحد الأدنى المأمول، إذ ان آفة الطمع مستفحلة, وتظل الصراعات النفطية في بؤرة اهتمام الحكومات واللاعبين الدوليين متعددي الأطراف، ولاعبي المجتمع المدني، وهي تجتذب بالتالي التدخلات الخارجية، وعملية غزو العراق مثالاً نموذجياً على كون النفط من ابرز العوامل استثارة للعدوان وتحوله الى نقمة على العراقيين ونعمة للقوى العظمى.

أحدث المقالات