أثبتت دوامة الحياة لكل ذي بصر وبصيرة أنَّسفينة الأفكار لا ترسو عند ميناء ثابت ولا تتوقف عندها ثباتاً، فهي مثل سفن الرحالة والمستكشفين والمحتلين تبحث عن جديد، والرسو عند ميناء بعينه هو الجمود الفكري بعينه، وقبول المرء بما هو عليه من حال دون النظر إلى السواحل الأبعد يجعله يفقد بوصلة الرقي والتطور.
فيما مضى من الزمن وكنا في المرحلة المتوسطة والإعدادية من الدراسة، كانت تجمعنا حلقات الدراسة في داخل الصف وفي خارجه، وكنا ننظر إلى بعض الدروس والمناهج الدراسية بلغة اليوم بأنها من الترف الفكري الذي لا يغني الطالب من جوع معرفي ولا يسمنه، وكان بعضنا ينظر على سبيل المثال إلى درس الجغرافية بأنه درس لا يرقى من حيث العلم والمعرفة إلى مادة الكيمياء أو الفيزياء أو الأحياء، وكان البعض منا يستقل من شأنمدرس مادة الجغرافية ولا يضعه في خلده وشعوره واحترامه في مكانة مدرس مادة الفيزياء مثلاً، بل وكان البعض منا يستسهل الأمر ولا يعير أهمية للمادة، ولسان حاله: “ما شأننا ومعرفة جغرافية أوروبا أو اميركا أو أفريقيا، يكفينا معرفة جغرافية العراق وما تجاوره من دول” وهو لسان حال فئة عمرية تدرس المادة وهي غريرة السن الرشدية شحيحة التجربة الحياتية فقيرة الرؤية السياسية.
وحيث مضت عجلة الحياة ودارت الأيام والسنين، فإن قلة قليلة من تلك الكثرة الكثيرة التي كانت تنظر إلى مادة الجغرافية بعين الأزدراء، ما زالت سفينتها راسية في ميناء فئتها العمرية الصغيرة لا ترى في مادة الجغرافية إلا فضالة علم ولا في صاحب مادة الجغرافية إلا معلماً او مدرساً اختار لنفسه الدرب الأسهل من الدراسة والتدريس.
ولعمري فإنها نظرة قاصرة ، لا يرى صاحبها أبعد من تحت قدميه، لأنَّ مادة الجغرافية لا تقتصر على معرفة حدود البلد وحفظ خطوطه في الذهن حتى يتمكن الطالب من رسمها على الورقة الإمتحانية لينال درجة كاملة، فالجغرافية هي مسح للمدن وقراها، والأنهر وشواطئها، والبحار وجزرها وسواحلها، هي قراءة لسكان المدن النهرية وعاداتهم، وسكان المدن البحرية وطقوسهم، وسكان المدينة والقرى المجاورة، هي قراءة لحركة التجارة الداخلية والتجارة الخارجية، هي قراءة للعلاقة بين إبن المدينة وابن القرية، وبين إبن الساحل وابن الجبل، وبين إبن المنفذ البري وابن المنفذ البحري، وهي قراءة للتأثير الجغرافي والبيئي على المزاج النفسي والإجتماعي والإقتصادي والسياسي، وهي قراءة للثغور والإستعدادات العسكرية، وباختصار فإن الجغرافية هي خطوط ومعالم للبلد ومستقبله واستقلاله ونموه وتطوره، ويكفي إدراك أهمية الجغرافية أن قارات الأرض بما فيها الدول العربية والإسلامية سبق احتلالها عسكرياً قدوم ما يُعرف بالرحالة والبحارة والمستكشفين حيث مسحوا البلد المعني جغرافياً بسواحله وأنهره ومدنه وقراه وبيان طبيعة سكانه وعاداته ورسومه ونقاط القوة فيه والضعف وموارد الفتن النائمة تحت الرماد، أي أنهم بمسحهم الجغرافي والإجتماعي والسكاني قدمواً ما يصبو إليه المتربص بالبلد شراً واحتلالاً.
بين الغال والإنكليز
عن بيت العلم للنابهين في بيروت صدر حديثا (2024م) في 96 صفحة من القطع المتوسط كتاب “الإسلام في أيرلندا” للمحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، من إعداد وتقديم الدكتور السيد علي السيد عبد الله الصالح.
هذا الكتاب استنطق ذاكرتي من عهد الدراسة المتوسطة والإعدادية وما يدور في أذهان الطلبة حول مادة درس الجغرافية، ولا يُلام طالب المتوسطة لمحدودية إدراكه وقصور فهمه بفعل عامل السن، ولكن البقاء على ذات الرؤية الضبابية مع تقادم العمر هو التقصير وقصر الفهم والإدراك.
فالكتاب الجديد هو حلقة من سلسلة طويلة من المؤلفات عن الإسلام في بلدان الكرة الأرضية إبتدأها المؤلف منذ أن شرع بتأليف دائرة المعارف الحسينية منذ عام 1987م حيث خصص باباً واسعاً من أبواب الموسوعة الحسينية الستين لتناول الحديث عن البلدان وموضع الإسلام في هذا البلد أو ذلك وعديد المذاهب الإسلامية فيه وتفاعلها مع النهضة الحسينية على المستوى العقدي الإسلامي العام والإمامي الخاص تحت عنوان: “معجم المشاريع الحسينية”.
وهذا الكتاب كما يقول الناشر في مقدمته: (نبع من ينابيع دائرة المعارف الحسينية الكثيرة، هو فيض من فيوضات باب معجم المشاريع الحسينية، استلَّه المعد الدكتور الفاضل السيد علي السيد عبد الله الصالح، وهو من مستوطني أيرلندا والناشطين فيها إسلامياً، من الجزء الثالث من معجم المشاريع الحسينية ليكون في هذا الكتيب المستقل تسهيلاً للوصول إليه، وتعميماً للفائدة).
والمفيد إيراده أن الجزء الثالث من معجم المشاريع الحسينية الذي أشار إليه الناشر في مقدمته، قد صدر في العام 1440هـ (2019م) وتضمن بالتفصيل الحديث عن الإسلام في البلدان التالية حسب الحروف الهجائية: أنغولا، أوروغواي، أوزبكستان، أوغندا، أوكرانيا، إيران، أيرلندا، آيسلندا، وإيطاليا. وضم الجزء الثاني الصادر في العام 1436هـ (2015م) البلدان التالية: إريتريا، إسبانيا، أستراليا، إستونيا، أفريقيا الوسطى، أفغانستان، الإكوادور، ألبانيا، ألمانيا، الإمارات العربية المتحدة، أمريكا، وإندونيسيا. فيما ضم الجزء الأول الصادر في العام 1431هـ (2010م) البلدان التالية: آذربايجان، إثيوبيا، الأرجنتين، الأردن، وأرمينيا.
لا شكَّ إنَّ الحديث عن “الإسلام في أيرلندا” هو حديث عن أيرلندا وشعب الغايل واللغة الغالية واستقباله للمسلمين، وحديث عن بريطانيا والإنكليز واللغة الإنكليزية واحتلاله للجزيرة الأيرلندية، وبتعبير المعد الطبيب الجراح الدكتور السيد علي الصالح: (إنَّ الحديث عن أيرلندا في الواقع يعود إلى الحديث عن المملكة المتحدة إذ إنها جغرافياً تعد أقرب الدول المجاورة لها حيث إن أقرب نقطة بين الجزيرتين تبلغ تسعة عشر كيلو متراً بينما أقرب نقطة بحرية بين المملكة المتحدة وفرنسا هي 33,3 كيلاً، وكان البريطانيون قد احتلوا هذه الجزيرة التي تسمى بأيرلندا سنة 940هـ (1534م)، ولكن القسم الجنوبي استقل عن المملكة المتحدة سنة 1340هـ (1922م) وبقي القسم الشمالي منها إلى يومنا هذا تابعاً للمملكة، ورغم أن القسمين يختلفان إدارياً وسياسياً إلا أنَّهما غير مستقلين إجتماعياً ومذهبياً حيث في الأعم الأغلب يدينان بالمذهب الكاثوليكي المسيحي) فيما يدين أغلبية سكان بريطانيا بالمذهب البروتستانتي المسيحي.
فالحديث عن أيرلندا هو حديث عن مفردتي أير أو آير (Ire) ولاند (Land)، فالأولى تعني “شعب الغايل” والثانية تعني “الأرض” فأيرلندا هي أرض الغال أو أرض إلهة الغال، وهذا الشعب لغته الأيرلندية المختلفة جوهرياً عن اللغة الإنكليزية، وهي من جنس لغة الهندو- أوروبية، والمواطن الأيرلندي الأصل يقال له أيريش (Irish) كما يُقال للإنكليزي الأصل إنكليزش (English).
رحلة الدراسة والتجارة
تعد أيرلندا بجزأيها الشمالي وعاصمتها بلفاست (Belfast)الواقعة تحت التاج البريطاني، وجنوبها المستقل وعاصمتها دبلن(Dublin)، هي في المرتبة العشرين من حيث المساحة بين أكبر جزر الكرة الأرضية، والكتاب في واقعه يتناول الجمهورية الأيرلندية وموقع الإسلام والمسلمين في هذا البلد الذي يشكل أربعة أخماس الجزيرة وغالبيته العظمى من الكاثوليك.
ليست هنا وثائق دقيقة تشير إلى تاريخ ولوج الإسلام إلى هذه الجزيرة بالتحديد، ولكن المحقق الكرباسي يعتقد أن أيرلندا حالها: (حال بريطانيا التي دخلها الإسلام في القرون الأولى ولكن دون ظهور إلا بعد الحربين العالميتين التي انتهت الثانية منها في سنة 1364هـ “1945م” حيث تعرف الشعب الأيرلندي على الشعوب الإسلامية عبر الإحتلال البريطاني لدولهم، ثم هجرة المسلمين إلى بلادهم منذ الإنتهاء من الحرب العالمية الثانية، ولكن الهجرة إلى أيرلندا لم تكن بالكثرة التي شهدتها بريطانيا)، بيد أنَّ الظهور الإسلامي في أيرلندا بدأت تلوح خيوط فجره مع منتصف القرن العشرين الميلادي، وبخاصة مع الرحلة التعليمية لطلبة العراق والدول الخليجية والعربية إلى الكلية الملكية للجراحين في دبلن، ومع الرحلة التجارية وازدياد الهجرة الإسلامية بشكل كبير مع فترة النمو الإقتصادي في أيرلندا في عشرية سنوات نمر السلتي (Celtic Tiger) (1995- 2007م).
ويعود أول ظهور مادي للإسلام في جمهورية إيرلندا كما يفيدنا الكتاب وذلك عبر: (إنشاء أول مجتمع إسلامي في أيرلندا سنة 1379هـ “1959م”، وكان يتكون من الطلاب المسلمين الذين يدرسون في أيرلندا، وأطلق عليه في البداية مجتمع دبلن الإسلامي، ثم سمي لاحقاً بالجمعية الإسلامية في أيرلندا، ولم تكن آنذاك أية مساجد في أيرلندا، فكان الطلاب المسلمون يقومون بأداء صلاتي الجمعة والعيد في منازلهم أو القاعات المؤجرة، وفي سنة 1389هـ “1969م” بدأ الطلاب المسلمون يتصلون بالمنظمات والبلدان الإسلامية لجمع التبرعات من أجل إنشاء أول مسجد في أيرلندا، وقد تحققت أمنيتهم في سنة 1396هـ (1976م) حيث تم إفتتاح المسجد والمركز الإسلامي في أيرلندا في مبنى مكون من أربعة طوابق، ومع مرور الوقت ضاق بهم المكان أمام الأعداد المتزايدة من المسلمين، فبدأوا بجمع التبرعات لإنشاء مسجد أكبر، كما هو الحال في مدينة كورك “Corcaigh– Cork“) وهي ثاني أكبر مدينة بعد العاصمة دبلن حيث تم فيها في العام 1984م تأسيس جمعية كورك الإسلامية (Cork Muslim Society)، وفي العام 2013م تم فيها تأسيس المركز الثقافي الإسلامي في كورك (Cork Islamic Cultural Centre) ومدرستها المسماة مدرسة الرسالة (Al ResalaSchool).
وحيث يؤشر المؤلف إلى العام 1959م كأول ظهور مادي علني للإسلام في دبلن بتأسيس الجمعية الإسلامية والتي عرفت لاحقاً بالهيئة الإسلامية في أيرلندا (Islamic Foundation of Irelan)، والتي تم تسجيلها رسمياً في العام 1971م، فإنه يوقفنا بالتسلسل الزمني على نشأة الجمعيات والمدارس الإسلامية في دبلن العاصمة وبقية المدن في جمهورية أيرلندا معرجاً على مركز أهل البيت الإسلامي (The Ahlul Bayt Islamic Centre)الذي تم شراء أرضه عام 1990م وافتتح رسمياً في العام 1996م ويتولى الإدارة والإمامة والصلاة فيها معد الكتاب خريج الكلية الملكية للجراحين في أيرلندا المختص بجراحة الأوعية الدموية، الخطيب الحسيني الدكتور السيد علي بن عبد الله بن علي الصالح، العراقي الأحسائي الأصل، المولود في مدينة كربلاء المقدسة بالعراق سنة 1957م، على أن بدايات مركز أهل البيت الإسلامي تعود جذور نشأته إلى سبعينيات القرن العشرين على يد الطلبة العرب والمسلمين، حيث يقوم المركز وفي ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في عاشوراء محرم بتسيير تظاهرة جماهيرية حسينية داخل مدينة دبلن لتعريف المجتمع الأيرلندي بالنهضة الحسينية وطبيعة الإسلام المحب للحرية والخلاص.
ويستمر المؤلف في بيان المؤسسات والمدارس الإسلامية، ويمرعلى حسينية فاطمة الزهراء في جنوب شرق دبلن التي تأسست سنة 2006م، وتأسيس جمعية باب العلوم غرب دبلن وموكب “عزاخانه الزهراء” في العام 2010م للجالية الباكستانية في مدينة بلانجردستاون (Blanchardstown)، فضلا عن المركز الثقافي الإسلامي (Islamic Cultural Centre of Ireland)في دبلن الذي تم إفتتاحه من قبل دول الإمارات العربية المتحدة في العام 1996م، والمدرسة الليبية في دبلن.
ليست هناك أرقام ثابتة بعدد المسلمين في جمهورية أيرلندا ولكن الكتاب يفيدنا بناءً على تقارير مختلفة: (تشير إلى أن 1,1 في المائة من 4,5 ملايين مواطن في أيرلندا هم من المسلمين، لكن عددهم يزداد بفعل الهجرة والولادات، وفي بعض الحالات تغيير الدين إلى الإسلام، فمنذ عقدين كان عددهم 4000 شخص، لكن في العام 2011م وصل عددهم الى 49.204 مسلمين، وتمثل الأرقام زيادة بنسبة 51 في المائة منذ العام 2006م) وهم من أكثر من أربعين جنسية، وحسب صحيفة الإنديبندنت الأيرلندية (Irish Independent) في العام 2015م كما يخبرنا الكتاب: (إنَّ الإسلام هو الأكثر نمواً في أيرلندا، ومن المتوقع أن يصل عدد المسلمين فيها إلى 100 ألف حتى سنة 1442هـ “2020” إذ إنَّ أكثر من 500 أيرلندي يعتنقون دين الإسلام سنويا)، وهذا التحول الملحوظ في واقعه قراءة للكاتب والأديب البريطاني جورج برنارد شو (George Bernard Shaw) المتوفى عام 1950م الذي كتب في العام 1936م يقول: “إذا كان لديانة معينة أن تنتشر في إنكلترا بل في أوروبا خلال مئات السنوات المقبلة فهي الإسلام، لقد نظرت دائماً إلى ديانة محمد – صلّى الله عليه وآله وسلَّم – بأعلى درجات السمو بسبب حيويتها الجميلة، إنها الديانة الوحيدة في نظري التي تملك قدرة الإندماج في هذه المرحلة من مراحل البشرية بما يجعلها جاذبة لكل عصر، لقد درست تاريخ حياة محمد – صلّى الله عليه وآله وسلَّم – ذلك الرجل العظيم، وفي رأيي يجب أن يطلق عليه لقب منقذ البشرية، إنني أعتقد أنه إذا قدر له أن يتولى مسؤولية قيادة العالم فلا شك أنه سيستطيع حل مشكلاته وإقرار السلام والسعادة”.
ولا شك أن نبوءة برناردشو هي رؤية واقعية تنسجم مع الفطرة الإنسانية السليمة التي تتقبل الإسلام عن قناعة حينما تقترب منه وتتعرف عليه وعلى قادة الإسلام وصلحائه، لأنه دين البناء والإستثمار لا دين الإحتلال والإستعمار، وهو دين الرحمة والإستقلال لا دين العبودية والإستغلال، دين شعاره وظلالهلصالح البشرية في عاجلها وآجلها: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء: 107.