24 نوفمبر، 2024 5:51 م
Search
Close this search box.

ميشيل ويلبيك من الإسلاموفوبيا إلى التباكي على أفول الحضارة الأوروبية

ميشيل ويلبيك من الإسلاموفوبيا إلى التباكي على أفول الحضارة الأوروبية

الموقف السلبي للروائي الفرنسي الأشهر ميشيل ويلبيك من الإسلام والمسلمين ليس جديدًا. في روايته “المنصة” الصادرة عام 2001، قام بتمجيد السياحة الجنسية في جنوب شرق آسيا وإضفاء الطابع الشعري عليها- حيث خلقت الشخصيات الرئيسية في الرواية منتجعًا جنسيًا مثاليًا، نوعًا من واحة سماوية من السعادة الصادقة والشهوانية النقية، القادرة على شفاء الغرب المتجمد في حالة من عدم الإحساس الكئيب.

لكن في النهاية، قامت مجموعة من الأصوليين الإسلاميين المسلحين بتدمير المنتجع. وفي شكل مجازي، تنبأ الكاتب بموت أفضل الأشياء الحقيقية والحية التي بقيت في الثقافة الغربية على أيدي المسلمين الأصوليين.

وفي رواية “الخضوع” (2015)، ينتقل ويلبيك من الاستعارات إلى التنبؤات الأكثر تحديدًا. خلال الانتخابات الرئاسية، وخوفًا من فوز المرشحة اليمينية مارين لوبان، تتحالف الأحزاب اليسارية مع الحزب الإسلامي، ويسفر هذا التحالف عن فوز المرشح المسلم. 

بعد أن وصل المسلمون إلى السلطة، أدخلوا الشريعة الإسلامية في البلاد، ومنعوا النساء من ارتداء السراويل، وأباحوا تعدد الزوجات، وخصخصوا جامعة السوربون، وطردوا المعلمين غير المسلمين منها– باختصار، حوّلوا فرنسا إلى دولة إسلامية كاملة. يسارع العديد من المثقفين إلى اعتناق دين الغزاة (من أجل تأمين حياة مهنية ناجحة، ووصول قانوني إلى أجساد الشابات)، في حين يصبح أولئك الذين يلتزمون بالقيم الفرنسية التقليدية أقلية تعيسة ومعرضة للتمييز في بلادهم. 

إن مغالاة ويلبيك في مناهضة الإسلام يكمن على السطح، ولكن من الواضح أن موقف الكاتب لا يقتصر عليه وحده بل يشمل أيضًا اليمين المتطرف في أوروبا. والحقيقة هي أن أسلمة الغرب في نظر هؤلاء المعادين للإسلام، لا تشكل خطرًا مستقلاً على أوروبا، بقدر ما هي عرض من أعراض الانحلال الداخلي لها وفساد ثقافتها. وعلى غرار الفيلسوف أوسفالد شبينغلر، الذي أعلن مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عن الانحدار الوشيك لأوروبا وانتصار الحضارات الشابة والمتعطشة للدماء والحيوية، يرى ويلبيك علامات تراجع الغرب في كل شيء. ويزعم إن استبدال المسلمين بالسكان الأصليين في أوروبا هو أحد أسباب هذا التراجع، وربما السبب الرئيسي، ولكنه بالتأكيد ليس الوحيد: فهو نتيجة للمرض، وليس سببًا له.

بعد سنوات من الإساءة للإسلام والمسلمين في أعماله والتصريحات الصحفية العنصرية قدّم ويلبيك مؤخرًا، اعتذاره للجالية المسلمة في فرنسا.

ففي نوفمبر الماضي قال ويلبيك خلال مقابلة مع الفيلسوف اليساري الفرنسي ميشيل أونفراي إن “رغبة الفرنسيين الأصليين، كما يقولون، ليست في أن يندمج المسلمون، بل أن يتوقفوا عن سرقتهم ومهاجمتهم. وإلا فهناك حل آخر: أن يغادروا. واعترف ويلبيك لاحقًا خلال حفل خصص لتقديم كتابه الجديد “بضعة أشهر في حياتي” أنه انجذب خلال مقابلته مع ميشال أونفراي إلى نوع من “الغباء الجماعي. وأضاف الكاتب أن “هناك خطابًا خاطئًا يربط بين الإسلام والانحراف رغم أنهما خطان متوازيان لا يلتقيان أبدًا، والمهمة الآن قد تكون محاربة الثاني، لا التضييق على الأول لأن ممارسة الشخص عقيدته الدينية بشكل دؤوب لا تؤدي إلى الانحراف وإنما المنحرفون يتذرعون فقط بغطاء الدين.

مرض القارة العجوز

أوروبا، بحسب ويلبيك، تموت من الشيخوخة والتعب، يحتلها الغرباء، لأن الضحية لا يملك القوة ولا الإرادة للمقاومة، ونهايتها محددة سلفًا، وأفضل ما يمكن فعله هو تأخير التراجع المحتوم الذي لا مفر منه.

وفي هذا السياق ينبغي تفسير تصريحات ويلبيك بشأن أوكرانيا، التي أدلى بها الكاتب في أثناء نفس المقابلة مع ميشيل أونفراي لمجلة الجبهة الشعبية، واصفًا روسيا بأنها “ليست جارة، بل عشيقة سابقة” لأوكرانيا، وعارض علنًا مساعدة الدول الغربية للأخيرة، محملا اللوم فيما يحدث على الأمريكيين، الذين، بحسب الكاتب، “يحبون تنظيم الحروب، ويفضلون تمويلها بدلاً من المشاركة فيها بشكل مباشر. إن الحرب الحالية هي مسألة داخلية تخص “الاتحاد السوفييتي السابق” ولا ينبغي للغرب أن يتدخل فيها. النقطة المهمة ليست أن الكاتب يدعم بوتين أو يتعاطف مع أفكار “إزالة النازية” – بل إن الغرب النازف، وفقًا لويلبيك، ليس لديه الموارد اللازمة للمشاركة في صراع لا يرتبط به مباشرة ولا يشكل تهديدًا مباشرًا له. 

ومع ذلك، فإن فكرة انحدار أوروبا، التي كان ويلبيك مفتونًا بها على مدار العشرين عامًا الماضية، وكراهية البشر يشكلان أساس فلسفة الكاتب، وهي سمة مميزة لبعض أجزاء العالم الفكري الغربي.

و في روايته الثانية “الجسيمات الأولية” كتب ويلبيك، إن مستقبل البشرية جمعاء بما فيها سكان أوروبا قاتم: نحن جميعًا محكوم علينا بالهلاك. ستأتي النهاية المأساوية بالنسبة للبعض مبكرًا، وبالنسبة للآخرين بعد ذلك بقليل”. سيتم بسهولة استبدال نوع مصطنع جديد من المخلوقات الخالية من النشاط الجنسي والعدوان، والسمات الشخصية بالإنسانية الغارقة في اللامبالاة والنفاق والملل اليائس والقسوة التي لا مثيل لها. ويتم هذا الاستبدال على مستوى الكرة الأرضية ومن دون مشاركة المسلمين فيه. وقد طور يلبيك نفس الفكرة في رواية “إمكانات الجزيرة”. 

لكن رواية الكاتب الجديدة «إبادة»، تعود خطوتين إلى الوراء، إن جاز التعبير، من قداس مثير للشفقة على الجنس البشري بأسره، مرورًا بالوداع الهستيري والمرير للحضارة الأوروبية، إلى رثاء حياة إنسانية واحدة – مؤثرة ولا تقدر بثمن وفي الوقت نفسه سخيفة ولا معنى له..

جمع ويلبيك في “الـ”إبادة ” وتحت غطاء واحد مجموعة كاملة من العلل الأكثر إثارة في عصرنا – من التقسيم الطبقي الكارثي للثروة إلى أزمة اللاجئين، ومن البيروقراطية اللاإنسانية للطب إلى مشاكل الإعلام، ومن الركود السياسي اليائس إلى النخبوية والفساد. وعلى عكس عادته، يبني من هذه المواد ليس دراما صاخبة، بل مأساة هادئة لرجل صغير، مؤثرة في تفاهتها.

على عكس العديد من نجوم الأدب الذين يحرصون على تفردهم، غذى ويلبيك طوال حياته المهنية، نمطيته باستمرار، مما يمنحه، في رأيه، الحق في التحدث نيابة عن الرجل الفرنسي العادي والتعبير بالكلمات عن ادعاءاته ومخاوفه ورغباته غير الواضحة. . وعلى الرغم من كل التطرف الواضح، فإن آراء ويلبيك، في الواقع، ليست بعيدة كل البعد عن رأي الرجل الفرنسي العادي في الشارع، الذي يتذمر من أن فرنسا ليست هي نفسها اليوم، وغير راضٍ عن هيمنة المهاجرين ولامبالاة الدولة.

وهذه الديناميكية ليست من قبيل المصادفة ـ ذلك أن رجل الشارع الذي يزعم ويلبيك أنه ينقل رأيه، أصبح اليوم أعلى صوتًا على نحو متزايد في مطالبة الحكومة بموقف شخصي تجاهه. ولكنه لا يلقى أي استجابة: الطبقة السياسية تتجاهل بنجاح ويلبيك نفسه (على الرغم من ثقله الشعبي الكبير) والمطلب الشعبي الذي يجسده – في الأقل، هكذا يرى الكاتب نفسه الوضع الحالي في فرنسا.

لذا فإنًّ قادة التجمع الوطني اليميني، الذين لم يدعموا ويلبيك في ادعاءاته، خذلوا “الفرنسيين العاديين”، حسب رأيه، ومع ذلك، فإنه لم يتوقع منهم شيئًا مختلفًا. وليس من قبيل المصادفة أن يتحدث الكاتب عن اليمين المتطرف بسخرية لاذعة. تبدأ الرواية كقصة إثارة سياسية: تقوم مجموعة مجهولة من النشطاء بنشر مقطع فيديو تم انتاجه ببراعة. يتم فيه إعدام وزير الاقتصاد والمال برونو، السياسي الأكثر نفوذًا في فرنسا وضامن استقرارها الاقتصادي، إن لم يكن ازدهارها.

الهجوم الإرهابي الافتراضي تتبعه هجمات إرهابية حقيقية، مدبرة ببراعة، في البداية غير دموية، ثم دموية. يبدو أن وراء هذه الأحداث قوى تدفع فرنسا إلى الحرب الاقتصادية مع الصين، وتعارض أيضا القتل الرحيم والتلقيح الاصطناعي وغيرها من الابتكارات الليبرالية، ولكنها في الوقت نفسه ليست غريبة على السحر والتنجيم. وعشية الانتخابات الرئاسية (هذا هو الوقت الذي تتكشف فيه أحداث الرواية)، تتخذ خطاباتهم لهجة مشؤومة بشكل خاص.

الشخصية الرئيسية في “إبادة”، مسؤول في منتصف العمر يدعى بول رايزون، وهو موظف مرموق في وزارة الاقتصاد والمال، وصديق مقرب من الوزير يجد نفسه منجذبًا إلى هذه القصة المذهلة والخطيرة برمتها. يجب عليه أن ينضم مع رئيسه إلى السباق)، وفي الوقت نفسه يشارك في البحث عن الإرهابيين الغامضين.

لا يحرم ويلبيك نفسه من متعة السخرية من السياسيين الفرنسيين – وهذا لا ينطبق فقط على “التجمع الوطني” الذي سبق ذكره، ولكن أيضًا على الطيف السياسي بأكمله في البلاد. ومن الجدير بالذكر، أن فرنسا في رواية” إبادة” تتبع إلى حد ما مسار روسيا. يخطط الرئيس ذو الكاريزما والشعبية، الذي قضى بالفعل فترتين مسموح بهما في قصر الإليزيه، لترشيح “بديل” باهت بشكل واضح من حزبه مكانه، حتى يتمكن من بعده من العودة منتصرًا إلى الرئاسة – ويتم تنفيذ هذه الخطة بنجاح. وبشكل عام، يظهر ويلبيك عمل السلطات الفرنسية بأكمله على أنه مزيج غريب – ولكن في نفس الوقت واقعي للغاية – من السخرية والعبثية.

ومع ذلك، سرعان ما تتراجع المكونات السياسية والبوليسية في الرواية إلى الهامش، وتضيع في تقلبات حياة بول نفسه وعائلته. أب مشلول، وزوجة أب مضحية لا عزاء لها، وأخ أصغر فاشل وحياته الشخصية الصعبة، وأخت كاثوليكية وزوجها، وكاتب عدل طيب القلب قريب من المتطرفين اليمينيين، ولكن الأهم من ذلك، التغير الذي حصل في حياة البطل حيث دبت الحرارة في سلوك زوجته برودينس، بعد عشر سنوات من العلاقة الفاترة. وهذا يحل محل ما بدا مهما بالنسبة إليه من قبل. بعد أن غادر مقر الحملة بسبب فضيحة غبية، يدرك بول بارتياح مفاجئ أن المحتوى الرئيسي لحياته أصبح الآن الحياة نفسها، المنسوجة من التواصل مع المقربين منه، والفرح الهادئ، والطعام اللذيذ، والجنس، والخسارة والمرض..

لا شك أن موضوع تراجع الغرب لا يختفي تمامًا من رواية ميشيل ويلبيك. لا تزال جميع علامات تراجع الحضارة الأوروبية موجودة، لكنها هذه المرة بمثابة خلفية للدراما الإنسانية التي تتكشف على خشبة المسرح – وهو نوع من التناظرية للمناظر الطبيعية الخريفية أو الموسيقى الرثائية خلف الكواليس. وبدلاً من «رواية الأفكار» المعتادة، يقدم ويلبيك للقارئ، في روايته الجديدة ربما للمرة الأولى في مسيرته الكتابية، «رواية عن الناس. وينتقل مما هو سياسي واجتماعي الى ما هو عائلي وفردي.

بطبيعة الحال، فإن التأكيد على أن الأدب العظيم في عصرنا يبتعد عن الموضوعات الكبيرة سيكون عاما للغاية وبالتالي غير دقيق. ومع ذلك، يبدو أن هناك اتجاهًا معينًا آخذ في الظهور. التخلي عن المنصة لمتحدثين آخرين – نشيطين للغاية وحتى مزعجين. الكتّاب الأكثر حساسية للمزاج العام، بما فيهم ويلبيك، يبتعدون عن مشكلات علم الاجتماع والسياسة ويعودون إلى المستوى “الإنساني”. وحتى عندما يتحدثون عن ما هو عالمي، فإنهم يبرزون على نحو متزايد إلى المقدمة دراما فرد معين، وليس دراما فرنسا بأكملها، أو أمريكا بأكملها، أو العالم بأسره.

تنتقل الثقافة اليوم بشكل عام والأدب خصوصًا، من جلد الرذائل إلى شفاء الجروح. وتصبح الرقة والتفاهم أكثر قيمة من السخرية والشك الشامل. ميشيل ويلبيك، حفار قبور متمرس للحضارة الأوروبية، يستجيب لهذا الطلب الذي لم تتم صياغته بالكامل بعد، ولكنه موثوق به، في روايته الجديدة ينتقل إلى مهمة أكثر تواضعًا، ولكن أيضا أكثر إنسانية: البكاء على شخص معين.

أحدث المقالات

أحدث المقالات