1- كانت ثورة 14 تموز 1958 هي ثورة ” الوطنية العراقية ” التي عكست روحها الحقة وطموحاتها المشروعة في بناء دولتها الوطنية المستقلة وعبّرت ، كذلك ، عن برنامجها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي المستمد من حاجات الشعب العراقي الحقيقية وذات الصلة الأكيدة والمعبرة عن روحه وتراثه وتاريخه …لكن هذه الثورة الطموحة وقيادتها الفتية ( من ناحية تجربتها السياسية ) والتي كانت، والحق يقال ، تفتقر الى الحنكة والتمرّس، رغم نواياها الطيبة وروحها الوطني الجيّاش، ووجهت بطيف عدائي واسع ومؤثر ، داخلي وخارجي ، محلي واقليمي وعالمي حتى تم اغتيالها وقتل قادتها بابشع الصور.. لكن احداً لم يجرؤ على شطب برنامجها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي اذ عمل الانقلابيون والقوى السياسية التي كانت خلفهم على طرح انفسهم كتصحيح لمسار الثورة وعود به الى برنامج الثورة وغاياتها واستمرت هيمنة ثورة 14 تموز كتمثيل لروح ” الوطنية العراقية ” وطموحاتها طوال عقد كامل حتى مجيء البعثيين عام 1968..
2- ورغم ان البعثيين عملوا منذ البداية وعبر مختلف الاساليب والممارسات على طمس كل ما سبقهم وشطب كل فعل ايجابي يمّت بصلة الى غيرهم وحاولوا بكل ما اتيح لهم من قوة وسلطان غسل ادمغة الاجيال الشابة العراقية وتسطيح وعيها والباسها نظارات لا ترى الدنيا من خلالها الاّ بلونٍ واحد هو لون ” انجازاتهم ” و” بطولاتهم ” إلإ أنهم لم يجرؤا ، كذلك ، على شطب اسم ثورة 14 تموز لسببٍ واحد بسيط هو انهم كانوا يستندون في استلامهم الحكم واستمرارهم فيه الى مبدأ ” الشرعية الثورية ” وهو ذات المبدأ الذي استندت اليه ثورة تموز 1958 وثورات المنطقة والعالم جميعا ، لتلك المرحلة التاريخية ، تقريبا ، كما انهم كانوا في البداية يقدمون انفسهم ، ايضا ، كأستمرار وتصحيح لمسار تلك الثورة …
3- اما في مرحلة اختصار الحزب والوطن والأمة ، وذوبان كل شيء آخر ، الماضي والحاضر والمستقبل ، في شخص صدام وارادته و”افكاره ” فلم يبق من ثورة تموز على الصعيد السياسي غير اسم وذكرى اما على صعيد انجازاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فقد جرى تكييف وتضييق وتعديل كل شيء بما يخدم تصحير العراق وتحويله الى جسد مشلول وروح متبلدة وهذا هو الامر الذي جعل العراق يقع لقمة سائغة وسهلة في فم الامريكان وغيرهم ليتحول الى ساحة صراع وتكالب …
4- ومنذ الايام الاولى لتصدرها للمشهد السياسي وتمكنها من موقع القوة والقراراو بالاحرى مشاركتها للمحتلين لامكانات هذا الموقع ، قليلا او كثيرا وبحسب كل حالة او موقف ، سعت كل القوى الاجتماعية والسياسية المتسلطة حاليا الى اعلان موقفها السلبي من ثورة تموز وسعت علنا الى الاجهاز على كل ما تبقى من انجازاتها وبرنامجها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، لأن بديلها الذي تحلم به وتسعى الى فرضه يتنافى قطبيا ومنطق الثورة بل ولربما منطق الدولة ! ، فجرى ضعضعة وتفكيك ما تبقى من الدولة الوطنية ، وهو امر كان قد شرع فيه واوغل في تنفيذه صدام نفسه ، ثم عرّجت الى الاقتصاد ففرطت بمبدأ اساس لم يجرؤ احد على التفريط به طوال العقود السابقة وهو مبدأ الملكية العامة لمصادر الثروة الوطنية وقوانين وصيغ ادارتها واستثمارها وتكفل الفساد الذي اطلق له العنان بتهميش وتدمير كل ما تبقى مما سمي بالقطاع العام وكذلك جرى الامر في كل صعيد من منجزات تلك الثورة او مكتسبات الشعب العراقي التي ارسيت خلال اجيال ودون احتجاج يُعتّد به او موقف مضاد مؤثر من القوى الاجتماعية والسياسية صاحبة المصلحة في تلك المنجزات بعد ان غُيب وعيها وتشرذمت وحدتها وشُلت قدرتها على الفعل ، ولم يبق من ثورة تموز وكل برنامجها سوى اسمها ، حقا وفعلا هذه المرة ، وعندها بادرت قوى النظام الحالي الى ابطال الاحتفاء بثورة 14تموز كعيد وطني ولكنها حينما بحثت عن بديل مُقنع في صندوق الاسمال الخاوي الذي تمتلكه لم تجد سوى شيء مضحك وبديل سخيف هو يوم انضمام العراق الى عصبة الامم الملغاة كعيد وطني ، متناسية ان امريكا نفسها تحتفي بعيد الثورة الامريكية وبريطانيا العجوز نفسها ما تزال تفخر بثورتها الجليلة اما الثورة الفرنسية فلم تكن ايقونة فرنسية فحسب بل وعالمية !
5- لقد جرى ، أذن ، الغاء وشطب كل ما يتعلق بثورة تموز وآثارها خلال العقدين الماضيين ، عبر ممارسات وقوانين وقرارات ولم يبق لها من أثر سوى يوم عطلة لذكرى مشوشة في اذهان اغلب قطاعات السكان ، وجلهم من الشباب الذين لم يجدوا مؤسسة ذاكرة او ثقافة وطنية تتعهدهم بالتربية وتنمي فيهم الوعي بدلالات التواريخ الوطنية ، اما بقايا الاجيال التي سلمت من الديماغوجية البعثية وبقيت محتفظة بوعي وعاطفة حميمة اتجاه ثورة تموزتأثرا بجيل سابق هو جيل ثورة تموز الذي طواه الموت ، بقايا ” جيل الطيبين ” كما يصطلح عليه شباب اليوم ، مع ابتسامة وغمزة تشكك في قدراته ، فهو الاخر قريب من ان يغيبه الزمن فليجري اذن شطب والغاء هذه الذكرى رسميا ، وهكذا اتفق برلمان لا يجمع جل اعضاءه جامع مع ثورة تموز وذكراها على ذلك …ولكن هل سيعني هذا امكانية شطب ثورة 14 تموز من ذاكرة العراق الوطنية وسجل تاريخه السياسي المعاصر ؟ لا اظن ، ولربما جاء حين من الدهرأُعيد فيه لهذه الذكرى ألقها ورمزيتها والهامها كماضٍ مجيد مُلهِم !