27 ديسمبر، 2024 6:19 ص

رحلة في عباب الإبداع

رحلة في عباب الإبداع

صباح بشير:

رحلة في عباب الإبداع

 

“بعد أن كبر الموج” مجموعة قصصيّة، صدرت عن دار الوسط للإعلام والنّشر في مئة وعشرين صفحة، وفي اثنتين وعشرين قصّة مختلفة تلامس أوتار القلوب، وتثير شغف القارئ بلغتها المتدفّقة بالمشاعر.

 

      سيميائيّة العنوان ودلالاته العميقة المكثّفة:

هذا العنوان “بعد أن كبر الموج” مليء بالدّلالات التي تضفي على المجموعة ثراء معنويّا وبعدا أدبيّا خاصّا. هو عنوان رمزيّ مثير للفضول يمكن تفسيره بطرق شتّى، فهو يطلق العنان لخيال القارئ ويغريه بالتعمّق في هذه المجموعة لسبر أغوارها. 

كما تبدو الكاتبة وكأنّها تضع نفسها في هذا العنوان الذي يشير إلى نضج اختيارها، فالموج رمز للحياة يموج بالأحداث والمشاعر، ينهمر ويتلاطم ويكبر؛ كتجاربها التي كبرت ونضجت مع مرور الوقت وحملت معها عبق الماضي وحكمة الحاضر. والموج يصوّر القوّة والصّلابة في مواجهة التّحدّيات والصّعاب، وهو أيضا رمز للحلم والرّغبة المتوقّدة في التحرّر من القيود.

 يمكن ربط عبارة “كبر الموج” بشكلٍ مباشر بنموّ شخصيات القصص مع مرور الزّمن، فكما يتنامى الموج، تصبح شخصيات القصص أكثر نضجا وعمقا، تمرّ بتحدّيات تغيّرها وتطوّرها، وبالتّالي، فأحداث القصص تصبح أكثر تعقيدا. ولا تقتصر رمزيّة العنوان على ذلك فقط، بل تتّسع لتشمل طيفا من الإمكانيّات، تبعا لفهم القارئ وخيال الكاتبة ورؤيتها، وبناء سياقها السّرديّ. 

إذن.. هو اختيار موفّق لمجموعة قصصيّة تعنى بموضوعات إنسانيّة متنوّعة، تشكّل فيها المرأة لوحة فنيّة حيّة بكلّ تناقضاتها، بقوّتها وضعفها، بفرحها وحزنها، بأحلامها وآلامها. ولم تغفل المجموعة أيضا، عن تصوير الرّجل بكل حالاته، مشاركا في أفراح الحياة وأتراحها، وشاهدا على متقلّباتها وتغيّراتها، متأثّرا بما حوله ومؤثّرا به.

 

          قصص من أعماق الروح:

تطرح كلّ قصّة من القصص واقعا مختلفا، بينما تشكّل الرّسالة الكليّة للمجموعة دعوة لاستكشاف أعماق النّفس الإنسانيّة. ولعلّ التّركيز على بحث المرأة عن ذاتها، من أبرز علامات السرد النّسويّ في هذه المجموعة، فالمرأة تقاوم وتتحدّى وتواجه الصّعاب بقوّة وعزيمة.

تفتتح الكاتبة بقصّة “أفقد نفسي” (ص5)، فتجسّد صراعا داخليّا يواجهه الإنسان في خضمّ الخيانة وتأثيرها على علاقاته الاجتماعيّة والعاطفيّة.

في القصّة الثّانية “شغف” (ص20)، تغوص بنا في رحلة فلسفيّة داخل هذا الزّمن المتخبّط سعيّا لفهم طبيعته، فتمهّد للنّص بكلمات الشّاعر أدونيس الرّنانة، التي جاءت مدخلا ملهما ومثيرا للخيال، توضّح مشاعر الإنسان المتضاربة بين اليأس والأمل والفرح والحزن، وتعبّر عن نظرتها الفلسفيّة حول وجود الإنسان ومكانته في هذا الكوّن. ولا شكّ أنّها كتبت هذا النصّ متأثّرة بكتابات جبران الفلسفيّة، وما فيها من قيم إنسانيّة رفيعة، ومن تدفّق في الأسلوب ووضوح في الومضات، ومخاطبة رمزيّة وروحيّة، والتحام بالوعيّ الكونيّ.

لا نجد تسلسلا زمنيّا للأحداث في هذه القصّة، بل نجد رموزا تحتاج تحليلا عميقا، وهي لا تقاس بمعيار الأحداث الحقيقيّة، بل تفهم من خلال تعبيرها الرّمزيّ؛ فقد انبثق النصّ في ثوب نثريٍ مزخرف بالصّور البيانيّة التي تضفي عليه سحرا وجاذبيّة، تتدفّق كلماته كشلّال عذب، تاركة وراءها أثرا عميقا في نفس كلّ قارئ متذوّق للحرف. وممّا كتبته في الصّفحات (20-21-22): 

تأبّطت كتاب الأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران، أخفيته تحت طيّات فستاني الذي كنس الطّريق الترابيّ المؤدّي إلى الكرم. أنا سلمى بحبّها العارم، وبأجنحتها المحلّقة خارج الزّمان والمكان، دعاني الوجد، وكنت ألمح طيف السيّد المسيح يمشي على الماء كالظّل، يقطع بحيّرة طبريّا هاربا من الأعداء، وقد عميت أبصارهم. لمحوه كطيف وكظل يسير حافيا فوق الماء. وبين النّبيّ والمجنون والأجنحة المتكسّرة ورمل وزبد، تتنازعني الأطياف والأفكار.

خشيت من إفشاء عشقي لجبران السّماويّ، الذي أهداني أوّل وردة محبّة، وبعث بي روحا متمرّدة، وعرائس ومروج، ودمعة وابتسامة، وعواصف وموسيقى، ورملا وزبدا.

استدعاني البحر إليه كما استدعى جبران، ووقفت على ربوع جبال الكرمل المحيطة بالكرم، وأدركت أنّني سأعطي للطّبيعة من نفسي، ومن الجمال كما أعطتني.

فهمت جبران بطريقتي، فبعضي حبر وبعضي ورق، وأنا كلاهما، وما أنبل القلب الذي بإمكانه إنشاد الفرح وهو حزين.

هكذا، ارتقيت بنفسي لوحدي، وحفظت قاموس الحياة منذ طفولتي وأنا أردد: 

الحياة مثلما تتغنّى بجمالها، نستطيع أن نغنّيها بصمت، والبقيّة ستأتي.

من خلال هذا النصّ النّثريّ الصّوفيّ الرّومانسيّ، الذي قَدّمتُهُ هنا بشكل مختصر، تقدّم لنا الكاتبة وصفا غنيّا بتفاصيل رمزيّة ومشاعر جيّاشة؛ لحالتها النفسيّة والوجدانيّة، بعد قراءتها لكتاب الأجنحة المتكسّرة، فتُظهر تأثّرها الواضح بأعمال جبران الفلسفيّة، التي ذكرتها في النصّ لتجسّد رحلتها الفكريّة، معبّرة عن شعورها بالاندماج مع الكون أثناء رحلتها في البحث عن معنى الحياة.

يرمز الطّريق الترابيّ الذي وصفته إلى مسيرتها الداخليّة نحو الاكتشاف الذاتيّ، فكلمات جبران ألهمتها وأثّرت في مسارها الإبداعيّ، فشعرت وكأنّها سلمى في سيمفونيّة حبّ، ووحدة روحيّة مع جبران. وتشير عبارة “المسيح يمشي على الماء”، إلى الأمل والخلاص من المعاناة، ويمثّل البحر اللانهاية والحريّة.

أمّا جبال الكرمل فتشير إلى المكان الذي تعيش فيه الكاتبة التي نحاول استلهام أفكارها، فنجد أنّ ذكر كتاب النبيّ يجسّد شعلة التّوجيه الرّوحيّ المنير لدربها، بينما يدلّ كتاب المجنون على تفكيرها الداخليّ، ونضالاتها في سبيل التحرّر من قيود الواقع. 

أما كتاب الأجنحة المتكسّرة، فيعبّر عن أحلامها وطموحاتها التي لم تُحقّق بعد، بينما نستدلّ من كتاب رمل وزبد على فناء الحياة وهشاشتها.

في هذا النصّ أيضا إشارة إلى أهميّة القراءة، إذ تؤكّد قبّلان على أهميّتها في تنمية العقل والرّوح، ودورها في صقل موهبتها ومهاراتها الكتابيّة والإبداعيّة التي تتخلّلها العاطفة والإلهام والتّعبير.

استخدمت أيضا أسلوب السّرد الذاتيّ، وركّزت على مشاعرها وأفكارها، وكذلك أسلوب التكرار، مثل: “الحياة مثلما تتغنّى بجمالها، نستطيع أن نغنّيها بصمت” و “ استدعاني البحر إليه كما استدعى جبران”.

كما خلقَت من اللّغة المجازيّة الغنيّة بالصّور والأسلوب السرديّ عالما من المعنى والجمال، مثل: “استدعاني البحر” و “حفظتُ قاموس الحياة”.

أمّا عبارة “البقيّة ستأتي” فتركتها مفتوحة للتأويل؛ لتضيف الغموض إلى النصّ وتدعو القرّاء إلى الانخراط في تأمّلاتهم وتفسيراتهم المختلفة.

توضّح هذه العبارة أيضا، ترقّب الكاتبة لما يخبّئه لها المستقبل، فهي ترى الحياة رحلة متجدّدة ومستمرّة من التّجارب التي تلوح في الأفق، وهذا ما يتوافق مع صور البحر والطّبيعة في النصّ التي ترتبط بدورات التجدّد الدّائم.

 

في سياق قصّة أخرى تحمل عنوان “ثرثرة” (ص26)، تشاركنا تجربتها الشّخصيّة أثناء رحلتها من الأردن إلى البلاد، فتصف الشّعور بالتّرقب والقلق الذي ينتاب المسافرين بين المعبرين، وتسلّط الضّوء على المشاعر والأفكار التي انتابتها خلالها.

وفي سياق قصّة “اشتهيك يا موت”(ص30)، تقدّم لنا حكاية امرأة تهرب من رجل استباح جسدها، تصوّر حالة الخوف التي تسيطر عليها أثناء هروبها من معتديها، ورعبها وحالتها النفسيّة، واضطرابها بين الرّغبة في النّجاة والخوف من المجهول.

في القصّة التي تليها “العار” (ص34) تقدّم حكاية مؤثّرة وفكرة مشابهة، عن فتاة تصبح ضحيّة لخيانة خطيبها بعد أن استباحها وتركها محبطة وحيدة وحزينة، تتحمّل مسؤوليّة حملها، فتصوِّر مشاعرها المتضاربة بين الحبّ والألم والخوف.

تشكّلان هاتان القصّتان لوحتين مؤلمتين مظلمتين عن واقع العنف ضد المرأة، وتثيران أسئلة مهمّة حول مسؤوليّة الأسرة والمجتمع في حماية النّساء من الاعتداء.

تثيران أيضا فكرة ما يسمّى بالشّرف في المجتمعات الأبويّة الذكوريّة، المهووسة بتأثيم المرأة على خلفيّة هذا المفهوم الخاطئ، الذي يستخدم لتبرير العنف ضدها، حيث تعتبر رمزا لشرف العائلة وأيّ سلوك مخالف للأعراف والتّقاليد، يفسّر على أنه يلحق العار بالأسرة، فتقتل كوسيلة لاستعادة الشّرف المزعوم، الأمر الذي يمثّل ظاهرة خطيرة تهدّد حياة النّساء.

يحضرني هنا ما جاء في شعر عنترة بن شدّاد: 

ولَقَد ذَكَرتُكِ والرّماحُ نَواحِلٌ مِنّي.. وَبيضُ الهِندِ تَقطرُ من دَمي

فَوَدَدتُ تَقبيلَ السّيوفِ لأَنّها..  لَمَعَت كَبارِقِ ثغركِ المُتَبَسّمِ

من رحم الزّمن العربيّ العريق، يرتسم هذان البيتان كلوحة فنيّة تُجسّد معنى الرّجولة الحقيقية. فيهما تتراقص كلمات الشّهامة والشّجاعة والشّرف، كسيف يصدّ العدوان، وتترقّرق مشاعر الإنسانيّة، لتلامس أرواحنا. فكيف إذن انحدرت هذه المعاني الساميّة لتُقيّد بأفكار رجعيّة؟

إنّ الرّجولة، إن هي إلاّ قيم إنسانيّة نبيلة، تُعلي من شأن المرأة وتُكرمها. فكيف استغلّت بعض المجتمعات هذه القيَم النبيلة، لفرض هيمنتها على المرأة، مُقحمة إيّاها في قفص من العادات والتقاليد الباليّة؟

أليست الرّجولة الحقيقيّة تكمن في تحرير المرأة من قيود الظّلم والقهر، وتمكينها من تحقيق ذاتها ومساهمتها في بناء المجتمع؟ إنها رحلة طويلة، تبدأ بخطوات صغيرة، تُكسّر قيود الجهل، وتنير دروب المستقبل.

فهل نعيد للرّجولة بريقها الأصيل ونحرّر المرأة من قيودها، لنسير معا نحو مجتمع ينعم بالعدل والمساواة؟

هذه الأسئلة وغيرها تشعل جذوة القصّتين السابقتين، وتثير التفكير حول مفهوم الشّرف والرّجولة في المجتمعات الذكوريّة.

نسير نحو قصّة “جمر وأمر” (ص41) نقرأ عن فتاة تدعى فاتن، ومعاناتها من تصرّفات والدتها المتسلّطة التي تؤثّر سلبا بأنانيتها على جميع أفراد الأسرة. 

تلجأ الفتاة إلى أبيها، لكنّ شخصيّته ضعيفة، ويعجز عن المواجهة. 

يفضّل الصّمت والسّكوت عن زوجته، تجنّبا لكلام النّاس وحفاظا على سمعة العائلة، فتقرّر الفتاة الهروب إلى الدّير كملاذ أخير يمنحها السّكينة والأمل والقوّة، وتكرّس حياتها للعبادة بعيدا عن قسوة الأمّ.

 تسلّط هذه القصّة الضّوء على إشكاليّة وجود شخص نرجسيّ داخل المنزل، وتجسّد تأثير ذلك وتداعياته المترتبة على جميع أفراد الأسرة، كما تقدّم دعوة للتأمّل في دور الدّين في حياتنا، فهل هو ملاذ من متاعب الدّنيا، أم أداة للهروب من الواقع؟ 

أمّا الـقصّة المعنونة بسرب ضجيج (ص53) فتروي حكاية شابّة تعاني من التّشتّت النّفسيّ وتركّز على أهميّة الحبّ.

تستخدم الكاتبة في هذه القصّة أسلوبا سرديّا متدفّقا، يجمع بين الواقعيّة والخيال، وذلك بلغة شعريّة أنيقة، مليئة بالصّور الرّمزيّة والاستعارات. كما تعتمد على السّرد الدّاخليّ في كشف أفكار البطلة ومشاعرها للقارئ.

القصّة التّاسعة “بعد أن كَبُرَ الموج”، تحمل عنوان المجموعة بذكاء، وتصوّر صراعا داخليّا لفتاة عاشقة للقراءة والكتابة، وتحت الفراش بعيدا عن الأعين، تخبّئ ما خطّته من أفكار وخيالات وشغف، على أوراق تمثّل ملاذها الوحيد من قسوة الواقع.

 لكنّ السرّ لا يطول، إذ تنكشف خباياه أمام والدتها التي تحاول قمعها؛ لتغدو الفتاة أسيرة حبّها للقراءة والكتابة، مجسّدة بذلك صراع الأجيال والقمع في بيئة لا تقدّر قيمة الإبداع، ولا تتيح مساحة للتّعبير عن الذّات، ولا تتفهّم طموحات الأفراد ولا تشجّعهم على التقدّم.

هذه القصّة ثريّة بالمعنى، تمكّن القارئ من التّماهي مع مشاعر البطلة وأفكارها، وتثير نقاشا حول حريّة التّعبير واحترام الخصوصيّة.

النّصّ العاشر بعنوان “لوّم” (ص64) وهو ليس قصّة بالمعنى التقليديّ، بقدر ما هو نصّ نثريّ مؤثّر، يظهر الألم الَّذي تعيشه أمّ جرّاء فقدان ابنها، فتعبّر الكاتبة عن مشاعر الأمومة الصّادقة والفقد والحزن، وتصف الظّلم والقهر والعنف وفقدان الأحبّة،  وتدعو إِلى التّضامن مع الأمّهات الثَّكلى في كلّ مكان. 

تتميّز لغة النصّ بجمالها وصورها الشّعريّة وتعابيرها الحزينة، كما يضفي الاقتباس من أشعار سميح القاسم في نهاية السّطور عمقا ومسحة من التراجيديّا.

في قصّة “ذاكرة العسل المرّ” (ص68)، تخلق الكاتبة أجواء حالمة تثير الأحاسيس، حين تجسّد حكاية ستيفانوس وكارمن، في ظلّ مأساة إنسانيّة، ليجد كلّ منهما في الآخر ملجأ من آلامه وأحزانه، بعد أن عانيا من ويلات الحرب وفقدان الأحبّة.

أمّا قصّة “نقرات الكعب العالي” (72ص)، فتصف حالة الحزن التي تخيّم على شاب يرى في الخيال مهربا من واقعه القاتم.  تحلّق خيالاته وهو يتأمّل بشغف جمال شابّة يراها فتاة أحلامه، لكنّ القدر يتدخّل وتأخذ الأحداث منعطفا مأساويّا مفاجئا، حيث تصاب الشابّة بحادث مروّع، يطفئ شمعة حبّه وآماله وأحلامه.

وعند الحديث عن النّصّ المعنوّن بمنفضة (ص77)، فهو صورة قلميّة قصيرة ومكثّفة، تغوص بالقارئ في رحلة سرياليّة عبر دهاليز الذّاكرة والصّور المبهمة التي تثير الغموض وتحفّز على التأمّل. 

يعتمد هذا النّصّ على الإِيحاء برموزه المنبثقة من العبارات الحسّيّة، التي تترك للمتلقّي مجالا للتصوّر والتخيّل لإكمال الدّلالات الرمزيّة كما يوحي بها، حيث تصبح المنفضة رمزا للأحلام والذّكريات التي تضمحلّ مع الوقت.

قصّة “رهان” (ص78) هي حكاية امرأة تنجذب إلى رجل غريب الأطوار يثير فضولها، وفي النّهاية يتحوّل هذا الانجذاب إلى ريبة وشكّ، ما يدفعها إلى الهرب.  

لا يقدّم هذا النصّ تفسيرا واضحا لتصرّفات الرّجل أو لمشاعر المرأة، ما يترك الأمر مفتوحا للتأويل. 

في نصّ طائر النّفايات (ص 83)، تحيك الكاتبة من الكلمات طائرا نادرا، مستهلّة سردها بكلمات الأديب حيدر حيدرِ، الَّتي تحمل معنى رمزيّا مجازيّا يتجاوز المعنى الظّاهريّ.

تتابع في نقد الواقع القاتم، فتشير إِلى عدم إيمانها بإمكانيّة التغيير أو الأمل، وتترك المعنى مفتوحا. 

 تتحدّث عن هذا الطّائر الغامض وتعرّف بأنواعه المختلفة، موظّفة لغة بيّنة مليئة بالرّمزيّة والصور الحيّة، لتضفِي على النّصّ تأثيرا عاطفيّا قويّا زاخرا بالإيحاءات والاشارات المُلَمّعة بالغموض، فتدفع إلى التّساؤل:

من هو طائر النّفايات هذا؟ هل هو ظاهرة متفشيّة؟ أم سلوك اجتماعيّ سلبيّ؟ أم رسم لواقع ديستوبيّ؟ 

في قصّة “دون خيار” (ص88)، تضعنا الكاتبة في مشهد يثير ألوانا من الحزن واللّوعة. تكتب عن صراعها مع المرض، وعن مشاعرها جرّاء الفقد؛ لتغدو الكلمات رثاء ووجدا، وتضيف إلى النصّ عمقا من خلال دمج بعض أَبيات الشّعر، الَّتي تعزّز من مشاعر الألم. وممّا كتبت: 

تَلَوَّنَت الأقاحِي بِالشَّحُوبِ .. فَنُوحِي يَا مَدَامِعَ أو فَتُوبِي

أَيَغفُو العُمرُ بَعدَ فِرَاقِ نَهرٍ .. وَتَلتَئِمُ الثَّوَانِي مِن نَدُوبِي

وكأنّ الشّاعرة هنا، تعكس المشاعر المجروحة التي لم تلتئم، فالوقت برأيها لن يداوي الجراح، ولن يوقف الدّموع بعد الفقد.

تتساءل عن إمكانيّة الحياة بعد رحيل من وصفته بنهر الوجود ومصدر الحياة، تقوم بتوظيف الصّور الطبيعيّة المعبّرة، وتشير بالأقاحي إلى الزّهور التي أصابها الشحوب والذبول؛ لِتُرمِّز بذلك إلى شدّة الحزن بعد الفقد.

ثمّ تجمع شتات روحها فوق سرير أبيض داخل جدران المستشفى (ص94)، فتبوح عن مشاعرها المتضاربة بين الألم، والأمل بالشّفاء، ليغدو السّرير الأبيض مسرحا لصراع مؤلم مع المرض ومشاعر الفقد، وتغدو اللّحظات حينها اختبارا لصبرها وقوّتها.

نقرأ بعد ذلك قصّة “وفاء” (ص98) حيث تنقش البطلة ثوب ذكرياتها بخيوط الوفاء لزوجها الغائب تاركة قلبها رهينة لقيد الحنين، لكنّ شعلة الوفاء تنطفئ تدريجيّا مع مرور الزّمن، وتصبح الذّكريات عبئا ثقيلا. 

تنتقل الكاتبة بعد ذلك إلى نصّ آخر بعنوان “مغفرة” (ص104) تختمه بعبارة “يسقط الحلم من حنين الذّاكرة”، وتلحقه بنصّ “هودج الأحزان” (ص106) الذي تنهيه بعبارة “الأمّ المكلومة”، وتصطحبنا إلى نصّ آخر بعنوان “خطيئة” (ص109)، ثمّ تختتم بقصّة “هناء” (ص112). 

      

          ملامح أسلوبيّة: 

تتميّز هذه المجموعة بالدّمج المبدع بين السّرد والنّثر والشّعر والصّور القلميّة، هذا المزج الفريد يجعلها أكثر تشويقا وجذبا، فالسّرد يحاكي الواقع ويدخل المتلقّي في أجواء القصّص، ويسبغها النّثر بالسّلاسة والوضوح، أمّا الصّور القلميّة فتثير المشاعر وتحفّز الخيال، واللّغة الشّعريّة تكسوها بالجمال والرّومانسيّة. 

تمتاز هذه المجموعة أيضا بقدرتها على خلق وحدة الأثر أو الانطباع، تماما كما وصفه “إِدغار آلان بو” الّذي عرّف الانطباع، أنّه كل ما يجب أن تخلّفه القصّة في ذهن القارئ، مؤكّدا على ضرورة أن يكون هذا الأثر واحدا ومباشرا وقويّا، ومشدّدا على أهميّة اختيار العناصر الفنيّة بعناية وتوظيفها بمهارة مع لغة قويّة، ذات إيحاءات معبّرة.

 

تتوفّر أكثر تلك الشّروط في قصص هذه المجموعة وأحداثها التي تركّز على جوانب الحياة اليوميّة، ببساطتها وتعقيداتها، ليغدو السرد متماشيا مع طبيعة الأفكار المتناولة، بكلّ ما فيها من ثراء.

كما نستشعر الأسلوب الأنثويّ النّاعم من خلال اللّغة العذبة، الزّاخرة بالكلمات ذات الدّلالات العاطفيّة؛ كالحبّ والأمل والحزن والفرح، التي أضافت إلى النّصوص لمسة خاصّة. ووفقا لعدسة نظريّة الاستقبال والتلقّي للمفكّر الألمانيّ “هانس روبرت ياوس” نجد أنّ عناوين القصص وضعت كبوابات، تفضي إلى عوالم مظلمة ونورانيّة في آن واحد، تشير إلى قضايا تؤرّق الكاتبة؛ فتبثّها في قصصها لتحفّز القرّاء على التّفكير في مغزى الوجود، وذلك من خلال تصوير العبثيّة والوجوديّة، والكشف عن تناقضات الحياة وصراعاتها.

كما يتجلّى تأثّر الكاتبة بكافكا، بوضوح في عناوين قصصها وأسلوبها الرّمزيّ، الذي يضيف طبقات من المعاني إلى القصص.

جاء ذلك في صور نثريّة غنيّة مقرونة بحوار تفاعليّ عاطفيّ، وسرد واقعيّ أحيانا، ورومانسيّ أحيانا أخرى، وغموض وسرياليّة مرّات ومرات، وكلّها تنصهر في بوتقة الخيال الأدبيّ، وتجتمع بشفافيّة اللّغة وانسيابها، وبفنيّة الصّور البيانيّة من وصف واستعارة وتشبيه وكناية ومجاز لغويّ، وثراء في المفردات ودقّة في التراكيب.

هذا من ناحية؛ لكن.. من ناحية أخرى فقد استهدف هذا العمل نخبة القرّاء، وذلك لغوصه العميق في الرّمزيّة.

يضفي هذا الاستغراق في الرّمزيّة على العمل بعدا من الرّقيّ والإلهام، بيدَ أنّ هذا الاستغراق صعب على القارئ العاديّ البسيط، ما يؤدّي إلى صعوبة فهمه للأفكار الواردة وتحليلها، وبالتّالي إلى عزوفه عن القراءة، وهذا الأمر يعيق وصول العمل إلى جمهور أوسع.

وبعد.. تبقى قراءة هذه المجموعة تجربة مثيرة للاهتمام؛ فكلّ جملة محكمة بعنايّة، وكلّ كلمة مختارة بدقّة، وكلّ مشهد يهدي إلى النّصّ جمالا وتأثيرا خاصّا.

– ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثقافيّ.

 16.05.2024

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة