18 ديسمبر، 2024 8:44 م

صورة الاستاذ محمد يونس جبر الساعدي !

صورة الاستاذ محمد يونس جبر الساعدي !

كلما سنحت لي الفرصة في الحديث مع استاذتي الكبيرة عبر أثير الهاتف ناشئة بهجت كوتاني المقيمة منذ مطلع الثمانينات مع عائلتها في عاصمة الضباب ” لندن ” . جرنا الحديث نريد أو لا نريد وغصبن علينا الى ذكريات الماضي البعيد في أروقة كلية الأداب / جامعة بغداد أساتذة وطلبة ومواقف وتداعيات وقاعات محاضرات ، واجواء سياسية مشحونة . في مهاتفتي الأخيرة لها لكي أطمئن على صحة البرفيسور ضياء نافع ، الذي يعاني في وضع صحي صعب في ضيعة فلاديمير الروسية ، والحديث لا يخلو عن السؤال أيضاً : عن صحة زوجها الاستاذ حسن العيدي ، متمنينا لهما تجاوز أزمتهم الصحية والعودة الى حياتهم الطبيعية رغم حوبة العمر اللعينة وقساوة المنفى والبعد عن أرض الوطن . في فترات ماضية ومن منطلق الوفاء والشكر وما تركوه في مسيرة حياتي من أثر حب للمعرفة والبحث في جدلية الحياة والموقف . كتبت عنهم واحداً واحداً الاستاذة الراحلة حياة شرارة ، الاستاذ الراحل جليل كمال الدين ، وعلى ضوء ذلك الجهد حول حياة ومسيرة الاستاذ جليل . قدم الاستاذ كمال يلدو في برنامجه ”اضواء العراق ”. حلقة كاملة ، كانت حلقة متميزة وغنية بحق الاستاذ جليل كمال الدين . وكتبت حول البرفيسور ضياء نافع ، وتشرفت بمقدمة كتابه ” أربعون مقالة في الأدب الروسي . ولم يغب عن بالي شخصية استاذتي الكبيرة ناشئة بهجت كوتاني !. 

ولم يهدأ بالي يوماً ، وتتزاحم في ذاكرتي تداعيات مؤلمة عن استاذي محمد يونس ، كلما مررت على ذكريات الماضي الثري ، وفي زحمة أعدادي لكتابي القادم ” مأساة الأدباء الروس في الحقبتين القيصرية والاشتراكية ” وسيحظى بمقدمة الدكتورة ناشئة كوتاني . كان الاستاذ المرحوم محمد يونس الساعدي حاضراً بقوة وبتنوع مؤلفاته حول الأدب الروسي ، نيكولاي غوغول ورائعته ” النفوس الميته ” . إيفان تورغينيف ورائعته ” الأباء والبنون ”. ومن ضمن كتبه وبحوثه القيمة ” مدخل الى الأدب الروسي في القرن التاسع عشر  ” . وكتابه النقدي في حقل الأدب المقارن ” الكلاسيكيون الروس والأدب العربي ” . فضلا عن مئات المقالات النقدية والأدبية حول الأدباء الروس . تعود معرفتي بالراحل محمد يونس الى عام ١٩٨٠ في كلية الأداب / جامعة بغداد . كان أحد أساتذة القسم الروسي في مادة النقد الادبي والأدب المقارن بأسلوبه السلس وطريقته المشوقة في طرح المادة واغنائها المعرفي ، مما ترك أثر واضح وحب في لهفتنا لمتابعة المادة والنقاش حولها . كان الاستاذ محمد يونس شديد الحرص في طرح مادته الادبية علينا ، وحرصه على إستيعابها في تفكيرنا من خلال سماع أراؤنا ومشاركته حول محاضراته وتقييمها ، وكان غالباً ما يحثنا على القراءة والمتابعة ، ويرغبنا بقراءة كتاب معين حول الادب الروسي في العطل الرسمية ، وعندما نعود الى قاعة المحاضرات يسألنا : من قرأ كتاب ؟. طبعا ، كان أغلبنا قد قرأ كتاب ما ، لكن في الغالب كنا مترددين عن الاعلان عن قراءة الكتاب ، لإنه في الخطوة القادمة ، يتوجب علينا أن نستقرأ محتويات الكتاب ومناقشة أفكاره وأبداء رأينا الشخصي حوله ، مما كان يشكل أحراجاً لنا في البداية من منطلق الخجل والتردد والرهبة ، لكن استاذ محمد يونس أستطاع بهدوءه وأسلوبه الشيق أن يساعدنا في تجاوز هذا الموقف الحرج في أستقراء محتويات الكتاب ، وبمرور السنوات أصبح دافعنا في الحديث عن الكتاب أمر مشوق وفيه متعة ومعرفة . وهذه تحسب الى عبقرية الاستاذ محمد يونس وتضاف الى سجله الثر . وأنا شخصياً من ذلك الوقت الى يومنا هذا ، أمتدت الى أكثر من أربعة عقود مواظب على هذا الاسلوب في القراءة ، حيثما أي كتاب يقع بين يدي أسجل ملاحظاتي حوله ورأي الشخصي به أحيانا للحفظ وتارة النشر في المواقع والصحف .  

ولد الفقيد محمد يونس الساعدي بمدينة الكاظمية عام ١٩٣٧، وفيها أكمل الإبتدائية والإعدادية ، وتعود جذوره الى الجنوب العراقي مدينة ” العمارة ” . سافر إلى موسكو عام ١٩٥٨ ، لدراسة اللغة الروسية وأدابها ، وحصل على شهادة الماجستير  من جامعة موسكو عام ١٩٦٥ ، في رسالته الموسومة حول أدب ” إيفان تورغينيف ”. عاد للعراق للتدريس في معهد اللغات ، وكان يومها عميد المعهد الدكتور باقر عبد الغني ، وأصبح محاضراً في المعهد ، لحين تولي لجنة تقوم بمعادلة الشهادات ، وبعد شهر عادت الاستاذة ناشئة كوتاني من موسكو متخصصة بأدب الاطفال وقدمت الى نفس المعهد لوظيفة التدريس ، وتم أيضاً اعطائها محاضرات لحين تعادل الشهادة ، ولكن الغريب في الأمر ، إن عمادة المعهد منحوهم  لقب لم يسبق له مثيل في الجامعة ، وهو لقب معلم وليس كمعيدين خريجيين كأي تقليد جامعي في العالم ، وبهذا يكون الاستاذين محمد وناشئة أول شخصين تم تعينهما في فرع اللغة الروسية في معهد اللغات . وفي سنوات لاحقة ، وعندما فرض الحصار الدولي على العراق وتعرضه الى هدم مؤسساته وتحطيم بنيته بحجج واهية وقرارات ظالمة . ترك الاستاذ محمد العراق عام ١٩٩٧ ، بألم وحسرة على ما أصابه من أذى بإتجاه دولة اليمن السعيد ، وعمل في جامعة ” تعز ” الى عام ٢٠٠٧ ، وبعدها عاد الى العراق ، وعمل كأستاذ في جامعة القادسية . قدم عدة بحوث مشتركة حول الأدب الروسي مع الراحلة الاستاذة حياة شرارة ، وقد أغنى المكتبة العربية ببحوثه ودراساته ، واعتمدت كمصادر للتدريس في أكاديميات عدة . وافاه الأجل بعيداً عن تربة بلاده ، الذي أفنى حياته من أجله في دولة ماليزيا عام ٢٠٠٩ ، خلال زيارته لابنه بشار المقييم في ماليزيا . وفي رحيله المؤلم ، كتب عنه العديد من النقاد وطلبته وزملائه استاذ ضياء نافع مثالا . 

يقول سعيد عدنان في مقالة سابقة له في الحوار المتمدن :

((..  كان محمّد يونس ممّن نشأ على أن الأدب ذو رسالة اجتماعيّة ، وأنّ ممّا يرمي إليه ؛ أن يزيد من وعي الناس ، ويرتقي بهم فكراً وذوقاً ، وأنّ الجمال غير مفصول عن الخير ؛ فلمّا أُتيحت له دراسة الأدب الروسيّ في موسكو ؛ زاد الأمر وضوحاً لديه ، وأخذ ينظر في الأدب والأدباء بمنظار منه .  وقد كان ذلك ممّا بنى كيانه بناء رصيناً ، وجعل معنى الأدب والفكر عنده موصولاً بمعاني العدالة الاجتماعيّة ، وسلامة الموقف منها.  ولم يتردد الدكتور محمد يونس بالاتصال بمن سبقوه من الكتاب العراقيين من أمثال غائب طعمة فرمان للوقوف على آرائهم في الأدب الروسي وقد أكّد غائب طعمة فرمان في رده على رسالة محمد يونس بأنه من أشد المتأثرين بأدب تولستوي – فهو- تولستوي- من علمّه كيف يخطط للرواية قبل أن يكتبها ، وهو من اؤلئك الذين يصف ادبهم – بحسب فرمان ، بالسحر الحلال)).. أنتهى الاقتباس . 

في مهنته الوظيفية الاكاديمية كاستاذ للادب الروسي في جامعة بغداد ، تعرض الى مضايقات أمنية لإجباره على الانتماء الى صفوف حزب البعث ، وحاول بكل قناعة أن يرفض الخضوع لهذا الاكراه ، وهو في عز عطائه الفكري والادبي وقوة عنفوانه ، وفي فترة الانفراج السياسي بعقد الميثاق الوطني بين الشيوعيين والبعثيين عام ١٩٧٣ ، شعر بالهدوء وفسحة الأمل مما دفعه الى النشاط في التأليف والكتابة  . في عام ١٩٨١ ، تعرض الى وعكة صحية ألزمته البيت وغاب عن الحضور الى الحرم الجامعي  ، وبادرنا بتشكيل  وفد من الطلبة والطالبات رفيع المستوى على حد وصف الاستاذ طارق الكاظمي ، في اليوم الثاني لزيارته في بيته الكائن في منطقة الاعظمية في العاصمة بغداد للاطمئنان على صحته ولقينا حسن الترحاب والاستقبال من عائلته ، وبعد رحيله نقل جثمانه الى وطنه ليتوارى تحت ترابه ، وفي غيابه ترك ذرية صالحة من الأولاد حفظوا أسمه !.