كل الشواهد تشير، بأن إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي الحالي، يستحق بجدارة الدخول لموسوعة غينيس للفاشلين.
انه يقاتل بحماسة منقطع النظير، ودون أي كلل، رغم الضربات المتلاحقة لمشاريعه، من أجل حماية مصالح ومكانة الإمبريالية الفرنسية وقدرتها التنافسية على الصعيد العالمي من جهة، ومن جهة أخرى قيادة “النزعة القومية” المزعومة لأوربا.
إنَّ من يجلس في موقع مثل موقع ماكرون ويتلقى الهزائم والاستهجان بمشاريعه، كان قد أعلن، منذ زمن بأن أفول فرنسا وأوربا قد أزف، وعليه التخلي بشكل نهائي عن دورها ومكانتها المتهاوية لصالح أقطاب عالمية جديدة، والرضى على التقاسم والشراكة معها، بدلا من المحاولة الفاشلة في ازاحتها.
فماكرون هو صاحب الإعلان الشهير، بأن حلف الناتو ميت سريريا قبيل غزو روسيا لأوكرانيا. ولم يبرح أن استجمع قوى فرنسا والنهوض لقيادة أوروبا، ليتلقى أول صفعة من حلفائه، من أستراليا بإنهاء صفقة الغواصات التي كانت من المفروض أن تدر ٦٠ مليار دولار على فرنسا لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. وعلى الرغم من أنَّه قد حاول افتعال ازمه دبلوماسية مع إدارة بايدن وجونسون للتعبير عن امتعاضه وغضبه على الصعيد الدعائي، إلا انه حاول عبثا، استغلال أوهام مكانته وتعويض خسارته عند فلاديمير بوتين الرئيس الروسي، عشية ما سماه الأخير عمليته الخاصة في أوكرانيا، بأنه قادر على نزع فتيل الحرب. وتفاجئ في اليوم التالي لزيارته لبوتين، ليشاهد دبابات الأخيرة على مشارف كييف، وهذا المرة سعى الى التصعيد من خطابه ضد روسيا وإرسال المساعدات العسكرية الى أوكرانيا والدخول في المزايدة السياسية والدعائية وسوق العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، حالماً بإمكانياته من منافسة الولايات المتحدة الأمريكية لقيادة أوربا، ليجد نفسه مطرودا من أفريقيا بعد الانقلاب العسكري الأخير في النيجر. وقد سعى دون ان يصبه الياس في جرَّ أذيال الخيبة هذه المرة الى لبنان، لعله يحرك المياه الراكدة ويتم تعيين رئيسا جديدا، ويظهر لاعبا سياسيا عبر فك عقدة الأزمة اللبنانية، فوجد نفسه جاء متأخرا جدا، وان غيره كان اشطر، ليفهم متأخرا أيضا، أن ما يوجد في لبنان ليست بالدولة المتعارف عليها، إنما مليشيات تحكم نصفها، والنصف الآخر من لبنان مفاتيحها موجودة في الصراع الجيو سياسي الإقليمي، وفرنسا ليست لها مكانة فيه، لتنتهي جولته غير الموفقة بلقائه بالمطربة فيروز، متأملا تحريك “المشاعر الرومانسية” عند الشارع اللبناني، التي جمدتها انهيار الليرة والأزمة الاقتصادية التي تعصف بعمالها وكادحيها. ويبدو ماكرون يؤمن بأن يترك الذكر الطيب عند اللبنانيين أفضل من أن يعود بخفي حنين.
ولم تثن ماكرون تكرار فشله المتلاحق، حتى توجه هذه المرة الى تل أبيب، بعد السابع من أكتوبر، وإعلان تضامنه مع إسرائيل، وطرح مشروع تشكيل تحالف ضد حماس على غرار التحالف الدولي ضد داعش، إلا أن مشروعه وتصريحاته لم تجد حتى آذان صاغية في إسرائيل سوى الترحيب به، مجاملة له ولقلة خبرته السياسية.
وقبل عودته إلى مقر إقامته في أوربا، و إدلائه بتصريحات وطرح مشاريع جديدة، فصل نفسه عن حلف البريطاني-الأمريكي في ضرب الحوثيين في اليمن، حيث سار بخط منفصل في البحر الأحمر عسكريا مع رفاقه الأوربيين، كي لا يكرر بلع الطعم الأمريكي مثلما حدث في أوكرانيا. إلا انه لم يحقق أي إنجاز سياسي ولا حتى توفق في استعراضه العسكري في البحر الأحمر، عسى أن يحرك سوق شراء الأسلحة ويثير إسالة لعاب المشترين نحو الأسلحة الفرنسية.
بيد أن ماكرون لم يستسلم، فبعد أكثر من عامين من حرب دائرة في أوكرانيا، وجميع المراقبين والمحللين العسكريين والسياسيين بما فيها رجالات من البنتاغون، يؤكدون أن روسيا باتت تلحق الهزائم تلو الأخرى بالجيش الأوكراني، وتتصاعد صيحات حتى من قادة الجيش الأوكراني بأن أوضاع الجبهة الشرقية في تدهور، ليصرّح من جديد بأن على الناتو إرسال جيش الى أوكرانيا لإنقاذ الوضع والحيلولة دون انتصار روسيا. وهذه التصريحات أيضا صدت، من قبل البيت الأبيض الذي قال بأنَّه ليس بصدد إرسال جنود الى أوكرانيا.
اليوم يحاول ماكرون التصعيد من لهجته غير الثورية وغير المسموعة بأنه ” إن الأسلحة النووية الفرنسية يجب أن تكون جزءا من النقاش الدفاعي الأوروبي” عشية انتخابات البرلمان الأوربي، ويفتح على نفسه سيل من الانتقادات سواء من اليسار أو اليمين الفرنسي والأوربي.
إن تخبطات ماكرون ومشاريعه وتصريحاته ما هي إلا تعبير عن مرحلة جديدة يمر بها العالم، وأن أوروبا هي واحدة من الساحات التي تشهد تلك التحولات بشكل مباشر.
وأوربا عاجزة عن مواكبة التحولات الكبيرة، وغير قادرة لا على مجاراة الصين اقتصاديا ولا على مجاراة روسيا عسكريا، فهي في دوامة وحيرة ووضع لا تحسد عليها، إذ هي منقسمة على نفسها بين من تنظر الى الولايات المتحدة الأمريكية بغية إنفاذها، وبين من يحاول اللعب على المشاعر القومية الرجعية وإحياء أشكال من العنصرية مثلما نشاهد القرار المشين للبرلمان البريطاني في ترحيل اللاجئين الى روندا، والدعوة الى الخروج من الاتحاد الأوروبي أو حتى اوربا الموحدة عسكريا وسياسيا مثل التيارات اليمنية الصاعدة، وبين من يحاول مثل فرنسا الحصول على وقت ضائع للعب دورا للم شمل أوروبا وقيادتها عبثا.
إن تصدع الحلف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بات قريبا جدا، وان أول من يدفع الثمن المباشر لذلك التصدع هو أوربا التي باتت ميتة سريريا، وليس حلف الناتو وحده مثلما صرح ماكرون قبل ثلاثة سنوات، وان الحرب الروسية في أوكرانيا كانت بمثابة صحوة الموت لكلا الطرفين.
إن معضلة فرنسا بدرجة خاصة وأوربا بشكل عام ليست فقط في تدهور مكانتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية بشكل مطرد فحسب، بل أيضا تدهور كل قيمها ومبادئها الإنسانية التي بشرت بها وصدعت رؤوسنا بها منذ الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر. وأكثر ما يبعث على السخرية في المشهد الأوربي امام مسامع القادة الاوربيين يتقدمهم ماكرون وشولتس، هو ما قاله رئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك في مقابلته الأخيرة لأحدى القنوات، بأنَّه قام بزيادة نفقات بريطانيا الدفاعية بنسبة ٢.٥ ٪ من الموازنة السنوية، لأنَّ هناك دول استبدادية مثل ايران والصين وروسيا وكوريا الشمالية تهدد الديمقراطية، ولكن الواقع يقول أنَّ وجود دول (الديمقراطية) مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا، لا تقل سياستها خطورة بتهديد البشرية ومصيرها فضلا على النظام الديمقراطي والديمقراطيات في العالم، وليست أقل خطورة من تلك الدول الاستبدادية التي ذكرها سوناك، والدليل هو قرار البرلمان البريطاني المذكور، أو الحرب في غزة التي أصبحت شاخص بشكل جلي يدنى لها جبين الإنسانية.