عندما تم تنصيب الملك فيصل الأول ,المرتمي بأحضان الانكليز حسب توصيف والده الشريف حسين , عام 1921ملكآ على العراق من قبل سلطة الإحتلال البريطاني بعدفوضى السقوط العثماني , وبعد مروره بأسوأ حقبة سياسية استعمارية في تأريخه الحديث والتي بدأت منذ 1917 , لم يكن الملك وادارته التنفيذية سوى جنود موالون لبريطانيا التي كلفتهم بتشكيل كيان سياسي قيادي لايختلف عنعملية تشكيل اي فريق لكرة القدم ليستهل به العراق تأريخه السياسي الحديث لمراحل تراها محددة بعد ان درست الواقع الحقيقي للبلاد دراسة دقيقة ومتفحصة .
كان هذا الفريق لايختلف عن الكيانات السياسية التي انشأتها بريطانيا سواء في سوريا والأردن او في دول ومحميات الخليج العربي التي كانت تحت سيطرتها بعد معاهدة سايكس- بيكو , فالجميع كان مرتبطآ بها من الناحية المالية والإقتصادية ,
إلا ان الملك بسبب عدم تمتعه بإمتدادات عشائرية او جذورعائلية لتكون قاعدة ساندة له لتشاركه الحكم من خلال المناصب المفصلية المهمة في البلاد , بقي بحلقة عائلية واحدة , وفي هذه الحالة لم يكن للفريق الملكي إلا ان يكون معاديآ لأي سياسة تتعارض مع سياسة بريطانيا لتبقى تحت حمايتها , وهي حقيقة ضمنية وليست معلنة عبر بيانات او مناهج سياسية , والطرف المعادي الوحيد والمشكوك فيهالذي ادركه العراقيون في باديء الأمر بالتجربة هو الوصي عبد الإله وليس العائلة بأكملها .
أما جوهر مهام الحقيقة الضمنية للسلطة الملكية العراقيةفي ذلك الوقت , فقد كانت مهام خدمية كما يراها الإستعمار , لذلك لم يتح لها ان تعرف بشكل واضح ان بريطانيا كانت لها مشاريع لاحصر لها وغير محددة بالوقت في المنطقة , البعض منها يوهم الشعب انها عابرة لفكرة ارتباط الواقع العراقي بالاستعمار البريطاني التي انشغل بها العقل العراقي بالشتم اليومي على الوصي ونوري السعيد بشكل خاص لأنهما خاضعان للرؤية السياسية البريطانية , إلا ان المشاريع كانت جميعها تصب في خدمة مصالحها الإستعمارية وخاصة الصناعة النفطية ,
اما علاقة الفريق مع الواقع العراقي المتعدد بالطوائف فقدكانت علاقة غير معزولة عن التراث العربي الإسلامي لإنتماء العائلة الى عرق عربي وهاشمي اصيل , فكانتالعلاقة ذات توازن بين تطلعات بريطانيا الإستعماريةالظاهرة للعيان فحسب وبين متطلبات الإرث الثقافي الإسلامي العراقي عبر التنسيق ببرامج سياسية داخلية تركز على فسح المجال الى تأسيس الصحف والاحزاب لتتجذر ثقافة تأسيس المعارضة السياسية وإن كانت متنافرة فيما بينها من ناحية , وعلى تنظم السيطرة على استقرارالأمن الداخلي والسلم المجتمعي من ناحية اخرى .
في اثناء تلك السياسة , كانت بريطانيا تراقب مسيرة حركة المجتمع العراقي وخاصة في جانب السياسة التي تحثّ على الثورة والتحرير , التي انطلقت بأقلام الأدباء وعديد من المفكرين والفنانين في الصحف التي تعددت بين سياسية وثقافية وعلمية وفكاهية هادفة لتبدأ حقبة الصحافة العراقية المؤيدة للحكومة والمعارضة لها بخصائص مقوّضة.
ولكن بريطانيا لم تدرك ان من تداعيات فسح المجال للأحزاب والصحافة هو صنع المعول الذي سيهدم اسوار احتلالها ويخرجها من العراق بأيديها , مع انها ارادت من ذلك المجالالكشف عن الافكار السياسية الموجودة في النسيج الإجتماعي العراقي المثقف الذي بدوره وجد ان الاحزاب والصحف هو الطريق الذي سيمهد الى خلق وعي ثوري بين صفوف الشعب وإنبثاق إستراتيجية سياسية تعجل من فترةإخراج البريطاني المحتل , وحينما بدأت الصحف بمرحلةالنقد والتقاطع مع سياسة الحكومة سواء الداخلية منها أوالخارجية , بدأت الحكومة بزعامة نوري السعيد بتعطيل العديد من الصحف في كل مرة ,
بل ان عددآ منها اعيد تأسيسها بأسماء جديدة وبشكل ملزم , علمآ ان التعطيل لايبرأ الحكومة ولا بريطانيا من التدخل في واقع الصحافة العراقية التي يعتبرها العراقيون الضامن الوحيد لفهم إستراتيجية جوانب معينة من السياسة الملكيةبالعراق .
ان قادة الفريق الإداري الملكي المرتبط ببريطانيا , كانوا يفتقرون الى المفكرين والفلاسفة الى حد كبير , لذلك كانت بريطانيا تحرص على ابقاء مشاريعها السياسية بعيدآ عن نطاق السياسة الملكية والإبقاء عليها بحدود وعيها السياسي الحديث , لذلك لم تخصص مستشارين للملك , بلهي عمدت فحسب قبل تنصيب الملك فيصل الاول الى جعل الضابط توماس ادوارد لورنس مستشارا للملك , وهو نفسه الذي شجع الحكومة البريطانية فيما بعد وبحماسة عالية على تنصيبه ملكآ على العراق واصفآ اياه انه الأفضل مكانة بين اخوته علي وعبد الله وزيد ويتمتع بذكاء ميداني وحنكة سياسية وقوة بالشخصية .
إلا انه من الطبيعي ان يكون مقيدآ لإعتبارات سياسية لايدركها احد غير المندوب البريطاني آنذاك وهو بيرسي كوكس , وهذه الإعتبارات ربما حددت عدم التدخل إلا بقدر ممكن , إذ كيف تتدخل العائلة وبريطانيا تحميها وتأخذ النصيحة السياسية من ممثلها كوكس ؟
هناك سبب تراه بريطانيا في تقييدها للملك سياسيآ , وهو حساسيتها من حركة المجتمع العراقي في خضم تطور حركة الصحافة التي قدمت للمجتمع ليس فقط مخرجات السياسة على الصعيد الداخلي والخارجي , بل وتستعرض له الفاشلين في الإداء الوظيفي وتفاقم المحسوبية والمنسوبية في التوظيف الحكومي , وتكرار تأكيدها على ان يكون الحكم من الشعب وللشعب وعلى الشعب ,
لذلك عرقلت بريطانيا تشكيل نقابة للصحفيين العراقيين لما رأته من تطور في الوعي السياسي العراقي الذي اثبت ان بريطانيا لاتستحق ان تتدخل بالشأن العراقي ولا تستحق الثقة لبناء بلد حر ذو سيادة , لذلك لجأت الى إثارة الفوضىفي حلقات زمنية مفرغة بين الأحزاب والصحفيين جراء الطريقة التي ارادت بها ان تكون النقابة في استراتيجيتها السياسية ان تتلائم مع مناخ السياسة البريطانية ,
أي تكون كالدمية بيد الحكومة التي تحركها من الخلف , وخاصة بعد ثورة رشيد على الكيلاني . ولكن رغم ذلك تصاعدت النشاطات الحزبية المناوئة لبريطانيا وبروز قادة وطنيين دعوا الى حتمية خروج بريطانيا من العراق , وبحلول ثورة 14 تموز 1958 تمت الإطاحة بالملكية وقامت اول نقابة للصحفيين بالعراق برئاسة الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري .
بعد ثورة تموز 1951 , لم يستمر التأثير السياسي البريطاني المباشر على العراق لأسباب كثيرة منها قيامها بمنح اليهود الصهاينة دولة فلسطين لترسخ بقائها في الشرق الأوسط من خلال التموضع خلف كيان سياسي تابع بالكامل لسياساتها فضلآ عن سياسة الغرب المؤيدة لها , وهي بهذا القرار قد خلقت للعرب منعطفآ سياسيآ غير متوقع يضمن تراجعهم عن وحدتهم بشكل مطلق ,
ولأن هذا الكيان غير المتوقع , اصبح بمثابة جدار يفصل بين طموحات العرب بالإستقلال عن الغرب , وهو من ناحيةاخرى شجع امريكا من بعد على بسط هيمنتها على الشرق الأوسط بالمسار السياسي الذي أسسته بريطانيا في المنطقة , والبدء بتأريخ سياسة تخصصت بالإحتيالوالإتهام الكاذب والكيل بمكيالين لتحطيم الحالة المعنوية للشعوب بشكل عام والشعوب العربية بشكل خاص ,
وهذه السياسة موروثة ولم تأت من فراغ , إذ ان الكثير من قادة الدول كانوا يمارسون الاحتيال مع التجار ومنهم ملك هولندا وملك اسبانيا , فيأخذون من هؤلاء التجار قروضآاستثمارية وعندما يحين موعد استحقاق الدفع تراهم يتملصون , وحينما يلجأ التجار الى القانون لايجرأ المحامون على ادانة الملكين , لأن قوانين المحاكم تخضع لإرادة الملكين على حد سواء , لذلك تذهب نقود التجار الى الملك من دون ادانة ,
لذلك فإن امريكا بسياسة الإحتيال والكذب استطاعت ان تغزو بلدان كثيرة من وراء ظهر المنظمة العامة للأمم المتحدة , وحينما تدعوا دول اخرى الى مشروع قرار ضد هذا الغزو او ذاك , يقف المندوب الأمريكي معلنآ بقرار الفيتو منعآ لإصدار القرار المطلوب , او تؤلب احيانا اعضاء مجلس الأمن للتحيز ضد القرار بالتهديد العسكري او بالعقوبات الإقتصادية او بالترهيب , اما الآن فقد تغير الأمر الى التهديد بإطلاق عنان كلاب داعش او النصرة او غيرها من قوات المرتزقة ,
كما فعلت في العراق بصناعة داعش ومن قبلها ثورات الربيع العربي المزيفة التي بدأت بمصر , وهي بالنسبة لها تدابير وقائية تعرقل نهوض العرب في كافة النواحي ومنهاالسياسية والإقتصادية والعلمية وتستنزف قدراتهم الإقتصادية بشكل خاص , وهي من ناحية اخرى وسيلة لنهب ثروات الشعوب كما تفعل الآن قواتها بنهب النفط السوري يوميآ وامام العالم .
من غير المتوقع بالنسبة للساسة العراقيين في العهد الملكي ان تكون بريطانيا هي من استخدمت جيوشآ مسلمة وعربيةكانت بأمرة جيشها في ذلك الإحتلال البغيض لأرض فلسطين وهم لا يعلمون بذلك , وهذا يتوضح سببه في احتمالين ; أولآ , إما الفريق الملكي قد اخفى هذه المعلومة عن الشعب . ثانيآ ; وإما ان بريطانيا كانت تعتبر الفريق الملكي واجهة سياسية مؤقتة غير مخولة بمعرفة مايدور في سياسة المكاتب الإستعمارية العليا البريطانية ,
وفي هذه الحالة كان ينبغي للفريق الملكي ان يعي ذلك ولايخفيه عن العائلة المالكة وعن الشعب ليفلت من الخضوع المحض لبريطانيا ويتوافق مع القوى الوطنية لصنع منعطف سياسي غير متوقع يجابه به المنعطف غير المتوقع الذي صنعته بريطانيا بتأسيس الكيان الصهيوني .
بالنتيجة ان بريطانيا حققت حتى الضروريات لتخفيف فاتورة الضحايا والخسائر العسكرية اثناء قيامها بالإحتلال لفلسطين الى ادنى حد من اجل السيطرة والبقاء على المسار السياسي الذي رسمته للعراق بعد الاحتلال , رغم ان الجيوش التي وظفتها في إحتلال فلسطين كانت حالة تمفصل غير اخلاقي وغير معقول بينها وبين الفريق الملكي كونه خلق حالة غموض من معرفة ماهي المعايير السياسية البريطانية الحقيقية وراء احتلالها للعراق والتي يفترض ان يتشارك بها الفريق الملكي معها ؟
الجواب لهذا السؤال , ان الحكومة البريطانية كانت ترى السياسيين العراقيين لم يصلوا بعد الى النموذج التأريخي المؤثر في الصراع مع بريطانيا , لذلك كان معيار السياسة الذي تتبعه هو معيار السياسة المتبعة مع الهند نفسه , أي السياسة التي تختارها لدعم مصالحها وتوسّع نفوذها في الشرق الأوسط ,
ختامآ , مما تبين ان العائلة المالكة العراقية رغم انها لم تكن متهمة بإخفاء جوانب مهمة من السياسة البريطانية بالعراق , ولم تكن ساعية للخروج عن خضوعها لبريطانيا , ولم تكنذات تطلعات انقلابية ثورية لكي تفكر بالتآلف مع القادة الوطنيون ليلتفوا حولها ويكون الحكم بالمشاركة الوطنية وخاصة بمشاريع البنى التحتية ومنها تسليح الجيش وتطوير وسائله التدريبية فيما , إلا انها كانت من الناحية الفعلية كالدمى وخاصة بعد مقتل الملك غازي الذي برزت منه وتقدمت على باقي العائلة سويقة الوطنية التي كادت جذورها ان تتعمق في ربى العراق وبين العراقيين ولكن بريطانيا لم تكن غمامآ لتلك السويقة , بل نارآ , فصنعت له حادثة السيارة ليسوّغوا قتله ,
إذ لو تم ذلك التآلف بين العائلة الملكية والقوى الوطنية , لميعد يفكر الضباط الأحرار الى الإعداد لثورة 14 تموز وما نجم عنها من مآسي ومنعطفات سياسية خطيرة لاتنسجم مع بلد الحضارات الذي عبثت به اطماع وغايات امريكا السياسية فيما بعد , ومازالت بحصان طروادة الذي وزعتنسخآ منه طبق الأصل في منطقة الشرق الأوسط لتكرّس حالة الإحتلال لدول متعددة راحت ضحية سياسات غير عقلانية تبنتها مجاميع وقادة بايديولوجيات عاجزة عن الوصول الى صنع ادوات البلوغ نحو القوة التي تحقق الأهداف الإنسانية , كونها على العكس من ذلك , ساذجة ولاترتكز على الحكمة والتجربة الإنسانية النموذجية .
ولكن كل مابدا من العائلة الحاكمة ان عبد الإله لم يكن الوحيد الذي عارض السياسة المعادية لبريطانيا , بل ومعه الملك فيصل الأول نفسه ونوري السعيد , لأن الثلاثة اخفوامعرفتهم بالتمهيد البريطاني لمشروع الدولة اليهودية الذي صاغه ثيودور هرتزل ووعد به آرثر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا عام 1917, علمآ ان فيصل الأول وصديقه توماس ادوارد لورنس كانا معآ في مؤتمر التهيئة لإحتلال فلسطين , ولكن لأنها عائلة واحدة بلا جذور وامتداداتاجتماعية في العراق ,
وبلا نماذج تأريخية كما اسلفنا لذلك لم تبلغ عن ذلك , وتم استهدافها بسهولة والقضاء عليها , بينما الكثير من المؤرخين رأوا ان ذلك كان خطأ لايغتفر من قبل شخص غاضب تجاوز على قواعد القانون في حينه , ولكن من جراء عدم حث الملك فيصل للقادة العراقيين على الإلتفاف حول العائلة الملكية , تأكد من الناحية التأريخية انه حقآ كان في احضان البريطانيين كما قال عنه ابوه مما تسبب في اختطاف العراق بسبب تداعيات ثورة تموز 1958 ليكون رهينة لنفوذ امريكا وسياساتها البراغماتية والانتهازية والوصولية وبدرجات لم يعتد عليها العراقيون من قبل مطلقآ .
والتأريخ كما يصفه تشرشل ” المنتصرون وحدهم من يكتبه ” , وهذا يعني , من وجهة نظرهم , ان الخلق المعاصر وعلى مدى الدهور الى الزوال وبهذه الرؤية تراهم يصنعون العلّة في كل مرة للشعوب لتتجسد بالظلم والدكتاتورية وشح الزاد والتشكيك بالدين ومن بعد يأتون بأحلام التحرير لتقع ثانية بخلّة الإستعمار والسيطرة وتحت حكم كيان سياسي آخر يشترطون معه مالم يشترطون مع اقرانهم في عهود سابقة لتبدأ فصول جديدة لحكم الدول من بقايا سقط الرجال بغايات وشهوات لا تبلى ولا تتعب من النهب والسلب والكذب ,
فيركبون صهوات الطيش والتبعية والعمالة بلا رباط مع ابنائهم ويصنعون القوانين التي تحمي وحدتهم وبقائهم بالسلطة متوهمين انهم بمنأى عن الشرفاء الوطنيين الذين تصنعهم حسرات الخسارة على الأوطان .