بقلم: آدم دانيال هومه.
منذ أكثر من نصف قرن ما يزال اسم (ميخائيل ممو) ساطعاً في عالم الكتابة. فقد عرفناه صحفياً وباحثاً وأديبا، ولكن الشعر هو الذي احتل مكانة مرموقة في كتاباته، فاقترنت سمة الشاعر والأديب باسم ميخائيل، وذاع صيته بوصفىه شاعراً في المقام الأول. إنه شاعر بامتياز، يحمل خصائصه الفنية، وله عوالمه وإيقاعاته، وأنماط بنائه الشعري. فجمع مستويات جمالية في شعره بين انسيابية النص، وعفويته، وصدقه وبين الاشتغال الفني في تركيب صوره ومفرداته واختيارها. لقد جمع بين النحت والاختيار، بين التأني البنائي، والاشتغال القاموسي الشخصي لمفرداته.
يتضمن الديوان مقدمة يشرح فيها للقارئ الآشوري طريقة بنائية ونظمية جديدة للكتابة الشعرية بما تشملها من قصائد خاصة ومتميزة لتاريخ المهام الأدبية الآشورية كخطوة تحريضية لأبناء شعبنا الآشوري. ويلي المقدمة ملاحظة للقارئ، باللغتين العربية والآشورية، كيلا يساوره الشك والانبهار من حركات تلك القصائد طالما هناك تأملات واعتبارات متباينة. ثم يعقبها نظرة موجزة الشعر الآشوري وأوزانه، وخاصة القافية. ثم يلي، بعد ذلك، نصوص القصائد حيث يقول في قصيدة (الفكر المبهم):
تراه في كل يوم يتظاهر بأنه مرشد الأمةوشروحاته مدعاة للسخرية
يرفع بشموخ في كل ميدان راية أنا… وأناكمؤسس وقائد ومسؤول
بيده صولجان السياسة يبشّر بالدين والصلاحوالخلاص وهو مريض نفسياً
يصعب الكلام عن التجربة الجمالية في شعر ميخائيل ممو من دون الأخذ بالاعتبار عدداً من النزعات المعنوية والفنية في مسيرته الأدبية، وتلخيص مواقفه الشعرية من مجمل الظواهر والقضايا التي عاناها ذاتياً ومعنويا من منظوره الجمالي بضغط من تلك التي كان بعضها ذا حضور ملموس عبر تلك المسيرة، وعياً وأسلوبا، أي النزعات الضاغطة والمتفاوتة الحضور والتأثير في النص. وهو يعني أن ثمة آلية محددة تنظم علاقة الشاعر الجمالية بكل من المظاهر والأشياء من جهة، والشعر وظيفة وتعبيرا من جهة أخرى. ولعل هذا ما يجعل الحديث عن تجربة الجمالية نموذجية موحدة، ونص شعري نموذجي موحد. ومن ثم فعلاقة ميخائيل بالنكبات والأزمات التي تواجه وجوده وحیاته وھویته وتراثه ومقدساته لیست علاقة طارئة أو جدیدة، وإنما ھي علاقة متجذرة في التاریخ والحیاة، وھي رسالة خلقیة وجمالیة ضد كل أشكال القبح والشر، أي إن رسالته تتجاوز الفردیة الذاتیة. يقول في قصيدة (لم يبقَ لنا):
هيا يا أخي نحيي تذكار شهدائنا الأماجدبالمحبة والسلام والحمد والشكر
لنعيد صياغة أمجادنا التليدة بكل وقار وإجلال من أجل الانبعاثالمكلل بالحرية
كم من سيميلمرت عليناونحن نتلهى بالترهاتهنا وهناكبدون جدوى.
وینبثق صراخ الشاعر والأديب ميخائيل ممو في وجه الفساد بكل ألوانه من عشقه للوطن الجمیل الذي یستحق التضحیة بالغالي والرخیص، كما فداه أولئك الشھداء الأبرار… ومن ثم تغدو الأزمة النفسیة أشد مرارة على لسان كل أدیب ملتزم بالجمال والصلاح والتقدم والتطور. ویعد الشاعر ميخائيل واحداً من الأدباء المتقدمین في ھذا المجال حین راح یجرّب على تشكیل قصیدة الرؤیا الحُبْلى بالأفكار السیاسیة والاجتماعیة دون أن ینسى لغة الإثارة والإدھاش في العلامات اللغویة المحمولة على رؤى فكریة سیاسیة واجتماعیة یتداولھا العامة قبل الخاصة، ولا شيء أدل على ھذا من قوله الذي یعبر عن رؤیة الأمل بالحریة. يقول في قصيدة (إن لم تكن متسلحاً بالعلم):
إن لم تكن تتمتع بروح اليقظةوالحقيقة الدامغة
وتغترف في كل آن من منابع العلموالحكمة والثقافة
في أي مرحلة من مراحل حياتكفي الشباب أو الشيخوخة
ليتسامى اسمك ويتمجد بين الورىبكل جدارة واستحقاق
ولتصون وجودك في بلاد الاغتراببكل بسالة وشهامة.
فالكتاب الشرفاء وقفوا، ویقفون، في مجتمعاتھم كالأنبیاء والرسل وھم یدعون إلى التمسك بالحیاة الجمیلة ثقافیاً واقتصادیاً وسیاسیاً واجتماعیاً، ویمثلون لحن الحیاة الأبھى حین یدافعون عن كرامة الإنسان وسعادته وتقدمه وارتقائه، أو عن الإرادة الحرة والقیم الفاضلة والأخلاق السامیة. أما أولئك الذین یقعون أسرى مصالحھم الضیقة، أو یسقطون في تبعیة الحكام والخوف منھم، أو من كل مستبد ظالم فإنھم لا یستحقون منا إلا الابتذال والسخریة. يقزل في قصيدة (الأناني):
يا أيها الذي يتغنى باسم الأمة المجيدة كقائد همام
ثم ما تلبث أن تهتف عالياً باسم الدين في كل آنٍ وأوان
لتخدع الصغار والكبار كمصلح ومرشد في هذا العالم
وأنت لستَ جديراً لتوكل إليك أي مسؤولية مهما كانت
لأنك عديم المعرفة وتفتقر إلى أدنى خبرة في الحياة.
ويعقب الشاعر والأديب الكبير، واللغوي العلامة (بنيامين حداد) على هذه القصيدة قائلا:
(رابي ممو! تحية مقرونة بالود والاحترام. ليظل يراعك أخضر معطاء، ينثر مثل هذه الدرر. قصيدة رائعة ليس في فحواها وحسب، وإنما في شكلها الفني البديع. بصراحة رابي أقولها:هذا التوظيف الرائع الجميل لوزن [بالاي] الخماسي وبثلاث دعامات في البيت الواحد أبهرني بموسيقاه وبشكله الفني الجديد الذي لم يسبقك إليه أحد. هذا التوظيف للوزن الخماسي في صياغة بيت واحد مقسم إلى ثلاث دعامات وبخمسة عشر هجاء [مقطع] جديد تماماً. نعم! هناك وزن نرساوي اثني عشري بثلاث دعامات، ولكن كل دعامة فيه من أربعة هجاءات أو مقاطع، ويحق أن أقول: هذا الوزن الشعري الجديد الذي ابتكرته خليق بأن يسمى [الوزن الميخائيلي]. ثم يضيف قائلا: (أحسنت رابي ميخائيل! قصيدة رائعة بفنها الذي يضاهي روعة الفن الشعري في قصائد الشاعر الكبير [عبديشوع الصوباوي] في ديوانه الشهير [فردوس عدن]. تحياتي، وإلى المزيد من العطاء).
إن الشاعر ميخائيل ممو يفجّر شعره تفجيرا، وينساق معه في تموجات المخاض المتدفقة في الأعماق وصولا إلى مسارب الوعي، ومكامن الوجدان، تصاوير وخيالات متألقة. ولأن الشاعر ، كقائد الأوركسترا، لا يسعه الخروج عن أفق الرؤيا العام، وإطارها المتشكل في سراديب التجربة الشعرية، فقد أسلس القياد لمجرى التاريخ الهادر في شعاب ذاكرته ومخزون حواسه. واقتحم عالم الشعر، وتمرد على كثير من نظمه وأساليبه تمهيداً لخلق عالم جديد، ومناخات وموازين جديدة لا تنكر. وقد سلك مسالك غريبة، وأحاط نفسه بأنماط متعددة المداخل والوجوه متناهية التفلّت من كل قيد والتزام إلا بقواعد الإبداع وإملاءاته العلوية اللامنظورة.ولا یتأتّى ذلك، إلا لأفذاذٍ نحاریر، قذفت بھم أعاصیر المعاناة، وتصدعات المفاھیم والرؤى.
ينتقل بك الإحساس، وأنت تقرأ قصائد (ميخائيل ممو) إلى صميم القصيدة، فإذا بك تشعر شعوراً قوياً بأنها تتنفس هواء طبيعياً، وتنداح في عالم مترع بالرؤى، إنها بمعنى آخر تسدل على الورق، كما تسدل سجف الأضواء، ثم تستيقظ في وجدانك، فإذا بك تترنح بين صحوتها وغفوتها، لتعلم في آخر الأمر أن هذا الشاعر يريد أن يبعث في الشعر شعراً حقيقيا.
كما احتضن الشاعر ميخائيل مأساة المعذبین والمضطھدین في المجتمع الآشوري، ووقف إلى جانبھم، وآلمه بؤسھم وشقاؤھم، وكان الصوت الذي نطق بما كانوا یعانونه من قھر وذلٍّ ومرارة، وقد جسّد ھذه الوقفة، القضیة في قصیدته (فاجعة قومية) حیث يقول:
ذكرى الشهداء ستظل عبرة ومثالا للبشرية جمعاء
وستدوّن تفاصيلها في تاريخ كل الشعوب والأمم
مذبحة (سيميل) ستظل خالدة في ذاكرة التاريخ
تروي للعالم همجية الطغاة على مر العصور
وليس هناك حياة كريمة بدون حرية الشعوب قاطبة.
تسكن القصیدة قلب الشاعر فیرسمھا بأزاهير الكلمات… بمشاعر وأحاسیس رقیقة ورھیفة وشفافة كما ھي روحه دائماً ممزوجة بألوان قوس قزح في المعاني التي ترحل بنا لأطیاف متنوعة تبدأ بالألم والحزن وتنتھي إلى نبع الفرح والأمل. كما یعتمد الشاعر أحیاناً على الوصف الجمیل بأسلوب رصین ولغة شعریة صافیة تحوّم بین الوضوح والغموض الشفاف والرمزیة الشعریة بعیداً عن الغموض والانزیاحات اللغویة المؤدیة إلى الإبھام. يقول في قصيدة [أناسٌ كثيرون]:
بعض أبناء المجتمع، صغيراً كان أم كبيرا، في جميع أنحاء العالم
تراهم يرفعون راية اليقظة وهم غارقون في سبات عميق
هم مستيقظون وعلى أتم استعداد للهدم والخراب وصقل الأفكار المنحرفة
وإقصاء كل ذي نشاط واهتمام وعناية بالآداب والمعارف والعلوم
يتمرغون في نوم أهل الكهف لايحسدهم عليه حتى العميان
مترعة نفوسهم بالحسد والأنانية والضغينة والبغضاء
يظنون بأنهم أبرار تقاة وحكماء وهم سكارى بأحلامهم
يعتبرون أنفسهم قادة مرشدون وهم يعانون مرضاً عضالا
يعتبرون أنفسهم ملوك الغابة بينما هم ثعالب في جلود أسود
وهم يدركون جيداً بأنهم الأشد جوعاً وعطشاً للعلم والمعرفة.
لقد انتقل ميخائيل من دهاليز االأحزان والآلام التي تغمر شعبه، والمذابح التي تعرضت لها أمته إلى معاناته الشخصية ومآسيه الذاتية وخاصة فقدان فلذة كبده، وهو في ريعان شبابه، حيث غمر الحزن قلبه وأودى به إلى الصمت. إنه صمت الحزن، والتأمل، والتفكر بما للصمت من عوالم سحرية زاخرة بألوانها الساحرة، وما تفتحه من خيالات لها رونقها وصورها المذهلة.