17 نوفمبر، 2024 2:27 م
Search
Close this search box.

نهايات الجنوب العراقي

نهايات الجنوب العراقي

لا يختتم موت الملحن كوكب حمزة وقبله بيومين الشاعر حسين حسن مراثي الجنوب العراقي؛ فقد فارق جيل كامل الحياة على مدى العقدين الأخيرين، ينتمي في غالبيته الى اسر نزحت من الجنوب على مراحل مختلفة من عمر الدولة العراقية.

استقبلت بغداد الرؤوفة المتكبرة؛ الآباء بترحاب ووجدت في سواعدهم القوية وعقولهم النيرة؛ أساسا لدولة لم يفرق المؤسسون الاوائل بين مكوناتها الاجتماعية والطبقية الا بقدر ما يشكلون خطرا على سدتها في الحكم، فراح الأبناء يعملون على هز أركان الحكومات المتعاقبة من خلال حزبين أساسيين، اختلفا على كل شيء، باستثناء هد الحكومات التي لم يتردد كبار ممثليها عن وصف الحزب الشيوعي بحامل الفكر “الهدام” فاعتبرت شتيمة؛ بينما لا تخلو بيانات الشيوعيين والبعثيين من عبارات تتوعد بتهديم الانظمة( العميلة) تارة للانكليز وأخرى للاميركان وثالثة لعبد الناصر.
بل ان شاعرا في البعث ينشد؛؛؛
وطن تشيده الجماجم والدم
تتهدم الدنيا ولا يتهدم!
اما القادة المؤسسون للحزب الشيوعي فقد وضعوا شعار الوطن الحر والشعب السعيد هدفا مشروطا بهدم الأنظمة القائمة.
تياسر أبناء النازحين من الجنوب البهي الخصب متعدد الألوان والسماوات، ورفدوا البغادّة بكوادر نبغت في الادب وشتى الفنون، ومنحوا العاصمة الغنية أصلا بالمبدعين؛ زخما ثقافيا تجلى في آلاف الأعمال الأدبية، شعرا وروايات وقصصا ودراما والحان وحفروا بازاميل من الماس في وجدان العراقي أجمل الأغاني الطافحة بحسرات وملذات الجنوب وبالحسجة التي لا يتقنها غيرهم.

تأقلم مبدعو الجنوب مع الحياة البغدادية حتى وان كانوا من غير مواليدها، واحتلوا مواقع متميزة في الإعلام وفي الفضاء الثقافي ليس على اساس ” التحاصص” بل لان جريان دجلة في بغداد يفرض قوانينه الطبيعية.

عاش جيلا الخمسينات و الستينات،الأكثر حضورا في أحداث هزت العراق بالانقلابات، تحولات متسارعة لم تتمكن السياسات القمعية والزج في السجون من تعطيل الجيلين عن التفاعل معها، وتفتقت المحن المتواترة عن أعمال إبداعية؛جسدت صلابة نادرة لجيلين انصهرا بنيران الانقلابات، وكان ممثلو الجيلين الأسرع تاثرا باحداث العالم العاصفة، مِن ثورة كوبا الى الثورة الطلابية في أوروبا، مرورا بضياع كولن ولسون ودروب جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وتحطم الأمنيات بالكفاح المسلح وانقلاب عبد الخالق محجوب وفشله واعدامه في السودان.
كان بناي النازح من الجنوب، الممول
” الفكري” الرئيس لجيل المثقفين والكتاب؛ بفضل قدرته المدهشة على تسريب وبيع المؤلفات المرخصة والممنوعة. وقبل بناي، وعلى مسافة فرسخ من مكتبته في ساحة التحرير، تعكزت مكتبة مكنزي برائحتها المميزة المخلوطة بعبق مقهى البرازيلية في شارع الرشيد الذي افتتح صباحاته لسنوات طويلة على عويل الشاعر النازح من النجف عبد الامير الحصيري في مقهى عارف اغا، يغفو” أموري “متوسدا حائطا ترك شعره الكث بصماته على لونه الحائل كختم على جدار المقهى العتيق.

في عارف اغا شهدنا لقاء المغني حسين نعمة مع الشاعرين شاكر السماوي وطارق ياسين وقال شاكر للشاعر البغدادي
” ابكيتني بقصيدة لا خبر”.
اخترق حسين نعمة مثل حسين حسن وابن خالته الرسام والصحفي إبراهيم زاير مجتمعات بغداد المخملية دون وجل.
حسين نعمة أطرب سيدات الحكم بصوته الرخيم وجنوبياته الفخمة، و وقع بعضهن في عشقه . ونزح إبراهيم زاير الى لبنان هربا من بطش وزير عراقي أراد الثأر منه لانه انتقد( بعنف) معرض عشيقته الرسامة.
أنتحر ابراهيم زاير في بيروت لانه أحب بعنف لبنانية لعوب من طرف واحد.

كان وليد جمعه( وليد) كما كان يسخر من نفسه، على وزن إسم ولقب شقيقه الشيوعي المنشق عن البعث حميد جمعة حميد، آكثر شعراء بغداد المقلين جدا يتبرم علنا من غزارة أبناء الجنوب، فكان يدبج النكات اللاذعة حولهم؛ يؤازره القاص عبد الستار ناصر المولود في احد أقدم أحياء بغداد لام ساحرة الجمال، لم تسلم نفسها من غزل الكاتب الشبق بحياة مليئة، بدات من مقهى ابراهيم( المعقدين) على مسافة أمتار من مكتبة بناي ليكون أول معتقل سياسي بسبب قصة قصيرة لم ترض السلطان بعد وصول حزب البعث الى السلطة و قد تعرض ستار الرقيق الى الإهانة وربما التعذيب.

كان عزيز السيد جاسم من أبرز مثقفي الجنوب وأكثرهم إثارة للجدل ليس بين الشيوعيين وانما أيضا داخل أروقة وكواليس حزب البعث ولا نعلم الى الآن مدى علاقة السيد جاسم بتنظيمات الحزب الحاكم، لكن المعروف إنه كان يدبج خطب كبار المسؤلين ويؤلف كتبا باسمائهم وكان غزير الانتاج، مفوه يمتلك كل مهارات و مؤهلات السادة في قرى و أرياف الجنوب التي انجبت آلاف الشعراء والمغنين وقراء المآتم وبرز مبدعون لا يتكررون في العراق الطارد لأبنائه الموهوبين.

لاتنتهي المراثي برحيل كوكب حمزة وحسين حسن ؛ فما يزال في قصب الجنوب، وطلع نخيله الذابل حلاوة وخصب، لكن المأتم الأكبر ولادة جيل من الأفاقين عديمي المواهب والضمائر، يتنطعون لقيادة الريل واغتصاب حبيبة حمد والسطو على كل العراق !

حزن اليموت أسبوع
حزن العدل دوم!

أحدث المقالات