مفارقة غريبة تغلق على الفهم, بلد منتج ومصدر للنفط, ترفع حكومته أسعارمنتوجاته من وقود السيارات على شعبه.
المعلومة البديهية التي يعرفها كل إنسان, ولا تحتاج لخبير اقتصادي, أنارتفاع أسعار المحروقات, ببساطة, معناه ارتفاع أسعار كل السلعوالخدمات وكذلك التضخم.. لذا فإن أسباب الاستياء الشعبي من هذا القرارتستند على أولاً : أن العراق بلد منتج للنفط ومشتقاته ومن أبرز المصدرينلها, لذا فلا وجود مبرر لرفع الأسعار. ثانياً : أن الشعار الرئيسي التيطرحته الحكومة عند تشكيلها انها ” حكومة خدمات “.. وانها جاءت للتخفيف عن كاهل المواطن, فما بالها تمعن في إفقاره وهو يرزح تحتمستويات فقر غير معهودة في بلد نفطي ؟ لذا كان إعلان القرار غيرمدروس العواقب ويناقض ويجافي كل البروباغاندا الحكومية.
لابد هنا عدم إغفال أمر بالغ التأثير على ميزانية المواطن بعد ارتفاع الأسعار والتضخم المصاحب لها والمنعكسة على أسعار المواد الغذائية واللوازموالخدمات, إنها سوف لن تتراجع إلى حدودها السابقة حتى لو تراجعتالحكومة عن قرارها لأي سبب من الأسباب, وهذا يعني بالضرورة بأنالمواطن اليوم كما الحكومة أصبحا تحت رحمة قانون السوق الذي لا يرحم.
وللعلم, يُشير خبراء أن التضخم السنوي من يناير عام 2023 إلى يناير عام2024، شهد ارتفاعا بنفس النسبة التي بلغت 0.4%، وكان معدل التضخمالسنوي قد سجل 4.5%.
أشار البيان الحكومي لأسباب رفع اسعار البنزين هي لتمويل الخدماتوالمشاريع, وتشجيع المواطن على استعمال الغاز بدلاً من البنزين كوقودلمركبته وكأن هذه النوعية من الوقود متوفرة في محطات التعبئة هذا غيرضرورات تحوير فني في السيارات لتصبح قادرة على استخدام الغاز. وبعيداً عن التكاليف الإضافية على المواطن, فهل وفرت الدولة ورش كافيةلتحوير المركبات ؟
وأشار القرار الحكومي أنه جاء أيضاً لدفع المواطن للتنقل بواسطة وسائلالنقل العام, فهل من حافلات كافية لتغطية الحاجة لها ؟ لا سيما ان الحديثيجري عن وجود ثمانية ملايين سيارة تجوب طرق العاصمة مما يسببالاختناقات المرورية, فهل يعني قبول نصفهم النصيحة الحكومية والتخليعن مركباتهم سيحل المشكلة ؟ هناك شك في ذلك.
عملياً, كل مواطن كان سيتفق مع النوايا الحكومية المعلنة بتشجيع التنقلبالسيارات العمومية وتقليل الاختناقات المرورية وتحسين البيئة بتقليلالانبعاثات الكربونية وتسميم الأجواء, على أن لا تكون على حسابه فقط…
أن الإجراء الأنجع الذي كان ينبغي على الحكومة القيام به هو تقنين حركةسيارات المسؤولين ونواب البرلمان وتضرب بذلك عصفورين بحجر, بتوفير عبءتكاليف تعبئة مركباتهم وخدمتها الباهضة برفع الدعم الحكومي المجاني, لحصر استعمالها العشوائي وحسب الأهواء, لاسيما وان السياراتالمصفحة ثقيلة وكذلك غيرها من جكسارات.. تستعمل البنزين المحسن عاليالجودة ومخازن وقودها أشبه ببالوعة تصرف الكثير من الوقود, وتلويثهاللبيئة تكون بالغة. وكذلك تحجيم حركتها حل للكثير من العقد المرورية.
قيل أن القرار الحكومي جاء استجابة لشروط البنك الدولي على الحكومةالعراقية برفع دعمها للمحروقات مقابل الموافقة على قرض تعزم الحكومةاقتراضه منه, ولكن الإعلان, بوقت متزامن, عن توقيع عقد مع الجمهوريةالاسلامية لتزويدنا بالغاز, بأسعار عالية وبشروط أقل ما يمكن أن يقالعنها مجحفة, ولا تطمن مصالح العراق, تبدو متناقضة وشي ما يشبه شي. فمن جانب فرض ضريبة والتقتير على المواطن وتحميله تكاليف إصلاح لمتظهر ملامحه بعد, ومن جانب آخر كرم حاتمي مبالغ به وتسهيلات فيالاتفاقيات مع دول مستفيدة من ثرواتنا النفطية أو أموالنا لشراء مشتقات, لفائدتها. وهي تتعارض, بالنتيجة, مع ما تسعى إليه الحملات الإعلاميةالواسعة المروجة لحكومة السوداني وتلميع انجازاتها, وهي كذلك تتناقض معالأهداف العامة للاصلاح.
أن غياب الشفافية المزمن لدى السلطات الحاكمة على مر أكثر من عشرينسنة فتح باب التكهنات مشرعاً امام كل من يريد أن يدلو بدلوه سواء منالخبراء او المواطن البسيط وهو حق له لأنه أول من يدفع فاتورة هذهالقرارات.
لذا تجدنا امام ظنون مشروعة: إما أن السيد محمد شياع السودانيكرئيس للوزراء يتعرض لضغوط من حلفائه بعدم التمادي والاندفاع علىطريق البناء والإصلاح واستنفاذ مصادر ثرائهم او أن القرار الحكومي أعلنلجس نبض الشعب أو ربما للتغطية على حدث أو إجراء مبيت قادم أكثرإيلاماً…أو الرغبة في تسجيل نجاح سياسي لحكومة السوداني بعدتراجعها, بعد حين, وإلغاء رفع الأسعار بدعوى الانصياع للسخط الشعبي, لزيادة أسهم حكومته والائتلاف الذي يقف وراءه, وتسويقها كقاطرة حقيقيةللإصلاح.
وبينما بدد الدكتاتور البائد أموال وثروات العراقيين في حروبه العبثية ونزعاتهالتوسعية, فإن أحزاب المحاصصة البغيضة التي قامت بعد سقوطه, قدجعلت ثروات ومقدرات البلاد مغنماً لها وحكراً عليها وعلى أبنائها دون غيرهممن المواطنين…وما علينا كعراقيين سوى القبول بالمقسوم واكمال حياتنا مندون دراما ومن دون قرع طبول.
تساءل إرنست همنغواي في روايته الشهيرة ” لمن تقرع الأجراس ؟”. نجيب :
في الحقيقة تقرع أولاً للمواطن المتضرر للتحسب من القادمات ووعي حقوقه.
تقرع ثانياً للحكومة التي قد تتجاهل الغضب الشعبي عندما تصل الأمورإلى سلب قوتها !!!