29 ديسمبر، 2024 10:01 م

الكبارة.. قصة قصيرة

الكبارة.. قصة قصيرة

كتب: محمد فيض خالد

تدسُّ عمتي وجهي في حجرها عنوة، رويدا رويدا تهدأ أعصابي، يفوح حجر جلبابها الفلاحي الرخيص برائحة محببة، ارفع عقيرتي شاكيا لحظة تحرك أصابعها الخشنة تفرك فروة رأسي،  تدمي شعري وتلهب جلدي،  فجأة يتسلمني نعاس عميق لا أعرف كم متى من الوقت، أشعر وكأنني أسبح وسط بركة بلا حواف، مملوءة بمزيج لاذع من صنف الرائحة التي تفوح منها، خليط لطيف يدغدغ أعصابي، تضاعف عمتي من فركها، مفزوعا أهب من رقدتي، وقد تناوبت دقات قلبي في سباق محموم.

أطالع باب الحجرة المظلمة، اتسمع هدوئها المقلق، لعلها “الكبارة”، يتأتى في خاطري كلام عمي الأكبر ليضاعف من مخاوفي: “لقد اختطفت صبيا في قرية قريبة ومصت دمه”.

ضقت ذرعا بالمكان، وكرهت ذلك الوعاء النحاسي اللعين، تحاشيت النظر إليه حتى بعد مغيب الشمس واختفاء خيوطها، ربما يشتعل مائه في لحظة ما وعندها تحل الكارثة، استسلمت لهذا الوهم السخيف سنين طوال، كثيرا ما اخفت عمتي ضحكاتها  حين تغيب وجهها الأبيض الحنون تحت حرامها القطني الأسود، تتظاهر في استخفاف أنها تتحاشى دخان الكانون، لم يكن أحد ليجرؤ على إخافتي في حضرتها، هي الوحيدة التي تستحضر “الكبارة”، وهي من تملك صرفها عني حال امتثالي للأمر.

لم أسأل نفسي يوما، لماذا تترصدني “الكبارة” دون البقية، ألا تجرؤ على تأديب أولئك الذين ملأوا الدرب بالسباب في شجار لا ينتهي، أم تراها أضعف من أن تواجههم؟!، كبرت وكبرت مع وساوسي، حتى وإن تشاغلت بأمور المدرسة، ومشاركتي في أعمال الحقل، أو السباحة في الترعة أغلب ساعات النهار، إلى كان اليوم الموعود، طلبت عمتي أن أحمل إليها الوعاء النحاسي بعينه، كان فارغا قد أسند إلى الجدار، مددت يدي في تخاذل، مررت أصابعي  ببطء حول حافته، تلاحقت أنفاسي، وتسارعت دقات قلبي، تراجعت قليلا للوراء، ثم هجمت سريعا فأطبقت يدي عليه في استماتة، ملأته بالماء ثم أعدته إلى موضعه.

دقائق وتساقط شعاع الشمس من طاقة في الجدار، اهتز وجه الماء، ليرتعش الضوء في دوائر متلاحقة متوهجة ملأت المكان، مددت يدي ناحيتها لتمر بسلام دون أذى، كررت المحاولة مرات كثيرة،  في عفوية تعالت ضحكاتي، ومن خلفي ضحكت عمتي وهي تلكزني في كتفي قائلة: “ألا تخشى الكبارة يا صغيري؟!” لم انطق بكلمة، غادرت مسرعا، ونفسي ممتلئة بنشوة الانتصار.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة