18 ديسمبر، 2024 8:46 م

طُرُق تحرير فلسطين التي تمُر بغَيرها ولا تؤدي إليها!

طُرُق تحرير فلسطين التي تمُر بغَيرها ولا تؤدي إليها!

حينما غَزا صدام الكويت، إدّعى بَدئاً في مَسرحيته هزلية عِبر التلفاز بأنهقام بذلك بنائاً على طلب من فتية آمنوا برَبّهِممِن ضُباط الجيشالكويتي، لكن حين وجَد بأن الرأي العام العَربي الرَسمي والشَعبي قدإستهجَن فِعلته، قرّر أن يَشُق صَفّه بدَغدغة مَشاعر ساسَته وعَوامه،عِبرالمُتاجرة بقضية فلسطين، فرَفع شِعار طريق تحرير فلسطين يَمُر عِبرالكويت، ليُبَرّر غزوه لها وقتله لشعبها وإستباحته لممتلكاتها. وفعلاً مالتله قلوب ملايين العَرَب والمُسلمين، خصوصاً مَن نَشَأوا بكَنَف نُظمدكتاتورية لطالما تاجَرَت بقضية فلسطين لتُخَدِّر شُعوبها. كما مالت له حيناًقلوب قيادات عَربية كالراحل أبو عَمار الذي كان يتشَبّث بأي قِشّة يَظنّهاتخدم قَضِيّته، وصَدام كان قِشّة تبدو صَلِبة جَعجَعةً وأقوالاً، لكنها هَشّةأفعالاً! بينما كانت الكويت أكثر الدول العربية دَعماً لفلسطين أفعالاً! فتأسيس حركة فتح كان في الكويت، حيث كان أبو عَمار يعمَل مُهندساً،إضافة لبقية مؤسسي الحركة، كأبو إياد الذي كان مُدَرّساً للأدب في ثانويةبمنطقة الأحمَدي، وفاروق القَدّومي الذي كان موظفاً بوزارة الصحةالكويتية، وسليم الزعنون الذي كان أستاذاً بكُلية الشرطة الكويتية، وخالدالحَسَن الذي كان موظفاً بمَجلس الإنشاء الكويتي، والدكتور عبد اللهالدنان أستاذ اللغة الذي أشرَف على برنامج إفتح يا سِمسِملغوياً وألفأغلب قصائده. فقد سَخّرت لهُم الكويت إمكاناتها ورَعَت ودَعَمَت مُبادرتهم،في وقت كان أغلب العَرب يتوَجّسون مِنها، ومِنهم صدام ورفاقه، الذي لاندري لمَ لم يَتذكّر تحرير فلسطين إلا حين إختلف مع الكويت حَول مَديونيتهلها! ولم يَسعى الى تحريرها حين كان يَملك جيشاً قوياً، أنهَكه بمُغامَرتهالعَبَثية في حَرب الثمان سَنوات مَع إيران الخميني!

الخميني هو الآخَر غَطّى على حقيقة أهداف حَربه التوَسّعية ضِد العراقبرَفعه لشِعار طريق تحرير فلسطين يَمُر عِبر كربلاء، وكان له ولنِظامهحُصّة الأسد في المُتاجرة بقضية فلسطين لتمرير أجندَته التوَسّعية إقليمياًقتلاً وتخريباً دون أن يُحاسِبه أحَد! فتنظيم الحَرَس الثوري الهَجين، الذيشَكله كبَديل عقائدي للجيش الإيراني، كان يَضُم وِحدة خاصة مَسؤولة عَنالخارج بإسم فيلق القُدس، ليوحي بسَعيه لتحريرها، تبَيّن فيما بَعد بأنمُهِمّته الحقيقية هي نَخر الدول العربية وتحويل شعوبها الى حَطب،وأراضيها الى ساحات، لصِراعاتها الإقليمية كقصة الحوثي والسعوية، أولصِراعاتها الدولية كقِصّة الحَشد والأمريكان، وذلك عِبر تمزيق مُجتمعاتهاطائفياً، وتحويل أبنائها لمُرتزقة بمليشيات طائفية شيعية، أوجَد لها إسماًتهفو له قلوبها هو محور المُقاومة، طَعّمَه بمليشيات سُنية ليُضفي له بَعضالمِصداقية ويُبعد عُنه صِبغة الطائفية، فبالنهاية مَشروعه التوَسّعي قوميفارسي وليس ديني إسلامي. لذا هذا المِحوَر لم يتحَرّك يوماً ليُحَرّر شِبراًمن فلسطين، أو ليَنصُر أهلها، كما حَصَل لأهل غَزة الذين زَجّهُم صِبيانهالحَمساويون بمُغامرة عَبَثية ضاعَت بسَبَبها أرواحهم وأبيدَت مُدُنهم.

في نفس السِياق والرُقعة الجغرافية المَوبوءة بالأكاذيب، وبَعد إعلان صَدّامشِعاره أعلاه، أتذكر أن الرئيس السوري حافظ الأسَد أرسَل له طالِباً مِنه أنينسَحِب مِن الكويت لأن طريق تحرير فلسطين لا يمُر عِبرها، وعَرض عليهفتح أراضي سوريا له ولجيشه ليَمُر عِبرها الى فلسطين، بمُقابل إنسَحَابهمن الكويت. فأجابه صدام بما مَعناه بأني أشكر عَرضَك هذا، لكني لستبحاجة إليه، لأنك لو كنت تعنيه لحَرّرت أرضك التي تحتلها إسرائيل منذعقود! ورَغم وقاحة جَواب صدام، إلا أنه كان مُحقاً بكشفه لكذب إدعائاتالأسد بتصَدّره لمحور مقاومة إسرائيل، الذي هو أساساً محور عِصاباتقُطّاع طُرق وتجار مُخدّرات. فلو كان الأسَد جاداً بفَتح أراضي بلادهلتحرير فلسطين، لأمكنه أن يُحَرّر الجولان بَدلاً مِن إحتلاله لبنان وقتلاللبنانيين، والتي يبدو أنه كان يَرى أن طريق تحرير فلسطين يَمُر عِبرها! فكلامه لصدام كان رفع عَتب! لا بل كان يُزايد على السادات ويتهمهبخيانة فلسطين، رغم أنه حَقَن دِماء شعبه بتحقيقه للسلام، وحَرّر أرضَهالتي إحتلتها إسرائيل بسَبب عَنتريات سَلفه الذي كان على شاكِلة الأسَد،وكانت فلسطين شِعاراً دَغدغ به مَشاعِر البُسطاء ليُصبح زعيماً! فوَرّط بلادهعام 1967 في حَرب خَسر فيها، وتسَبّبت بفقدان القلسطينيين والعَرَبلألاف الأرواح، ولأراضي كانت بحَوزتِهم!

المُعَسكر الإشتراكي مُمَثلاً بالإتحاد السوفيتي الذي خَدَع العالم لعُقودبنُصرة فلسطين عِبر الإعلام، أو عِبر دَعم الحَركات التي رَفَعَت شِعار الكِفاحالمُسَلّح لتحريرها، كان في الخَفاء أول الداعِمين لقِيام دَولة إسرائيل علىأرض فلسطين. ففي عَقد التسعينات كشَفت وثائق وزارة الخارجية الروسية،وشَهادات شَخصيات سوفيتية بارزة، تضَمّنها كتاب للكاتب الروسيالشَهير ليونيد مليتشين، صَدَر في موسكو عام 2005  بعنوان (لماذا أنشأستالين إسرائيل؟) قال فيه لولا ستالين ما قامت دولة لليهود في فلسطين“.فتلك الوثائق الرَسمية كشَفَت إن ما قدّمَه الاتحاد السوفيتي، كان العاملالرئيسي بقيام وتَرسيخ دولة إسرائيل، على النقيض مِن الشائِع أن وعَدبلفور البريطاني الصادر عام 1917 كان هو أهَم عَوامل قيامَها“. وتُضيفالوَثائق بأن ستالين ألقى بثقله وَراء مَشروع اليَهود لإقامة وَطن في فلسطين،كي لا يُقام الوَطن المَوعود على أرض شُبه جَزيرة القرم السوفيتية. بسَبَبهذه الخُدعة، مِئات الشيوعيين مِن كل أنحاء العالم، أضاعوا حياتهم ويَتّمواعوائلهم، بعد أن إنخَرَطوا في تنظيمات إرهابية ادّعَت تبَنّيها للقضيةالفلسطينية، ورَفَعَت شِعار تحرير فلسطين، لكنّها في الحقيقة كانت تُنَفِّذأجِندات مُمَوّليها مِن الزعماء المُهَرّجين، الذين لم تفتهم فرصة إستغلالقضية فلسطين للإستعراض أمام قطعانهم حول العالم، أمثال كاسترووأخاه الذي كانوا يتقدّمون مَسيرات التضامن مع فلسطين، والقذافي الذيعَرَض خطة سلام بإقامة دولة تسمى إسراطين! وصدام الذي هَدّد بحَرقنصف إسرائيل فأحرَق العراق!

الحوثي هو الآخَر، رفع شِعار تحرير فلسطين والمَوت لإسرائيل مُنذ بداياته،وتَحت هذا الشِعار مارَس أبشَع الجَرائم بحَق مواطنيه اليَمنيين وجيرانهالسعوديين، وأغرَق بلاده في حروب وأزمات سياسية واقتصادية، تسَبّبتفي دَمار مؤسّساتها، ومَزّقت نسيجها الاجتماعي، وتسَبّبت بتفشي الأوبئة،وأوصَلت أكثر مِن نِصف شَعبها الى حافة المَجاعة. وها هو يَسعى اليوملتوظيف قضية فلسطين ومُعاناة شعبها للإستمرار في إستِغفال أنصاره،ولصالح أجِندة أسياده في إيران، فقد صَرّح خلال أحداث غزة الأخيرة:لوكان لدينا حدود مع فلسطين لحَرّرناها مِن زمان“. لكنه بدلاً مِن أن يَذهبلتحريرها، يقوم بقرصَنة السفن التجارية، لسَرقتها لأنه لِص، ولتوفير وَرقةلعب جَديدة بيَد مُرشده الاعلى القابع في طهران.  

حتى إرهابي ومُرتزق ككارلوس الثعلب مثلاً، قتل المِئات وإختطَف الطائراتوفجّر المؤسّسات بأموال القذافي وصدام وخميني وكاسترو، كان يَقول بأنهيَقوم بكل هذه الأعمال لنُصرة القضية الفلسطينية! ومِثله المِئات مِنالعاهات الإجرامية والأحزاب الشمولية والمنظمات الإرهابية، التي إستغلتقضية فلسطين، ووَظفتها للتنفيس عَن عُقدِها والوصول لأهدافها الخبيثة،أبرَزها منظمة بادر ماينهوف اليَسارية الألمانية الإرهابية التي حينما ألقِيَالقبض مؤخراً على عَدد مِن أعضائها الذين كانوا مُختبئين كالفئران منذثلاثة عقود، تظاهَر عَشرات السُذّج يَرتَدي بَعضهم الشماغ الفلسطينيمُطالبين بإطلاق سَراحهم، لأنهم يَعتبرونهم مُناضلين لأجل القضيةالفلسطينية! كذلك الجيش الأحمَر الياباني وزعيمته الإرهابية فوساكوشيغنوبو، التي أيضاً تظاهر المِئات بعضهم يَرتدي الشماغ مُطالبين بإطلاقسَراحها، لأنهم يَرونها مُناظلة لأجل قضية فلسطين! أو وديع حداد وجورجحبش والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو السِمسار جورج غالوي، أوالجيش الآيرلندي السِري، وغيرهم مئات إرتكبوا أبشع الأعمال والموبقات،حَرقوا وقتلوا ومَثّلوا وسَرقوا وأفسدوا بإسم القضية الفلسطينية، لكنأفعالهم هذه لم تحَرِّكها شِبراً، بل ضاعَفَت مُعاناة شَعبها وشَتاتِه. لذاتحضَرني هنا مَقولة الناشِطة الفرنسية رولان التي ذاع صيتها خلال الثورةالفرنسية، ثم سيقت للمقصلة بعد أن لُفِّقَت لها تُهمة الخيانة: “أيتهاالحُرية! كم من الجَرائم تُرتكب بإسمِك، فأنا أقرأها اليوم: أيتها القضيةالفلسطينية! كم مِن الجَرائم تُرتكَب بإسمِك! وكم مِن الأفاقين يُتاجرونبإسمِك!“. فالقوميون والبعثيون أقصوا مُعارضيهم لعُقود تحت شعار تحريرفلسطين وبإسم القضية المركزية! والشيوعيون حاربوا الرأسمالية بشماغالقضية الفلسطينية! أما الإسلاميون فإرتدوا جلبابها ليُبَرّروا بها جَرائمهمالظلامية! والتافهون والأفاقون والمُصابون بعُقد النقص، لطالما مَلأوا الدنيازعيقاً بالقضية الفلسطينية للتنفيس عَن عُقدهم وأمراضهم النفسية.  

لقد آن الأوان كي يَصحوا الشعب الفلسطيني، ويَعي أن طريق العُنف الذيقادَته إليه قياداته السياسية خلال عُقود خَلَت، والذي تَخَلّت عنه بَعضها،ولازال البعض الآخر ماضياً فيه، كان سَبباً في ضَياع قضِيّته، وتحَوّلهالشَمّاعة يَستخدمها كل مَن هَب ودَب، مِن المُتردية والنطيحة، ليُصبح ترند،أو يجمع المال، أو يَصِل الى السُلطة، أو يرتكب جريمة. لذا فلسطين تحتاجاليوم الى إنقلاب شَعبي يُحرّرها مِن قياداتها الحالية المُتنافسة علىالسُلطة، خصوصاً الإسلاموية الإرهابية مِنها، كحَمَاس والجِهاد الإسلاميوأذرعها العسكرية، ويُفرِز قيادات جديدة تفكر بوَعي وعقلانية وبرَاغماتيةوجُرأة. فطريق العمل المُسَلّح إنتهى منذ عُقود، ونظرة خاطِفة للخلفسَتُرينا أن الفلسطينيين لم يَجنوا منه، ومِن عقلية ما أخذ بالقوة يُستَرَدبالقوَة منذ أكثر مِن60 سنة، سوى خَسارة المزيد مِن الأراضي والأرواح،مع الأخذ بنظر الإعتبار أنهم لم يَخسَروا بلادهم بالقوة وبجيوش جَرارةإجتاحَتها، بل بدَهاء المُقابل وطول بالِه وصَبره على أهدافه. وقد وَعَت مُنظمةالتحرير الفلسطينية التي سَلَكت حيناً طريق العُنف هذه الحقيقة، وقرّرَت أنتسلُك طريق العقل والبراغماتية والمَنطق. إلا أن بعض القوى الإقليميةوالدولية، التي لها أجندَتها المَشبوهة، وعلى رأسها إيران، أبَت إلا أن تُعَرقلهذا المَسار، وبَدأت تُزايد في قضية فلسطين حتى على منظمة التحرير،وتُشَكِّك بنَواياها ونَوايا قياداتها التي أفنَت أعمارها في خِدمة القضية. وللأسف لا زال الملايين من المُغَيّبين يُصدقون هذه القوى وذيولها فيبلدانهم، بدليل قطعان مؤيدين حزب الله والحشد وحماس والحوثي،والمُتعاطفين معهم ومع جَرائمهم، المُنتشرين ليس فقط مِن المُحيط الىالخليج، بل وعلى طول الأرض وعَرضِها!

[email protected]