لم نوفَقْ في تجربتنا الديموقراطية لعوامل متعددة ,أهمها البيئة الديكتاتورية لمئات السنين, ومن ثَمَّ ظروف الأحتلال وما سببه التصرف السيء للبعضٍ ممن جاء معه ,عندما تصوروا إن الديموقراطية ثأرٌ وإنتقامٌ ومكاسبُ ومنافع شخصية أو طائفية أو عرقية. وآخرون فهموها إستحواذ على كل شيء. وتهميش للآخرين. وبعضٌ إعتقد أنها تبيح له العنف والأستعانة بالأرهاب ليعيدوا عقارب الساعة الى الوراء والعودة لحالة التوازن غير العادلة السابقة. ومن جانبٍ آخر إن المسلمين عموماً والعراقيين خاصة لم يعتادوا عليها ولم يألفوها ولم يتثقفوا بثقافتها.فلم نفهم من الشورى إلا أن يصفقَ أشخاصٌ لا يتجاوز عددهم أصابع اليد على يد أحد فيعتبرون هذا بيعةً له من الأمة بكاملها . ولم يكن للأمة بواقع الحال رأي بهذه البيعة ولا شأن.
عاش شعبنا قرونا تحت القهر والأذلال ومصادرة الأرادة.فتخوف من هذا النمط الذي ألفته شعوباً قبلنا بعقود. وأصبح سمة العصر ودلالة المدنية .فكانت تجربتنا مريرة سادتها الفوضى و العنف والفساد. فباتت الغالبية تحِنُّ للماضي ورهبته وظلمه, الذي أذاقهم المر. وتسبب في قدوم الأحتلال وضياع البلاد وتهشم بناها الأخلاقية والعلمية والحضارية. حتى بتنا وكأننا في القرون الوسطى, بتخلفها فسادَ الظالم على المظلوم وتحكم السارقُ بالمسروق وتشرف الجاهلُ على العالِم.فإختلطت الأوراق وتداخلت الأمور. وما الأنتخابات التي ستجري قريباً إلا مظهراً من مظاهر هذه الديموقراطية المشوهة التي نعيشها. ولا أظن عاقلاً ينكر بأن الأنتخابات إستحقاق وطني إنساني. يقرر فيه الشعب مصيره فيولي ثقته لمن يشاء.ومع إن هذه الأنتخابات ليست الأولى لنا بعد التغيير.وكان الحري بنا أن نستكمل التجربة ونصحح أخطاءها.إلا إننا لم نُتقنْ اللعبة لذا لم نرَّ لها مردوداًإيجابياً بصيغها الحالية .كنا نأمل أن نخوضها وفق قانون إنتخابات يحفظ وحدة البلاد,وكرامتها وسيادتها. ويسمح بجلوس ممثلي الشعب الحقيقين تحت قبة البرلمان, لا تكراراً للمأساة ووصول من لا يثق به الشعب ولا يطمئن إليه. إنَّ ديموقراطية بهذا الشكل غمرتنا بالفوضى والدماء والفساد ولا تنسجم مع واقعنا . هي ضارة لا نافعة ولاحاجة لنا بها.وعلينا أن نجدصيغةً جديدةً بإسلوبٍ ومفاهيم تتماهى وتتوائمُ مع مستوياتنا الثقافية والأجتماعية وواقعنا الأثني.
من الممكن الأستفادة من الأنتخابات رغم قانونها الحالي الفاسد. فيستغلها الشعب. ويحقق بعضاً من الأصلاح والتغيير. أو على الأقل تقليص نفوذ الكتل السياسية الفاشلة التي أدانها القاصي والداني, لتسببها بإشاعة الفساد والأرهاب ودفع البلاد للفقروالجهل وحافة الهاوية والأقتراب
من الأفلاس.وهذا أضعف الأيمان.وقد يحالفنا الحظ فتبرز في الساحة كتل جديدة, بمفاهيم وطنية علمية وجدانية.تسعى للنهوض بالبلاد. وتأخذ زمام المبادرة من كتل أحبطت الشعب وأساءت له.
هناك عنصران سيخوضان إمتحاناً هو الأصعب بتأريخ العراق .
الشعب أولاً حيث عليه ألا يختار من سبق و أُشير له بفساد أوفشل.أو تبوأ منصباً حكومياً ولم يفلح فيه .وهذا مانصحت به المرجعية وما يقتضيه الواجب الوطني.ولا ينخدع كما خُدع في الأنتخابات السابقة بوعود معسولة وكلامٍ إنشائي لا يسمن ولا يغني عن جوع.
أما الطرف الآخر الذي سيخوض هذا الأمتحان فهو من سيفوز بالأنتخابات. فالخلافات في الرؤيا على برامج وسياسات وربما على حقوق مناطقية أو عرقية موجودة ومعتادة عند كل الشعوب. ولكن بنفس الوقت توجد إستحقاقات وطنية مشتركة.ومن الأصح هو أن يستحدث من إنتخبهم الشعب لجنة وطنية مهنية أكاديمية, لتحديد الأستحقاقات الوطنية المشتركة. فتدرسها وتعرضها على الشعب للتصويت المباشر. لتصبح ملزمة للجميع من ضمن الدستور. وبذات الوقت تدرس الخلافات وتوضع لها الدراسات لتذليلها ومعالجتها وتقليصها الى أدنى الحدود وفق جداول زمنية ملزمة .
و لكن ما جرى في بلداننا وفي العراق خاصةً هو سعي ساستنا والبرلمانيين لتضخيم الخلافات. وإستحداث أخرى. مما أفشل العملية السياسية,حتى كرِه الشعب هذه الديموقراطية ولعنها. كما أهمل ساستنا والكتل السياسية النافذة كل الأستحقاقات الوطنية المشتركة. ولم يلتفتوا لها.فلم يكن هدفهم شيء سوى الخلافات والتسقيط .فإنعدم الأمن وخُرِّب الأقتصاد وإنعدمت الخدمات, وإزدادت نسبة الفقر والأمية, فعادت لنا أمراض كانت من الماضي, كشلل الأطفال وغيرها من الأمراض التي تهدد الأجيال.إضافة لنمو أمراضٍ إجتماعية خطيرة.
لندع الخلافات لصُنُاعِها من الساسة النهمين للسلطة والمال. ونتدارس الأستحقاقات الوطنية المشتركة وهي تتلخص بتعديل الدستور, وإعادة النظر بالعملية السياسية برمتها,لأقامة دولة مؤسسات المجتمع المدني الحديثة, والدخول في مصالحة وطنية حقيقية بعد تحديد أطراف المصالحة. وإعادة هيكلة الدولة ليَشْغَل رئيس الجمهورية المنتخب بشكل مباشر من الشعب منصب رئيس الوزراء أيضاً.. ويطرح هذا وزراءه على مجلس النواب لنيل الثقة.وهذا يتطلب من اللجنة إعادة كتابة الدستور. وتلافي ما فيه من مطبات وألغام. وتوفير الأمن عن طريق إعادة هيكلة القوات المسلحة. وتصفيتها من الدخلاء والدمج والصحوة والمسميات الأخرى, إضافة الى مشتركات وطنية تهم جميع العراقيين .كما إن الضرورة الآن تستدعي من مجلس
النواب الجديد إناطة الحكم مؤقتاً بحكومة تكنوقراط من خارج مجلس النواب, بعيدة عن الطائفية والمحاصصة.ترأسها شخصية وطنية مشهود لها بالكفاءة والوسطية .لا يتشنج منه طرف , تُسَيّر أمور البلاد. وتُصْلِح الحال المزري للأقتصاد والخدمات والتعليم .وتُحَسِّن الوضع الأمني والصحي وتعيد تصنيع العراق وتنمية زراعته.وتعالج الخدمات الأساسية المطلوبة. لحين تعديل الدستور و تعديل قانون الأنتخابات.وبعكس هذا فإن جرت الأمور وفق السياقات السابقة فسيتأخر تشكيل الحكومة سنين. وسيدخل العراق في نفق مظلم, وربما بحروب ونزاعات عرقية وطائفية.فهل الشعب سينجح في هذا الأمتحان الأصعب؟ ويختار الأفضل. أم ستلعب الطائفية والعرقية والقبلية دورها ؟وهل سينجح النواب الجدد وفق معايير الشرف الوطني في تعديل مسار السفينة, وإدارة الدفة نحو الأصوب, والخروج من عباءة الكتل الخانقة التي إنضووا تحتها, قبل أن تخنقهم كما خنقت الملايين ؟ وهل ستتعظ الكتل الساسية الدينية و العرقية وتعتذر للشعب عما جرى له منها وبسببها؟ وتسمح للشعب بصدق وإخلاص أن يختار, وتقرُّ بأنها ساهمت بكل ما حل بالبلاد. آمل هذا و عندها سنجتاز الأمتحان الأصعب.