تمهيد
صورتان تحضران كلما ورد ذكر الأديب والكاتب والصحافي الساخر والمتعدّد الانشغالات اللبناني جورج جرداق هما: الإمام علي وأم كلثوم، ولعلّ من يطّلع على سيرته يجد الجواب على هذه المفارقة، فبقدر شهرة موسوعته عن الإمام علي وذيوع صيتها، فإن أغنية أم كلثوم لقصيدة “هذه ليلتي” لا تقلّ شهرةً إن لم تزد عنها، خصوصًا وأن عشرات الملايين كانوا يستمعون إليها. وهكذا طغت هاتين الصورتين على اسمه ، وربما جاءت على حساب العديد من الكتب التي ألفها وعشرات الأغاني التي كتبها لوديع الصافي وماجدة الرومي وغيرها، فضلًا عن عمله وتولّعه بإذاعة “صوت لبنان” التي كان يعتبرها بيته الثاني ويطلّ من خلالها على الناس في برنامجه المعمّر “على طريقتي” لمدة زادت عن 15 عامًا .
كنت قد تعرّفت على جورج جرداق (1931 – 2014) في النصف الثاني من تسعينيات القرن المنصرم، وكانت المحامية الصديقة هدى الخطيب شلق قد نظّمت هذا اللقاء، وتبادلتُ معه الرأي واستأنست بوجهات نظره وأفكاره بخصوص العديد من القضايا الفكرية والثقافية وشؤون الأمّة العربية بعامّة. وحين عرف موقع عائلتي الديني والروحي وخدمتها في حضرة الإمام علي لأكثر من خمسة قرون من الزمن بموجب ثلاث فرامين سلطانية من الدولة العثمانية (سرخدمة أي رؤساء الخدم / المرشدون الدينيون)، انفتحت أساريره ففاض في حديثه عن الإمام علي وكان ذلك جسر تواصل وصداقة .
سألته كيف اهتدى إلى الإمام علي؟ فروى لي ما دار بينه وبين شقيقه فؤاد الذي أهداه كتاب “نهج البلاغة” وقال له: ادرسه واحفظ ما تستطيع منه. يقول جرداق ما إن استلمت الكتاب حتى استلمني، فكنت أحيانًا أهرب من المدرسة إلى كنف الطبيعة لأجلس تحت شجرة في قريتي “مرجعيون” بقضاء النبطية في الجنوب اللبناني، لأستغرق في قراءة وحفظ نصوص من هذا السِفر الشائق والممتع والعميق والمزدان بالمعرفة والحكمة.
لم يكن ذلك الكتاب الذي طبع حياة جرداق هو الوحيد، بل كان يتأبّط معه كتاب “مجمّع البحرين” للشيخ ناصيف اليازجي الذي تتلمذ فيه على فقه اللغة العربية، كما تأثّر بأدباء وكتاب كبار مثل رئيف خوري وفؤاد افرام البستاني مؤسس الجامعة اللبنانية وميشال فريد غريب أستاذ الأدب الفرنسي، إضافة إلى “ديوان المتنبي” الذي لم يفارقه فحفظ الكثير من شعره، وغالبًا ما كان يستشهد بالأبيات الآتية:
فُؤادٌ ما تُسَلّيهِ المُدامُ ……… وَعُمرٌ مِثلُ ما تَهَبُ اللِئامُ
وَدَهرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ ……… وَإِن كانَت لَهُم جُثَثٌ ضِخامُ
وتعدّدت لقاءاتي معه عند إقامتي في لبنان بعد العام 2003، وكان آخر لقاء بيننا في العام 2010، حيث أهديته كتابي عن “الجواهري جدل الشعر والحياة” الذي صدر عن دار الآداب، وبعد أن تصفّحه قال لي سألتهمه التهامًا، مبديًا إعجابه الكبير بالجواهري. وكم كان حزينًا في آخر لقاء لي معه لما حلّ بالعراق وأهله، خصوصًا بُعيد صعود الموجة الطائفية المقترنة بالاحتلال الأمريكي وتفشّي النزعات التكفيرية وشيوع مظاهر جديدة من الإرهاب ارتباطًا بتنظيمات القاعدة حينها.
مقهى الحاج داوود
أتذكّر أنني في أحد المرات دعوته على العشاء وكانت برفقته مساعدته الحسناء في مطعم “مقهى الحاج داوود ” الشهير في عين المريسة في بيروت والتي تغيّر اسمه إلى “الدروندي” وهو المقهى المشهور بتقديم وجبات السمك اللذيذ، الذي كنت قد تعرّفت عليه في أوائل الستينيات مع أخوالي جليل ورؤوف وناصر شعبان، وقد فاجأني بأنه نباتي وقال أنه يستغرب ممن يأكلون لحوم الحيوانات وكيف تعطيهم أنفسهم فعل ذلك، وكان العديد من روّاد المطعم يختلسون النظر إليه وجاءت إحدى الفتيات الجميلات لتستأذن منه بالتقاط صورة معه وبعد موافقته دعت أحد المصورين الجوالين ليقوم بذلك، وقد استدعى مساعدته ليلتقط معها ومع الفتاة التي اقتحمت مائدتنا صورة أخرى.
مدرسة العشق
قلت له هل أنت عاشقٌ؟ قال العشق تولّه وهيام وصبابة، فأنا أعيش بين عشقي وكتبي ولا أستطيع التفريق بينهما، فهما متلازمان ومترابطان عضويًا، وأضاف: العشق حالة إنسانية من لم يجرّبها فهو لم يتعرّف بعد على طعم الحياة.
وهل المرأة ملهمتك؟ سألته، فقال المرأة ليست بالضرورة ملهمة للإبداع، فليس في أشعار شكسبير أي أثر لها ولا في سمفونيات بيتهوفن أو منحوتات مايكل أنجلو أو غيرهم من كبار المبدعين. قلت له أين تضع كتابك الأول “فاغنر والمرأة”، قال لي اعتبرته سيرة قصصية في بدايات كتاباتي انطلاقًا من رؤية وحدة الفن بجميع جوانبه وأشكاله. وبالمناسبة فقد عرفت من خلال متابعاتي وقراءاتي أن طه حسين أدرج هذا الكتاب ضمن لائحة الكتب المقرّر قراءتها على طلبة الدكتوراه في الأدب بدقّة وإمعان. وكانت كتبه قد تُرجمت إلى العديد من اللّغات بينها الألمانية والفرنسية والإسبانية والفارسية والأوردية.
ربما كان العشق الحقيقي لجرداق قد تملّكه بحبّ الإمام علي، بما فيه من فضائل إنسانية ومناقب شخصية ومعان سامية مثلت بالنسبة له شعاعًا للقيم ونبراسًا للمثل، فقد وقف معه عند دين الرحمة والعدالة والإنسانية والحياة وهو ما وجده بصورته الأصفى والأنقى والأبهى.
خماسيّة جرداق
وكنت قد ذكرت في أكثر من مناسبة أنني كنت مهتماً في فترة الفتوّة بمتابعة سيرة الإمام علي، مثلما هو اهتمامي بالأفكار اليسارية والتقدمية الحديثة، واطلعت حينها على “نهج البلاغة” وقرأت فصولاً منه، ولكن ما استوقفني على نحو لافت للتفكّر والتأمل والاستشراف ما كتبه جورج جرداق في موسوعته الخماسية، وذلك في أواخر ستينيات القرن الماضي، وكانت بعنوان “الإمام علي … صوت العدالة الإنسانية”، وهي: “علي وحقوق الإنسان” و ” علي والثورة الفرنسية” و ” علي وسقراط” و “علي وعصره” و “علي والقومية العربية” وأضاف إليها مؤلفاً سادساً بعنوان “روائع نهج البلاغة”.
وكانت حين صدورها حدثًا كبيرًا شديد الرقي منهجاً وأسلوباً وتوجّهاً، وإن اختلفت بعض وجهات النظر بشأنها، خصوصًا مقاربتها لعدد من فلاسفة الثورة الفرنسية الكبار مثل: روسو ومونتسكيو وفولتير، والفلسفة عمومًا ابتداءً من سقراط أبو الفلاسفة، ناهيك عن روح العصر واستلهاماته في تأكيد السياق التاريخي، وتسليط ضوء على اعتزاز الإمام علي بأرومته وانتمائه ولغته، ناهيك عن بعض “جواهره” التي وردت في نهج البلاغة.
والشيء بالشيء يُذكر فأودّ هنا أن أشير إلى ثلاث كتب مرجعية إشكالية مهمة تناولت فصولًا من التاريخ الإسلامي، أولهما – كتاب “اليسار واليمين في الإسلام” لأحمد عباس صالح الذي قرأت حلقات منه نشرت في مجلة الكاتب (المصرية) التي كان يرأس التحرير فيها، وذلك في أواسط ستينيات القرن الماضي، ثم صدرت لاحقًا بكتاب بالعنوان ذاته، وثانيهما – كتاب: “علي إمام المتقين” لعبد الرحمن الشرقاوي الذي قرأته في العام 1986، وثالثهما – كتاب “علي: سلطة الحق” لمؤلفة المغدور عزيز السيد جاسم (1987).
قلت لجرداق لقد اتّهمتَ بالشعوبية وهو ما قرأته، قال ولذلك كتبت “علي والقومية العربية” وهي مرافعة للدفاع عنه وعني، وهي دعوة للاعتراف بالآخر خارج دوائر العرقية والفئوية والطوائفية والدينية والأيديولوجية، فقد امتاز علي بصفات عربية وإنسانية أصيلة كحب الخير ومساعدة المظلوم والعدل والإنصاف والمروءة والشجاعة والحكمة.
وسألته عن من يحاول إطفاء صورة الصحابة الآخرين بإضفاء صفات أقرب إلى الربوبية على الإمام علي، فقال الإمام علي بشر مثل سائر خلق الله، لكن قدرته في خلق وعي عابر لما هو قائم تُعطيه بعض المزايا، وهي التي تجعل منه إنسانًا كونيًا، فحديثه عن “الفقر في الوطن غربة” يتمثّل في رؤية مستقبلية اجتماعية عميقة. كما أن في تسامحه ردّ على أولئك الذين يتّهمون العرب والمسلمين بأنهم غلاظ القلوب وقساة ومتوحشون وبرابرة ودينهم يحضّ على ذلك، فحين ضربه بالسيف عبد الرحمن بن ملجم قال كلمته الشهيرة آنذاك: إن عشت فأمره لي، وإن متّ فضربة بضربة، وهو ما دعاه لاستذكار السيد المسيح عيسى بن مريم الذي تمتم بعبارات الاستغفار والترحّم لمن يعلّقونه على الصليب قبل صعوده إلى السماء.
وقد تناول المؤرخ اللبناني الكبير حسن الأمين كتاب صديقه جورج جرداق عن الإمام علي بقوله أنه وضع جرداق في قمة أدباء العربية وهو بيان متدفق أصيل كشف عن كنوز خبيئة.
وحين سألتني قناة الفضائية العراقية لماذا لم يكتب جرداق عن الحسين؟ كان جوابي كما سمعته منه، أن الحسين كان على خطى أبيه في الدفاع عن الحق والعدل، وهو يمثل رمزية جهادية شجاعة، وبما معناه “هذا الشبل من ذاك الأسد”، فعلي كان مشكاة للفلسفة والحكمة والأخلاق. وإذا كان قد ترك لنا تراثًا زاخرًا بالفكر وفلسفة الحكم وزهد الحاكم وعدله وشجاعته، فإن الإمام الحسين ترك لنا تراثًا غنيًا في مواجهة الظلم والدفاع عن الحق والعدل.
“هذه ليلتي”
سألته عن قصيدة هذه ليلتي التي تُعدّ إحدى تحفه الرائعة والتي يقول فيها:
هذه ليلتي وَحُلْمُ حَيَاِتي / بَينَ مَاضٍ من الزّمانِ وَآتِ
الهَوَى أَنَتَ كُلُّه والأمَانِي / فَاملأ الكأسَ بِالغَرامِ وَهَاتِ
بَعدَ حِينٍ يُبدّلُ الحُبُّ دَارَا / وَالعَصَافِيرُ تَهجُرُ الأوكَارَا
وَدِيارٌ كَانَت قَدِيمًا دِيارَا / سَتَرَانَا، كَمَا نَرَاهَا، قِفَارَا
سَوفَ تَلهُو بِنا الحَياةُ وتَسخَر / فَتَعَالَ أُحِبُّكَ الآنَ أكثَر
قال لي كانت أم كلثوم قد أعلنت في العام 1968 عن رغبتها في أن تغنّي قصيدة لشاعر من كلّ بلد عربي، وأنها اختارت قصيدة لشاعر لبناني، لكنها لم تفصح عن الاسم، وكنت أعلم ما دار بين الموسيقار محمد عبد الوهّاب وبينها ، فقد أبلغني بذلك هاتفيًا، وحين زار محمد عبد الوهاب لبنان وأقام في فندق شبرد في مصيف بحمدون التقيت به، وطلب منّي إعادة قراءة القصيدة له، ثم التقينا في أوتيل أمبسادور مع فريد الأطرش ونجاة الصغيرة وإحسان عبد القدّوس، فأخذني عبد الوهاب إلى الشرفة المطلة على وادي لامارتين لأقرأ عليه مجدّدًا بعض أبيات القصيدة، فقال هذا ما أريده لأم كلثوم، وفرحت كثيرًا وكنت تعرفت عليها العام 1965، وقد لحّن محمد عبد الوهّاب القصيدة وغنّتها أم كلثوم. ولقت استحسانًا وحماسةً كبيرةً من الجمهور الذي اعتبرها من أهم أغانيها.
وسبق ذلك اللقاء أن اجتمع عبد الوهاب وأم كلثوم وجرداق في القاهرة في منزل أم كلثوم في شارع أبو الفدا (المطل على النيل) وأبدت أم كلثوم إعجابها بالقصيدة ذات الأجراس الموسيقية كما سمّتها، ووصفها عبد الوهّاب بالسهل الممتنع وكان كثير الإعجاب بجورج جرداق.
قلت له ماذا كان شعورك وأنت تسمع القصيدة مغنّاة، فأجاب أنها مثلت ثلاثية رائعة بين الأداء والموسيقى والنص، وكما اعتبرتها الصحافة حينها نتاج لقاء “ثلاث قمم”. وقد دُعيت لحضور الحفلة التي ستغنّي بها أم كلثوم في القاهرة على مسرح سينما “قصر النيل”، وحضرت أنا وزوجتي، وقد عادت أم كلثوم وغنّتها في بعلبك العام 1970، وكانت تلك آخر حفلة لها في لبنان، فقد رحلت عن دنيانا في 3 شباط / فبراير 1975.
نشرت في دورية أفق (التي تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)، عدد 149 شباط / فبراير، وفي جريدة الوطن (السعودية) 22 شباط / فبراير 2024.