خلق قرار المحكمة الاتحادية بإنهاء عضوية رئيس مجلس النواب من المجلس، ازمة قانونية وسياسية حيث أدى ذلك الى خلو منصب رئيس مجلس النواب والحاجة الى انتخاب رئيس جديد وفق الأعراف التي سادت منذ تشكل العملية السياسية، ولقد سبق وان شهد مجلس النواب بمثل هذه الازمة عند نهاية سنة 2008 التي دامت أربعة أشهر، عندما أُرغم الدكتور محمود المشهداني رئيس مجلس النواب الاسبق على الاستقالة وخلو منصب رئيس مجلس النواب وانتخاب السيد اياد السامرائي بدلا عنه. ولأجل تسليط الضوء على الجوانب القانونية من هذه الازمة تم اعداد هذه المادة التي ستتطرق الى بعض أوجه القصور القانوني لمعالجة خلو منصب رئيس مجلس النواب والحلول المناسبة لتجاوز هذه الازمة وعند بروزها في المستقبل.
تجليات القصور القانوني:
يتمثل القصور في الجانب القانوني لحالة خلو المنصب من خلال الى النصوص الدستورية والقوانين والأنظمة واللوائح الداخلية المشرعة والأحكام القضائية التي لها صلة بالموضوع.
تحدد الدساتير في العادة المبادئ العامة لعمل مؤسسات الدولة من حيث اختصاص كل واحدة وصلاحياتها والصلات فيما بينها، وعلى ضوئها تشرع القوانين ومن ثم الأنظمة واللوائح التي تتضمن التعليمات التفصيلية للتطبيق، وإذا ما استجد موقف جديد او ظهرت حالة لم يتم التطرق لها او نشوء نزاع عند التطبيق، يبرز هنا دور القضاء في سد النقص التشريعي من خلال الأحكام التي يقررها. والمتمثلة في المحكمة الاتحادية العليا التي هي ملجأ للمتخاصمين في حل نزاعاتهم.
أولا: الدستور
لقد نص الدستور العراقي لسنة 2005 بخصوص انتخاب رئيس مجلس النواب على الآتي: (ينتخب مجلس النواب في اول جلسة له رئيسا، ثم نائباً أول ونائباً ثانياً بالأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس بالانتخاب السري المباشر) المادة (55)، ووفق هذا النص يمكن إدراج الملاحظات التالية:
– لم يتم التطرق الى حالة خلو منصب الرئيس في النص الدستوري، كما نص عليه الدستور العراقي عند حالة خلو منصب رئيس الجمهورية (الفقرة ج، المادة 72) ورئيس مجلس الوزراء (الفقرة، أولا، المادة 81)، وهذا نقص واضح يمكن تلافيه عند تعديل الدستور لاحقا.
– حدد المشرع الدستوري الفوز بالحصول على الأغلبية المطلقة فقط، ولم يتطرق إذا لم يحصل أي من المرشحين عليها.
– لم يحدد الدستور عدد الجولات الانتخابية في جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب.
– لم يأخذ بالتدرج بالأغلبية المطلوبة عند خوض الانتخاب لأكثر من جولة، كأن يتم اللجوء الى اختيار المرشحين الاثنين الحاصلين على اعلى الأصوات في الجولة الأولى والتنافس بينهما في الجولة الثانية، والفائز هو من يحصل على اعلى الأصوات، كما هو عند انتخاب رئيس الجمهورية حيث (… ينتخب رئيساً للجمهورية بأغلبية ثلثي عدد أعضائه، وإذا لم يحصل أي من المرشحين على الأغلبية المطلوبة يتم التنافس بين المرشحين الحاصلين على اعلى الأصوات ويعلن رئيسا من يحصل على أكثرية الأصوات في الاقتراع الثاني (الفقرة ج، المادة 72).
ثانياً: التشريعات
أصدر مجلس النواب النظام الداخلي الذي نظم عمل واختصاص مجلس النواب وتطرق الى حالة خلو المنصب من خلال النص الاتي في المادة (12، ثالثاً): إذا خلا منصب رئيس المجلس أو أي من نائبيه لأي سبب كان ينتخب المجلس بالأغلبية المطلقة خلفا له في اول جلسة يعقدها لسد الشاغر وفقاً لضوابط التوازنات السياسية بين الكتل)
ومن نص النظام الداخلي يتضح الآتي:
– ان تكون الجلسة الأولى لمجلس النواب عند إعلان خلو المنصب لانتخاب رئيس جديد.
– ان يحصل الرئيس المنتخب على الأغلبية المطلقة.
– ان يكون الرئيس المنتخب وفق الضوابط والتوازنات السياسية، أي حسب التوزيع المتعارف عليه بين الكتل لهذا المنصب.
ومن هذا النص قد حسم المشرع بان تكون الجلسة الأولى بعد خلو المنصب مخصصة لانتخاب رئيس جديد لكنه لم يتطرق إذا ما أخفق مجلس النواب في انتخاب رئيساً له في هذه الجلسة، فهل يستمر في أعماله ام تعلق جلساته حتى انتخاب الرئيس.
يمكن تلافي القصور في النص التشريعي من قبل مجلس النواب بتعديل (الفقرة ثالثاً من المادة 12) من النظام الداخلي بإضافة تحديد مدة زمنية لانتخاب رئيس مجلس النواب بان لا تتجاوز نهاية الفصل التشريعي الذي تم فيه اعلان خلو المنصب، وكذلك ان تنحصر المنافسة في الجولة الثانية من الجلسة بين اثنين من المرشحين فقط وهما الحاصلين على اعلى الأصوات، مما يسهل الحصول على الأغلبية المطلقة للفائز.
ومن الجدير بالذكر حدث نفس هذا الإشكال في مجلس النواب بالدورة الأولى، عقب اُرغام السيد محمود المشهداني بتقديم استقالته بتاريخ 23/12/2008 وخلو منصب رئيس مجلس النواب لمدة ما يقارب الثلاث أشهر، بسبب عدم حصول أي من المرشحين على الأغلبية المطلقة في جولتي التصويت التي جرت يومي 18 – 19 /2/2009، وبقي المجلس دون رئيس حتى انتخاب السيد اياد السامرائي رئيساً بتاريخ 19/4/2009 بحصوله على الأغلبية المطلقة.
ثالثا: الأحكام القضائية
الاحكام القضائية هي أحد مصادر القاعدة القانونية بالإضافة الى التشريع والعرف، ويتمثل عمل القاضي في تطبيق النص القانوني على المنازعات التي تعرض عليه، ومع تشعب الحياة وتطورها وما تفرزه من احداث جديدة فإن النص التشريعي او الدستوري مهما بلغ بصياغته، فانه لا يستطيع ان يواجه كل الفروض التي يمكن ان تحدث في الواقع العملي، ومن هنا يتأتى دور القضاء كمصدر تفسيري لنصوص الدستور والقوانين والانظمة، ولذلك يتم اللجوء الى القضاء المتمثل في المحكمة الاتحادية العليا للبت لمدى دستورية القوانين والأنظمة الداخلية و للفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين والقرارات والأنظمة والتعليمات والإجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية.
الحكم القضائي الأول
وأمام النقص في النص الدستوري الذي لم يعالج حالة خلو منصب رئيس مجلس النواب وكذلك عدم الإحاطة التامة للنظام الداخلي لمجلس النواب لحالة الخلو، سيكون اللجوء للقضاء الدستوري امر محتم، ولذلك لجأ مجلس النواب للمحكمة الاتحادية عند اول حالة خلو منصب رئيس مجلس النواب عند استقالة رئيس مجلس النواب بتاريخ 23/12/2008 فقد طلب مجلس النواب- مكتب النائب الأول لرئيس مجلس النواب من المحكمة الاتحادية بتاريخ 3/1/2009 الرأي عن مدى قانونية الجلسات اللاحقة التي يعقدها المجلس استنادا لأحكام الفقرة (ثالثا) من المادة (12) من النظام الداخلي لمجلس النواب المذكورة في متن المقالة، وقد كان رأي المحكمة المؤرخ في 5/2/2009 وفق الاتي(… بوجوب استمرار مجلس النواب بأداء مهامه خلال الفصل التشريعي، وتنعقد جلساته برئاسة احد نائبي الرئيس وحسب قدمه لحين انتخاب رئيس جديد له وفقا لما رسمته الفقرة( ثالثاً) من المادة(12) من النظام الداخلي ما دام المجلس قد اوفى بشروطها وباشر في الجلسة الأولى التي أعقبت خلو منصب رئيس جديد له وفق في ذلك في تلك الجلسة او بعدها بمرحلة واحدة او بعدة مراحل حسبما يتم الاتفاق عليه. ومن خلال رأي المحكمة يُستنبط الآتي:
1- استمرار مجلس النواب بأداء مهامه.
2- تُعقد جلسات المجلس برئاسة أقدم نائبين لرئيس المجلس.
3- يستمر مجلس النواب أداء مهامه دون رئيس حتى انتهاء الفصل التشريعي.
4- عدم اشتراط حسم الانتخاب بجلسة واحدة او مرحلة واحدة، ما دام المجلس خصص جلسته الاولى لانتخاب الرئيس بعد إعلان خلو المنصب.
وعلى ضوء هذا الرأي عقد مجلس النواب جلسته بتاريخ 18/2/2009 لانتخاب رئيسا لمجلس النواب وترشيح خمسة نواب ولم يحصل في الجولة الاولى أي منهم على الأغلبية المطلقة، وفي اليوم التالي أجريت الانتخابات ومرة أخرى ولم يحصل أي من المرشحين على الأغلبية المطلقة، واستمر المجلس بعد هذه الجلسة بعقد جلساته حتى انتخاب رئيسا له بتاريخ 19/4/2009 عندما حصل السيد اياد السامرائي الأغلبية المطلقة.
الحكم القضائي الثاني
واجهت الدورة الخامسة لمجلس النواب حالة خلو منصب رئيس مجلس النواب بعد اعلان المحكمة الاتحادية بإنهاء عضوية السيد محمد الحلبوسيبتاريخ 14/11/2023 الذي يشغل منصب رئيس مجلس النواب وبالتالي حدوث حالة خلو منصب رئيس مجلس النواب، وقد استبق الموقف النائب الأول لرئيس مجلس النواب، بطلب تفسير الى المحكمة الاتحادية للإجراءات التنظيمية الخاصة بانتخاب رئيس مجلس النواب مع عدد من المقترحات، وقد كان قرار المحكمة وفق الآتي:
((… إن خلو منصب رئيس مجلس النواب معالج بأحكام المادة( 12/ثالثا) من النظام الداخلي لمجلس النواب، وأن ذلك يقتضي انعقاد مجلس النواب لغرض فتح باب الترشيح لرئاسة مجلس النواب لمن يرغب، وأن يقتصر فتح باب الترشيح على تلك الجلسة فقط، لأجل حسم موضوع انتخابات رئيس المجلس بالوقت المناسب وعدم إطالة امد ذلك ولا يجوز قبول أي ترشيح جديد بعد البدء بإجراءات التصويت، ويتم انتخاب رئيس المجلس بالأغلبية المطلقة في تلك الجلسة او في الجلسات التالية بعد الجلسة الأولى( من ضمن جميع المرشحين في الجلسة الأولى- باستثناء من يطلب الانسحاب من الترشيح) مع وجوب استمرار مجلس النواب بأداء مهامه خلال الفصل التشريعي و تنعقد جلساته برئاسة احد نائبي الرئيس لحين انتخاب رئيس جديد له، وأن لا يكون عدم انتخاب رئيسا جديداً مبرراً لتعطيل عمل مجلس النواب))
ويمكن استنباط الإجراءات التالية لانتخاب رئيس مجلس النواب من قرار المحكمة الاتحادية:
1- الدعوة لانعقاد جلسة لمجلس النواب وفتح باب الترشيح لانتخاب رئيساً له عند اعلان حالة خلو المنصب.
2- ان يكون الفوز من خلال الحصول على الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء مجلس النواب.
3- استمرار مجلس النواب بأداء مهامه خلال الفصل التشريعي وعدم تعطيل عمل المجلس تحت أي مبرر.
4- تنعقد جلسات المجلس برئاسة أحد نائبي رئيس المجلس حتى انتخاب رئيس جديد.
5- ان يقتصر باب الترشيح عند الجلسة الأولى فقط، ولا يجوز إضافة أي مرشحين اخرين في الجلسات الأخرى حتى انتخاب رئيس جديد للمجلس.
6- للمرشح في الجلسة الأولى الحق بطلب الانسحاب عند الجولات الأخرى.
وعلى هذه الأساس أقيمت جلسة لانتخاب رئيساً للمجلس بتاريخ 14/1/2024، وفي الجولة الأولى لم يحصل أي من المرشحين على الأغلبية المطلقة، ولم تجر الجولة الثانية بسبب المشاجرة بين النواب مما أدى الى رفع الجلسة حتى اشعار اخر، وعلى ضوء نتائج الجولة الاولى والقرار التفسيري للمحكمة الاتحادية ستنحصر المنافسة بين المرشحين في الجلسة القادمة على الذين شاركوا في الجولة الأولى مع إمكانية تقليص عدد المنافسين عند انسحاب أي من المرشحين.
ومن كل ذلك يتضح ان الخلل الأساسي في الدستور عندما لم يتطرق الى حالة الخلو للمنصب وحصر الفوز بالأغلبية المطلقة فقط دون الإشارة الى إمكانية التقليل من نسبة الأغلبية في الجولات الأخرى. وان الخلل يكمن ايضا في صياغةالنظام الداخلي الذي في المستطاع تعديله وباي وقت يراه مناسب من خلال تقليص عدد المنافسين في الجولة الثانية التي تختصر بمرشحين اثنين فقط وهما الحاصلين على اعلى الاصوات في الجولة الأولى.
د.علي مهدي
نائب رئيس مركز بغداد للتنمية القانونية والاقتصادية