خاص: بقلم- د. مالك خوري:
فيلمي المفضل هذا العام في “مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية” كان العمل المميز للمخرج التونسي الشاب “محمد بن عطية”، (وراء الجبال). وهو فيلم مشغول بحرفية عالية وجرأة نادرة هذه الأيام في سينمانا العربية خصوصًا في إطار اللهاث وراء الدعم المفتوح للأموال الخليجية التي تُغدق خيراتها على كل من يجتر المعادلات الفيلمية التقليدية في الأسلوب وفي الثيمات المفرغة من أي محتوى اجتماعي أو وطني أو فكري. الفيلم حاز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في المهرجان المذكور بالمناصفة مع فيلم (الرحلة 404) لـ”هاني خليفة”. إلا أن اللجنة قررت إعطاء الجائزة الأولى للفيلم السوداني (وداعًا جوليا).
في الفنون التي تُقارب سّردية (الواقعية السحرية-magical realism) يميل العمل إلى استعمال لحظات “خيالية” معينة للتعليق على مجريات من صلب الواقع. في هذا السّياق فإننا نجد نوعًا من الوقع “التحريفي” أو المخادع لمسّار الشكل السّردي. وهذا يرُغم المشاهد أو القاريء على طرح مساءلات عما هو حقيقي وعما هو خيالي داخل العمل الفني. وهكذا مقاربة تختلف جذريًا عن أشكال القصة “الفانتازية” السّائدة والتي تميل إلى الالتزام بقواعد لعبة الجنر الأساسية للسّردية “الخيالية”، وخصوصًا لجهة التعاطي الخيالي الثابت مع كل السيّاق القصصي أو التعبيري للعمل. كل هذا يجعل حوار الفنان مع الواقع في الأعمال الواقعية السحرية يتسّم بجدلية تستفز المشاهد نحو محاولة الخروج بنتاج وفهم جديد للتناقضات المركبة لديناميات ما يفترضه مسلمات في الثيمة العامة للعمل الفني.
تاريخيًا، فإن إبداعات مكتوبة وفيلمية أميركية لاتينية عديدة شكلت أمثلة حية على قوة الاتجاه السحري في رصد لحظات ومكامن المقاومة الإنسانية للظلم والتهميش. وما أعمال “غابريال غارسيا ماركيز” الأدبية، وأفلام “يواكيم بيدرو دي أندريد” إلا أمثلة هامة قليلة نرصدها في هذا الإطار. لكن، ولأسباب مفهومة، فإن هذا النوع من التوجهات السينمائية ما زالت بعيدة عن ما نراه من ممارسات لسينمائيينا العرب، وإن شاهدنا بعض من تجلياته مؤخرًا في بعض أفلام السينما القصيرة العربية، وكما كنا لاحظنا مع المخرج المصري “عمر الزهيري” مؤخرًا في فيلمه (ريش)، حيث طفت إلى السطح بعض التناغمات الهامة مع الطابع المميز لأفلام “الواقعية السحرية”.
فيلم المخرج التونسي الشاب “محمد بن عطية” الأخير (وراء الجبال)؛ (2023)، يعتمد على تحدي المشاهد للقطع مع أي افتراضات مسّبقة تجاه الأحداث وشخصياتها. من هنا يُشيّح الفيلم بالقصة بعيدًا عن إطارها الجنري لأفلام الإثارة ليحولها إلى مجمع مفتوح لمشاعر وأحلام وتفاعلات متناقضة لإنسان ذو خلفية طبقية مهمشة في مجابهة غير متوازنة مع محيطه. حتى ما نعرفه عن خلفية المرض النفسي لشخصية “رفيق” (الفنان مجد مستورة) يُصبح مجرد واحد من هوامش أخرى وعديدة للحكاية.
الفيلم مجبول بقوة، ولكن بدون مباشرة، بالواقع الاجتماعي لتونس اليوم بتناقضاته الطبقية العميقة والتشّنجات المكبوتة لأبناء شرائح واسعة من أبناء المدن والريف الذين يُعانون من سياسات اقتصادية لا تخدم إلا مصالح الطبقات العُليا من البرجوازية الحاكمة. و”بن عطية” يتعاطى مع هذه القصة ليس من خلال منظور ماكركوزمي واسع، بل من داخل تفصيلات شديدة الخصوصية يسّتقيها من التفاعلات الجدلية لشخصيات الفيلم مع نفسها وبين بعضها البعض.
“رفيق” هو أب وزوج دُفِع إلى شفير اليأس والمرض النفسي مما جعله يقضي أربع سنوات في السجن لتحطيمه مكاتب المكان الذي كان يعمل فيه. بعد هجومه على المكاتب، يُحاول “رفيق” الانتحار عبر رمي نفسه من إحدى نوافذ مكان عمله. بعد إطلاق سراحه من السجن، يخطف “رفيق” ابنه “ياسين” (وليد بوشيوة) من مدرسته مصطحبًا إياه عبر الجبال في “رحلة طريق” يأمل من خلالها إعادة بعض الروح للعلاقة معه، والتي كانت قد انكسرت كنتاج مباشر للتحريض السلبي ضده من قبل عائلة زوجته السابقة. ونفهم من خلال الفيلم أن هذه العائلة لم تتقبل “رفيق” صهرًا منذ البداية وذلك بسبب خلفيته العمالية “غير المناسبة” للمستوى الطبقي لعائلة الزوجة السابقة. بالمقابل فإن قدرة “رفيق” على استمالة بعض من حب واحترام ابنه تبدو متصلة بإثبات قدرته على الطيران فوق الجبال التي نشاهدهم يمرون عبرها بعد تركهم للمدينة..
خلال الرحلة عبر الجبال، يقابل “رفيق” راعيّ غنم سرعان ما يتعلق به ويتابع الرحلة معه. وبعد هروبه من أحد حواجز الشرطة، يضطر “رفيق” ومن معه إلى اقتحام منزل ريفي للاختباء من الشرطة. أما مالكي البيت “وجدي” (حلمي دريدي) و”نجوى” (سلمى زغيدي) فهما الأب والأم لعائلة تقليدية ميسّورة. وبعد بعض النزاع الحاد بين “رفيق” وأصحاب البيت، يتفق الجميع (أفراد من طبقات اجتماعية متباينة – عامل ريفي، وعامل بوظيفة مكتب روتينية، ورجل أعمال وأب “ناجح”) على قضاء الليلة في غرفة الاستقبال. الصراعات تتفاقم ونعلم المزيد عن واقع شخصيات الفيلم ومدى وأشكال معاناتهم الذاتية المقموعة بما في ذلك الحالة المضطربة لزوجة صاحب البيت التي يبدو أنها تُعاني من اضطرابات خاصة بعلاقاتها الزوجية والأسرية. وتدريجيًا نرقب مزيدًا من التقاطع بين ما تكبته “نجوى” داخلها من توق إلى الهروب وإلى حرية تفتقدها، وبين ما يُحرك مسّارات التمرد والغضب وكذلك الحلم غير المنطقي بالطيران فوق الجبال ذات الشكل التنيّني لدى “رفيق”.
وبنفس عبق “الواقعية” التي نرى ونشعر بها ومن خلالها ببعض من حريتنا المقموعة حين نرى نفسنا “نُحلق” في الفضاء بتحدٍ واضح لجاذبية حياتنا اليومية المؤدلجة لقمع أي حس متمرد قد يمر من ناحيتنا… تلك الحرية المطلقة التي لا نشعر بها إلا في أحلامنا الدفينة حين “نطير” على وسادة مناجاة الأحلام التي لا تزورنا إلا ونحن نيامًا، بنفس هذا العبق نشاهد في نهايات الفيلم “رفيق” يقفز من فوق هاوية الجبل هاربًا من الشرطة مع ابنه، في مشهد فانتازي يهزنا في العمق ليُشكل لحظة سحرية في قدرتها على التعبير عن الأمل والحلم كما الواقع والمأساة الإنسانية ضمن معاناة طبقات وشرائح اجتماعية واسعة مهمشة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة.
فيلم يُساهم بلا شك في كسر الكثير من قواعد لعبة التعبير السينمائي في بلادنا، ويُعيد تذكيرنا بقوة وقدرة السينما على تعميق رؤيتنا لتحدياتنا الإنسانية والوجودية.