لأيام (بجامات البازة) و(درابين) الثورة الترابية، ذكريات مازال بعض ارهاصاتها حاضرةً في المخيلة المتعبة حتى اليوم، برغم من مرور كل هذه السنوات الطويلة. يبدو أن بساطة الحياة وابتعادها عن صخب وبهرة التكنولوجيا، هي من أسست لتلك الذاكرة القوية في أن تكون محطةً للاحتفاظ بما هو كل جميل، تفوح منه رائحة البراءة ؛حيث اعتاد اطفال تلك المرحلة الزمنية في ان تغمرهم السعادة الطاغية، وهم يلعقون نصف (صمونة) حارة بعد أن غُمست بـ(العمبة) من اقرب بائع على ناصية الشارع. ربما تكون للفة (اللبلبي) في ايام الشتاء الباردة، سحرها الاخاذ بعد ان يتطاير منها بخار البهارات الحارة مع ضربات الايدي على مؤخرة (بطل النيمندوزي) كي ينز حامضاً يسيل له اللعاب ،وفي لحظة تتسابق الايدي لقناصيها حيث فتحة الفم.
يحاول اغلب بائعة (اللبلبي) و(العمبة) في أن يجعلوا عرباتهم الخشبية تأخذ استراحتها المفضلة قرب المدارس، وعند (حلت ) الطلبة ، وهم يدلعون بأغانيهم واهازيجهم بضاعتهم ؛لأجل إغراء اطفال المدارس في الشراء، وان يضغطوا على ذويهم في أن يزين ايدهم عشرة فلوس، وهو المبلغ الذي يسعى الاطفال في يكون في حوزتهم ؛ مما كانت ظروف العائلة المادية. الذي لا يملك هذا المبلغ ما عليه سوى أن يمرق هذه الاكلات الشهية بنظرات ملؤها الحسرة، وهو يرى بقية الاطفال تلون افواههم البهارات الصفراء، ويلعقون باسنتهم ما تبقى مما يسيل من هذه المادة. يعمد بعض الاطفال الاشقياء إلى (تحنيص) الذين لم يظفروا بهذا الكسب المهم. وقد تتبدد هذه الحسرة والدموع المختزلة في العيون إلى لحظات فرحٍ وسعادةٍ عندما يقتسم احدهم لفة (اللبلبي) أو (العمبة) لزميله ،في مشهد إثار تسجله ذاكرة تاريخ الطفولة؛ وهي ضائعة اليوم بين رائحة (الاندومي) و(البيزا) ،ومغامرات (أبو الدلفري) وهو على صهوة دراجته النارية يصل طلب احدهم بعد ان عجزت امزجة الاطفال المعاصرة عن تذوق اكلات مطبخ الام الحنون ، مفضلة عليه الاطعمة الجاهزة التي لا ينز منها سوى الدهن المهدرج والاسماء المستوردة. لم تعد الاصابع تلعق ما تبقى من حلاوة الطعم، ولا تتجمع حول عربة (ابو اللبلبي) و(ابو العمبة) وصاحب الحظوة في ان يكون هو صاحب الشرف في الحصول على اول لفة (تحنص) الالسن و بقية عيون الاطفال ؛خاطفاً احلى هدية يمكن ان يحصل عليها طفل في لحظة سعادة شاردة قدر لها ان يعيش في الذاكرة حتى اليوم.