يعالجنا الطبيب إذا مرضنا
فكيف بنا إذا مرض الطبيب؟
ولا حيف إذا فسد الزواني
وكل الحيف لو فسد النجيب
ما تقدم هو بيت للشاعر العراقي الريفي الجنوبي علي الغراوي، الذي لم يمهله العمر من العقود إلا أربعا، وكان دأبه يتغزل في العراق، ويتألم للعراق، ويبكي على العراق، ويأمل ويرجو للعراق والعراقيين حياة حرة كريمة، وفارق الحياة في النصف الأول من القرن المنصرم، ولم يتحقق شيء من أمله ورجائه، لا في حياته ولا بعد مماته حتى ساعة إعداد هذا المقال.
وأراني أتذكر أبياته -رغم قلتها- ونحن نعيش منعطفات خطيرة في حياتنا بين الفينة والأخرى، وكلنا يذكر أحداثا ليست ببعيدة عنا، حين ثار الشعب في تشرينيته التي ثبّت تأريخها بالدم بعد أن طفح به الكيل، وانتفض على الفساد الذي توغل أيما توغل في مفاصل الدولة، بأشكال وأصناف وأنواع لم نكن نعيها او ندركها، فعلى حد علمنا أن السارق لاينفذ سرقاته إلا ليلا، حتى قال في هذا صاحب المثل؛ “الليل ستر الحرامية”. كما علمنا أن جل ما يخشاه الـ “حرامي” هو الـ “چرخچي” حارس الليل، مع أنه -الچرخچي- لايحمل غير صفارته وعصاه، إذ لم يكن التسلح بالأسلحة النارية مسموحا له، ومع هذا نراه مُهابا يتجنبه اللصوص.
لصوص اليوم -لسوء حظ المواطن العراقي- غير لصوص الأمس، وهم لايهابون الرقيب، إذ أنهم “دهن ودبس” مع “الچرخچي”. فنراهم يصولون ويجولون ليل نهار، ولا يردعهم رادع ولا يردهم راد، بل أن سرقاتهم تتم تحت جنح الليل بأريحة، كما أنها تنجز في وضح النهار بأريحية أكثر، ولا خوف عليهم ولا هم يهربون.
وإذا علمنا أن الطامات الكبرى في العراق كثيرة، فإن كبريات الطامات هي أن اللصوص هم أنفسهم الذين يتربعون على عرش السلطات، ويتقلدون المناصب العليا في البلاد، ويمتلكون حصانات رسمية فضلا عن المال والنفوذ اللذين يتمتعون بهما، وبذا فهم يجسدون المثل القائل: “حاميها حراميها”.
ولا أبالغ في شيء إن قلت أن العقدين الأخيرين اللذين مرا على العراقيين، حملاصورا وقصصا للفساد، يشيب لها الوليد من هول التفاصيل التي تحويها، وما زاد الطين بلة هو الرؤوس والـ (صماخات) التي شكلت عصابات بأذرع أخطبوطية، توسعت وتمددت في مؤسسات البلد ومرتكزاته بأعلى المستويات، حتى بات الفساد السمة الواضحة في أية مؤسسة حكومية، بدءًا من “العارضة” وباب النظام مرورا بالاستعلامات ثم الواردة فالسجلات فالمتابعة… صعودا الى المدير والمدير العام والوكيل… وانتهاءً بالوزير (عدا نفر قليل لم يحد عن مبادئه وقيمه السامية).
ومع هذا النكوص في مكافحة الفساد، نسمع عبارات معسولة، تفتح أبواب الأمل مشرعة على مصاريعها، عادة ماينطقها متبوئو المناصب الرفيعة في البلاد، مؤكدين ملاحقة رموز الفساد وكشف أوراقهم ليتسنى القضاء عليهم، وتتكرر هذه التطمينات لتحسين سمعة كانت قد تشوهت. وحين يشعر المسؤولون الفاسدون أن أكاذيبهم وخدعهم، لم تعد تنطلي على المواطن العراقي، يتدرعون بجلد الحرباء ويتقمصون دور الشرفاء، فيما تهب الأحزاب على قدم وساق، لطلاء أوجهها الكالحة، بألوان براقة وببهرج فتان، لتظهر بوجه البراءة من كل فعل دنيء لا وطني.
وعلى هذا المنوال، يستمر الضحك على الذقون، ويبقى المواطن المغلوب على أمره، بين مطرقة الفاسدين وسندان الصبر والتحمل، وتستمر اللعبة إلى أجل غير مسمى، ذلك أن أعداد البناة أقل بكثير عن جيوش الهدم وإحلال الخراب، وقد قيل سابقا:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
aliali6212ghaith@gmail.com