خاص: إعداد- سماح عادل
الكتابة عالم سري مليء بالمتعة، يرمم ما يتصدع في روح الكاتب، يهديه السلام، والأمان، والسحر. عالم تنكشف فيه الأمور وتتضح، ويعطي للكاتب إحساسا بالروعة، والامتلاء.
هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:
- هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
- هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة
- هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
- هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
- هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟
التحرر والانكشاف..
تقول الكاتبة العراقية “زهراء حسن”: “لم أشعر أنني مختلفة عن أقراني في فترة الصغر والطفولة فقد كنت مثل بقية الصغار أحب اللعب والحياة الاجتماعية، كما أن ميلي إلى الكتابة لم يظهر في المرحلة الابتدائية الأولى بصورة واضحة، كانت هناك إشارات تدل على أني أحب الشعر وسأكونه ذات يوم، مثلا كنت أحفظ القصائد بسرعة وأحب درس العربي، لكن اختلافي عن أقراني لم يظهر في المرحلة الابتدائية والمتوسطة.
- ظهر في مرحلة الثانوية والجامعة فيها اصطدمت فعلا بالمجتمع الذي رأى في أفكاري خروجا عن العرف السائد، وأنا في الحقيقة لم اتعمد هذه الأفكار بل أنا مؤمنة بها فعلا، كحق المرأة والصغير في الحياة والاحترام”.
وتضيف: “هذه الأفكار عزلتني عن المجتمع وجعلت غربتي كبيرة، طبعا ساهم الميل إلى القراءة والكتابة بتتويج هذه الأفكار، واتذكر ذات يوم إني كنت في جلسة نسائية تحدثت فيها عن إمكانية أن تعيش المرأة الشابة لوحدها، فما كان من واحدة كانت من بين الحاضرين حيث أجابتني بمثل تحفظه عندما قالت: “لا رأي لمن انفرد برأيه”.
وتواصل: “لم أعامل كغريبة من قبل الأهل وخصوصا أمي فهي برغم أميتها دعمتني ماديا ومعنويا، كانت تمنحني المال لأشتري الكتب، كما أنها كانت تطلب مني أن أقرأ لها ما أكتب، أمي كانت جمهوري الشعري الأول، بينما أبي كان يعترض كثيرا على ذلك، وكان يرفض اختلاط النساء بالرجال وكان يرى ذلك عيبا، لكني رغم اعتراضه كان شغفي الشعري أقوى من اعتراضاته. فأنا لم أستطع أن أمنع نفسي من هذا الهوى.
ولكني أريد أن أذكر شيئا يتعلق بأبي، فقد كان محبا للشعر يفتح الكتاب كل يوم بعد الظهر ويقرأ الشعر، وكنت استمع إليه بشغف كبير واعتقد أن بذرة الشعر كانت موجودة لديه، غير أنه لا يدري أو قمعتها ظروف حياته الصعبة.
لكني شعرت بالغربة فعلا في المدرسة وبين العائلة والأقارب، فأنا كنت أحب القراءة وكنت أود أن اتشارك النقاش بعد كل كتاب اقرأه، إلا أني كنت وحيدة تماما في هذا المجال، فالمدرسة لا تشجع الطلاب على القراءات الخارجية والطلاب لا علاقة لهم من بعيد أو قريب بالقراءة، كما أنني من عائلة ضربتها الأمية، فأمي وخالتي وجدتي وعمتي منعن من الذهاب إلى المدرسة ومنعن من فرصة تعلم القراءة والكتابة، لقد كنت فعلا وحيدة في هذا العالم عالم القراءة”.
وتواصل: “أفضل الانعزال والبقاء في غرفتي أو الخروج مع صديقاتي، لقد كنت أبحث فعلا عن حريتي الفكرية والشخصية وكنت أريد أن استقل بقرارتي وأن أعيش حياتي التي أعطيت لي.
ولكن هذا لم يكن مسموحا على الصعيد الاجتماعي، لذا كنت أشعر ومازلت أني في صراع دائم مع سارقي الحياة مني، وسارقي اللحظات الجميلة التي تعيش بذاكرتنا وتمنحنا الدفء وقت الصقيع ، فأنا ابنة اللحظة أحب أن استمتع بدفء كوب الشاي، ولكن هناك دائما من يسرق الحياة منك ويسرق لحظات الفرح هذه، لذا أنا في صراع دائم في آخذ حقي من سارق حياتي، وهذا ما أدي إلى اصطدامات كبيرة، وتسبب هذا بانعزالي وغربتي فعلا “.
وتتابع: “كنت أتمنى أن يتعامل الأهل بشكل مختلف وأن يحتفى بي ككاتبة، كما يحتفى بالباقين من طبيب ومهندس ومدرس على سبيل المثال، ولكن وقد ذكرت سابقا أني من عائلة ضربتها الأمية، لذا لا يمكن أن أكون متطلبة اكثر، فالأهل هنا يخضعون لشروط ظروفهم التي فرضت عليهم ووجدوا أنفسهم فيها بالرغم منهم.
لقد حصلت على الرعاية في هذا المجال من أمي وهذا يكفيني على صعيد الأهل”.
وتؤكد: “لست نادمة على شغفي بالقراءة والكتابة أبدا، فلقد تعلمت من الكتب الحياة والمعرفة، لقد كنت ومازلت تواقة إلى المعرفة والتعلم، وأنا بطبعي الأصلي شغوفة بالعلم والمعرفة وأنا أدين للكتاب فعلا في مراحل كثيرة في الحياة، فقد كان سندي في الصعوبات، منه تعلمت وتربيت وتثقفت وتطورت.
أما الكتابة فأنا أحبها، يكفي أنها تمنحني الإحساس بالراحة والتحرر بعد كل نص شعري انشره على مواقع التواصل الاجتماعي”.
ترميم ما تصدع..
تقول الكاتبة التونسية “كلثوم عياشية”: “يختلف تقديرنا للأمور في الصّبا رغم ملاحظتنا لما يحصل من تباين في السّلوك ولا نستطيع أن نرده إلى سبب معين، فإدراكنا غير دقيق بالعودة الحالية إلى الماضي، أسندت بعض العناوين لتجربتي القراءة في صغرنا وشغف المطالعة لم يمثل تميّزا حقيقيا.
فقد جمعتني الدراسة “اعدادية الفتيات بباردو” بثلة من الصديقات، تنافسن في إحصاء الكتب خاصة مع انتشار كتب الجيب بيننا بالعربيّة والفرنسية، لذا كان ما رافق المرحلتين الاعدادية والثانوية حافزا على تحبير كراسات صغيرة فيها انطباعات وأفكار وبوح، وعدّ الأمر جزءا من شغف التّحصيل لم يعترض عليه أحد”.
وعن معاملة الأهل داخل الأسرة كأنها غريبة عنهم ولا تشبههم وكيف كان تلقيهم لميلها للقراءة والكتابة تقول: “يعيدني السؤال إلى فترة مهمة من حياتي كانت علاقتي بالكتب قراءة وبمحاولة الكتابة، بيتنا كان أيامها دار ضيافة لا تهدأ من الزوار الذين تبالغ أمي في الحفاوة بهم، وتدعونا إلى بعض الأعمال المرهقة التي لم أكن اعترض عليها إلا على الورق، حين انزوى فأقول ما أريد عنهم، وارسم ملامحهم وسلوكهم.
وما كان لأحد أن ينتبه إلى انشغالي بالكتابة لأني كنت أفعل ذلك ليلا، فقد عانيت طوال سنوات من الأرق ووجدت في عالم الاوراق السلوى.
مع التقدم في السّن أصبحت الرغبة في الصمت والبعد في نظر المحيطين بي سوء تصرف، يترجم أحيانا بالتعالي والتظاهر”.
وعن تمنى أن يتعامل معها أهلها بشكل مختلف تقول: “نعم من المؤكد أنّ من مسه شغف شبيه في حاجة إلى عزلة ولو متقطعة، تتيح له ترتيب أفكاره وبناء عوالمه، فهو مسكون بطبعه بصخب شخصيات وتفاصيل وملامح، وهي فرصة تتاح للمبدعين وليست من حظ المبدعات غالبا.
قال صديق صحفي يوما: “أنت كاتبة حقيقية لكن للأسف لا تتمتعين بحياة الكاتبات”، استوقفني التعليق طويلا لأني رأيت تجربتي مع العائلة تتكرر مع أخريات مع قليل من التفاوت في خصائص كلّ تجربة وطولها”.
وتكمل عن تخيل حياتها بدون الكتابة: “خيال لا يمرّ ببالي أبدا أنا مدينة للقراءة التي منحتني فرصة الكتابة، لأنها فتحت لي كوى من نور ورممت الكثير مما تصدع فيّ، الكتابة عصمتني في فترات عديدة من حياتي من عثرات نفسية وحوت انفعالاتي في اختلافها.
فقد كنت في ورشة كتابة دائمة نشرت بعض ما حبّرت في فترات متباعدة واحتفظت بأغلبه”.
متعة سرية..
يقول الكاتب “خالد شاطي” من العراق: “في طفولتي كنت مندهشاً من عدم إيلاء الناس طاقاتهم كلها ووقتهم كله للقراءة والكتابة، وكنت أظن أن لا شيء في العالم يستحق جهد الناس ووقتهم وانصرافهم إليه كالأدب. وهذا الانغماس في الأدب والجوانب المتعلقة به؛ جعلني في نظر نفسي مختلفاً عن الآخرين الذين لا يشاركونني اهتماماتي الأدبية والفنية، وكأنني أحوز متعة سرية لم يعرفها أحدهم ولا ذاقها أبداً، فكنت ـ مدفوعاً بالشفقة تارة أو بالرغبة في إزالة الاختلاف ـ أسعى إلى مشاطرتهم هذه المتعة الكبرى والغريبة”.
ويضيف: “كان أبي وأمي أميّين، لكنهما لم يكونا جاهلين. كانا يدركان أن في العالم طرق حياة واهتمامات عديدة مخالفة لما اعتادا عليه وما انتهجاه في حياتهما، ولم يقفا إزاء اهتماماتي الأدبية موقفاً مستهجناً أو رافضاً، ربما لأنهما لم يفهماه أو اعتقدا أنه لهو صبياني مؤقت، وربما أملا أن ذلك سيؤدي إلى نتيجة ما؛ طيبة، أو ظنا أنني إنما أؤدي واجباتي المدرسية.
وأذكر أن أبي قال لي مرة وهو يرى المال الذي أعطانيه تحول إلى كتب: ما نفع كل هذه الأوراق؟! وإذا ما أراد أخي الأكبر مني إيذائي أثناء شجارنا، كان يهدد برمي كتبي في التنور. أما أخي الأكبر فكان الوحيد الذي يشجعني ويعطيني المال لشراء الكتب”.
ويواصل: “لم أسع للعزلة، لكن ممارسة القراءة والكتابة تتطلب ذلك. وقد أحدث انغماسي الكبير في عالم الأدب وما أحمله من تصورات قاصرة عنه وعن دوره، فجوة كبيرة بين الآخرين وبيني. كنت غريباً عن الجميع، أو بتعبير أدق، كنت أشعر أنهم هم الغرباء”.
ويكمل: “كنت أتمنى أن يدرك الأهل والمعارف كيفية التعامل مع شخص مولع بالأدب والفن، أن يتفهموا متطلباته واحتياجاته، فلا يطالبونه مثلاً بأداء أعمال أو مهام أو واجبات معينة، هي في حقيقتها ملهيات، تضيع جهده ووقته”.
يؤكد: “لم ينتابن الندم يوماً بسبب شغفي واهتماماتي الأدبية، بل أشعر منذ سنوات بالندم على كل وقت انقطعت فيه عن هذا الاهتمام، وعلى تأجيل مشاريع كتابية كثيرة. لا أظن أن للحياة لوناً أو طعماً بدون الكتابة. وسأتقبل مغادرتها إن تيقنت حرماني من الكتابة”.