” لم اقرأ باسترناك ولكن”!
لعل هذه العبارة تلخص الطبيعة الانتهازية لشريحة المثقفين المنصهرين عضويا مع أنظمة القمع والعسف واغتيال الكلمة الحرة.
يقول الروائي السوري منذر حلوم في كتابه الممتع والعميق الصادر مؤخرا ( فرسان الحرية في الثقافة الروسية)؛؛؛
“كانت عبارة (لم أقرأ..)، قد نشأت مع حملة (تسميم) الشاعر والروائي الروسي الشهير بوريس باسترناك في وسائل الإعلام (الوطنية).
والتسميم كلمة يستخدمها الروس للتعبير عن حملات السلطة علنا على الكتاب المعارضين . فمع نشر روايته ” الدكتور جيفاكو” خارج الاتحاد السوفيتي فُصل باسترناك من اتحاد الكتّاب وعقدت مؤتمرات واقيمت ندوات للتشهير به وتسفيه روايته. وكانت كلمات المشاركين فيها، كما مقالات النقاد والكتاب الصحفيين وشهادات العمال والكادحين تبدأ بعبارة ” لم اقرأ باسترناك ولكن استطيع القول…” !
وبعدها تاتي عبارات التخوين وانه تافه أدبيا”.
على مدى قرابة 300 صفحة، يأخذنا الكاتب الضليع بالادب الروسي الدكتور منذر حلوم؛ وباسلوب يجمع بين السرد الروائي والاستقراء التاريخي في رحلة الى المناطق المحرمة في الثقافة الروسية المعاصرة، مذ ان فرضت السلطات السوفيتية رقابة قاسية على النتاجات الفكرية والإبداعية ولاحقت المثقفين وزجت بهم في السجون وفي معسكرات الاعتقال واغتالت وأعدمت بعضهم وشردت آلاف العقول؛ تماما مثلما تفعل أنظمة القمع في عالمنا العربي الذي كرس لها الكاتب منذر حلوم أكثر من عمل روائي، يوثق بحرفية عالية للعسف السياسي عربيا.
لقد تصدى عدد محدود جدا من كتّاب العربية؛ على حد علمي، الى موضوعة الحرية في الثقافة الروسية المعاصرة، وتحديدا خلال الحقبة السوفيتية التي تنوعت في آلية القمع بدءًا من السنوات الاولى لاستيلاء البلاشفة بزعامة لينين على السلطة في روسيا بعد ثورة اكتوبر 1917 مرورا بالقمع الستاليني ومن ثم مرحلة
” ذوبان الجليد” نتيجة نقد تجربة عبادة الفرد في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي وانفتاح خليفة ستالين في زعامة الحزب نيكيتا خروشوف على الأدباء والفنانين ومن ثم النكوص عن سياسة ” دع مئة زهرة تتفتح” وعودة هراوة المحاكم وتسليط حفنة مَن كتبة السلطة على رقاب المبدعين الاحرار.
كان الكاتب والمترجم العراقي د. جودت هوشيار، أغنى المكتبة العربية بعدد من المؤلفات القيمة كشفت النقاب للقاريء العربي عن أعمال ومآسي الكتاب والمثقفين في روسيا والاتحاد السوفيتي السابق على يد النظام الشمولي.
وياتي اليوم كتاب الروائي السوري منذر حلوم الكاتب و الأستاذ الجامعي (دكتوراه في العلوم البيولوجية)اضافة غنية لتيار كسر المقولات النمطية والجامدة المؤدجلة عن الثقافة السوفيتية.
ترجم منذر حلوم عن الروسية:
«يوم واحد من حياة إيفان دينيسوفيتش» و«دار ماتريونا» و«حادثة في محطة كاتشيتوفكا»، لألكسندر سولجينيتسن، صدرت في مجلّد واحد، عن دار المدى عام 1999.
وكذلك قصص من المعتقلات، لفارلام شالاموف، نشرت تحت عنوان «القادم من الجحيم»، عن دار الحصاد.
«فلسفة الأسطورة»، لأليكسي لوسيف، صدرت عن دار الحوار في طبعتين.
كتب منذر حلوم مئات المقالات في الصحافة العربية،من خلال منظور ثقافي وسوسيولوجي عن قضية الحرية والأدب المقاوم .
صدرت لمنذر حلوم عدة روايات منها ( كأن شيئا لا يحدث ) و( أولاد سكيبة أو خروج الأقدام الحافية ).و( قمصان زكريا) و ( لا تقتل ريتا) وغيرها . وياتي كتاب ( فرسان الحرية في الثقافة الروسية) المتوفر في معرض القاهرة الدولي للكتاب حاليا، تتويجا لجهد فكري وإبداعي كرسه الكاتب السوري المقيم في روسيا لتمجيد قيم الحرية والعدالة ومقاومة العسف والاضطهاد.
قرأ العرب المهتمون بتنويعات الثقافة الروسية الحديثة بعيون كتاب غربيين، ما يعرف بالادب السوفيتي المنشق، بتناول تغطيه روح التحامل السياسي على النظام الشيوعي، اكثر منها الى التحليل الأدبي أو الاستزادة الفكرية،ليصبح القاري العربي، الذي يفتقر أصلا الى معرفة واسعة بالأعمال الروائية والقصصية الروسية المعاصرة، أسير تلك التصورات المنحازة؛ فيما يستند كتاب منذر بدر حلوم الى الإعجاب بجمال الأدب الروسي ” المنشق” لقيمته الفنية الراقية و الذي تجاهلته دور النشر السوفيتية السابقة حين نقلت أعمال الكتاب الناطقين باللغة الروسية الى العربية مثل دار التقدم و رادوغا وغيرهما.وحرمت القراء العرب من معرفة الوجه الآخر للجماليات الروسية خارج أروقة السلطة أو ما يعرف بالأدب الرسمي، المصطلح الذي يؤشر على قبول الأجهزة الثقافية الحكومية بالمؤلف وبالكتاب مع اختلاف المضامين.
يقدم ( فرسان الحرية) وجبة دسمة من المعارف عن مجاهيل الثقافة الروسية وأبطالها وضحاياها وتداعياتها على الثقافة العالمية التي تأثرت وتفاعلت بعمق مع الأدب الملاحق خلف “الستار الحديدي”؛ وحولت قسما كبيرا من القصص والروايات الى أعمال سينمائية ومسرحية حصدت الجوائز وملايين ملايين المشاهدات في العالم.
لا تقف خلف ( فرسان الحرية) دوافع سياسية أو أيديولوجية ضيقة، انما ينطلق في اعتقادنا من محاولة الكاتب السوري تسليط الضوء على مشتركات القمع وملاحقة الكتّاب الأحرار بغض النظر عن الهوية والقومية ولون النظام السياسي؛ يوحدها الطابع الشمولي والتلذذ بإهانة وتعذيب المثقفين.
يشتمل الكتاب على خمسة فصول تبدا بمقدمة( صاحبة الجلالة الحربة) وتنتهي ب( دعوة الى العدالة) يراجع فيها المؤلف بعض أعمال دوستويوفسكي و بولغاكوف و شالاموف فيما يشبه الحوار مع المذهب التولستوفي المثير للجدل والقائم على دعوة الكاتب الروسي الإنساني الى مقاومة الشر بفعل المزيد من الخير.
و يخلص حلوم إلى التساؤل ؛؛؛
أيكون في رواية( المعلم و مارغريتا) لبولغاكوف دعوة من خلال تحرير الحاكم الظالم بيلاطس في الآخرة، دعوة الى تحرير الحكام الظالمين والصفح عما اقترفوه بحق الداعين الى الحقيقة من أمثال المعلم ويشوع؟
ويقرر الكاتب؛؛
الرواية تقول ليكن القصاص هنا والآن، وهكذا فلا يرضى بولغاكوف بأقل من قتل يهوذا، على الرغم من حرص حاكم اليهودية الظالم بيلاطس على حمايته. فيهوذا يقتل في الرواية على خلاف ما تقول الأناجيل”.
نعود فنذكّر بالعبارة الانتهازية الأثيرة
التي يضعها منذر حلوم كالمصباح تضيء فهم الروائي السوري لدور خدن الأنظمة الشمولية في الوشاية بالمثقفين والزج بهم في أقبية الموت ” لم اقرأ باسترناك ولكن”!
الكتاب يستعرض أعمال وسيرة حياة كتاب وشعراء عاشوا وماتوا في روسيا أو في خارجها، ولم تصل كتاباتهم الى القاريء العربي لأسباب سياسية تعود الى تجاهل دور النشر في الحقبة السوفيتية لأعمال تصنف على انها معادية، أو لان الناشرين والمترجمين العرب لم يقدروا القيمة الفنية والفكرية العظيمة لروايات سيجد القاريء العربي أنها تتحدث عنه وإليه ايضا لان القمع والعسف لا يعرف الحدود ولا الفوارق مادام الجلاد واحد يتلذذ بتدمير الفكر النير وقتل حامليه.