دأبت الامم والجماعات على الاحتفال والاحتفاء بمبدعيها من مفكرين وعلماء وقادة ومثقفين لاستلهام آثارهم في سبيل استنهاض شعوبهم وتنمية شبابهم ومواصلة مسيرة التقدم والإبداع ، لذلك تجد العديد من المهرجانات الثقافية والفنية والرياضية والعلمية التي تعنى بإحياء ذكرى اولئك المبدعين ومنجزاتهم تقام من قبل المؤسسات المعنية بصورة مستمرة مما اضفى لأروقة تلك المؤسسات حيوية وعطاء انبثق من رحم ذلك الاحياء والاستذكار البناء وخصوصا اذا كان المحتفى به احد رموز الاسلام ومجدديه من علماء الاصلاح والتجديد الديني الرساليين ..
ولعل المفكر الشهيد محمد باقر الصدر أحد نوادر الاسلام في العصور المتأخرة بل قد يقف في مقدمة سلسلة من العلماء الذين بعثوا للإسلام الروح بعد ان اجدب المسلمون عن مواجهة تبلور الافكار والنظريات التي انبثقت في القرن العشرين من معاقل الغرب بشقيه الاوربي والأمريكي لتعصف بالمجتمع الاسلامي وتزلزله يمينا ويسارا في ظل تقهقر المدارس الدينية لكافة المذاهب وبالخصوص الشيعة عن مجاراة او حتى محاكاة الفكر الماركسي والرأسمالي بسبب الجمود الذي اتصفت به القيادات المتصدية آنذاك على صعيد المنظومة النظرية الفكرية والفقهية .
وإزاء العجز والتفرج من قبل متصدري المشهد الديني آنذاك ولدت الانهزامية التي تحولت الى مبرر للمجتمع الاسلامي للانسلاخ عن دينه والتحول بديناميكية صوب المعسكرات الايدلوجية الجديدة بعد ان خُدعت بشعاراتها البراقة ووعودها المعسولة لتتحول الامة الاسلامية الى أمة شيوعية وماركسية وصوفية وسلفية في اغلب فئاتها الاجتماعية بالرغم من بعض محاولات الاصلاح والتجديد التي قام بها بعض علماء العراق ومصر للنهوض من ذلك الواقع المرير إلا ان عدم طرح الاسلام كمشروع متكامل وملائم للحياة كان سببا في انتشار المذاهب الغربية الهدامة .
ولذلك عندما انبثقت شرارة ثورة فكر الصدر الاول بمجموعة من المقالات التي نشرت في مجلات النجف الاشرف الثقافية انذاك كالإيمان والأضواء ، وسرعان ما لفت الانظار الى التميز في طرحه وتناوله للفكر الاسلامي ومعالجاته للقضايا المعاصرة واهم المشاكل الفكرية التي كانت تعصف بالمجتمع الاسلامي ، ليطلق بعد ذلك ثورة اسلامية شاملة على صعيد الفكر من خلال اعادة صياغة المنظومة الاسلامية المعرفية الثقافية المعطلة والمهملة ليبعث روح الاسلام ويبث قدرة الاسلام على المواجهة وليعصف بعد ذلك بمعاقل الفكر الغربي الى درجة هز ارجاء تلك المعاقل قبل ان يبلغ مدى العصف درجة دك حصون تلك المعاقل بعد اختراقها بمعاول منظومة التشريعات وفلسفة الاحكام الاسلامية عبر مجموعة متسلسلة من الاصدارات العملاقة أبتدئها بنسف المنظومة الاقتصادية التي بشر بها المعسكرين الغربيين الرئيسين الرأسمالي والاشتراكي واثبات صلاحية نظرية الاقتصاد الاسلامي كمنفذ وحيد لضمان العدالة الاقتصادية بين المجتمعات الانسانية عبر كتابي (اقتصادنا) و( البنك اللاربوي ) ، ثم توجه باقر الصدر ليكشف هزالة الفلسفات المادية وهشاشة نظرياتها واطروحاتها ازاء الفلسفة الاسلامية التي تنطلق من التوحيد والاصول الاخرى للرسالة الاسلامية قبل ان يسطر الاسس المشتركة للاستقراء المنطقي بين العلوم الطبيعية والإيمان بالله في كتابيه ( فلسفتنا) و ( الاسس المنطقية للاستقراء) ثم توج هذه الثلاثية المعرفية الاسلامية في كتابيه (مجتمعنا) الذي وضع فيه ملامح هوية المجتمع الاسلامي من خلال التشريعات الاسلامية ومصادرها القرآن والنبي الاكرم واله الاطهار (عليهم الصلاة والسلام) وختامها الذي كان مسكاً وعنبراً عبر كتابه ( الاسلام يقود الحياة) والذي وضع خلاله دستور الحكومة الاسلامية القادر على ملئ كل الفراغات وتلبية كل الاحتياجات وملائمته لكل التطورات وخلوه من ما يعتري الدساتير المادية الاخرى من نقائص وثغرات ، هذا المنجز والتراث الفكري الكبير اجبر الكل على رفع القبعة ازاء هذه الشخصية الانسانية العملاقة ويصف المرجع محمد اليعقوبي ردود الفعل ازاء ثورة الفكر الصدرية بأنها (مما أبهر عقول خصومه وأصدقائه على حد سواء) ، والحقيقة ان هذه الثروة العلمية الفكرية الانسانية لم تتحصل من الاقربين إلا على الاهمال المتعمد او الاستغلال المشين .
فبينما يقوم المعسكر الذي نسف بنيانه الشهيد الصدر الاول (قد) والمتمثل بالمعسكر الاشتراكي بتكريم الصدر انسانا ومفكرا بتمثال في جامعة موسكو في انجاز غير مسبوق لعالم عربي وإسلامي كما يعبر المرجع اليعقوبي بقوله ( لذا لا نستغرب قيام الحكومة الروسية رمز النظام السياسي والاقتصادي الذي استهدفه في كتبه بنصب تمثال للسيد الشهيد الصدر الأول العالم العربي المسلم الوحيد الذي يكرَّم بهذا الشكل في قلب عاصمة الاتحاد السوفيتي سابقاً وفي أهم صروحها العلمية في موسكو باعتباره صاحب إنجازات إنسانية عظيمة) ليسجل هذا التكريم بإزاء المؤسسة الدينية التي كانت الاولى بالمبادرة بالتكريم والاحتفاء لهذا المفكر والعالم الفذ إلا اننا نرى العكس من ذلك على صعيد الحوزة النجفية التي يصنف حالها وموقفها من الشهيد الصدر الاول (قد) المرجع اليعقوبي في ادانة واضحة لذلك الموقف المريب والمخزي بقوله (بينما تُعرض الحوزة النجفية عنه وعن آثاره والاحتفال به وكأنه ليس مفخرتها وجوهرتها ووجهها الناصع) .
هذا على صعيد المؤسسة الدينية وإهمالها المريب المتعمد لهذه الشخصية الدينية العملاقة اما على صعيد الاستغلال المشين لهذه القيادة الاسلامية الرسالية فيتمثل بالاقتصار على الاحتفال السياسي وهو قمة الظلم وأسلوب رخيص للتجارة بهذا القائد الاسوة ، ويعبر المرجع محمد اليعقوبي عن شعوره بالاستياء لهذا الاسلوب الانتهازي في تسويق اسم الشهيد الصدر الاول (قد) من اجل اهداف وغايات ومصالح حزبية ويرجع المرجع اليعقوبي اسباب استيائه كقيادة رسالية من هذا الاستغلال بقوله (وهذا المنحى ـ أعني اتخاذ الجهات السياسية للمراجع العظام والعلماء الكرام رموزاً للمتاجرة بها والتسلّق إلى مواقع السلطة من خلالها وتأطيرها بهذه الفئوية الضيقة ـ ظلم لأولئك الأعاظم وتحويل الإخلاص الذي عاشوه والهم الإنساني والإسلامي الذي حملوه إلى دنيا زائفة يتصارعون أليها وربما جرّ صراعهم إلى محاولة تنقيص كل جهة من رمز الجهة الأخرى وغيرها) ، وهكذا نرى ان الشهيد الصدر الاول (قد) قد قتل بعد شهادته من قبل اقرب من ينتمي اليه مسلكا وفكرا وعقيدة وتعرض للظلم على صعيد الاستذكار والتكريم من قبل المؤسستين المتصديتين السياسية والدينية من خلال استغلال الاولى وإهمال الثانية كما قتل في حياته ايضا قتلا معنويا من قبل المؤسسة الدينية التي انقسمت ما بين من اختار الهروب والخروج من العراق ليترك الصدر وحيدا في مواجهة محنة الحصار وشراسة قبضة الحكم البعثي الجائر وبين القيادة المرجعية التي وقفت متفرجة ازاء حصار الصدر وتصفيته بعد ذلك رغم محاولات استنهاضهم التي ذهبت سدى من قبل الشهيدة بنت الهدى أمنة الصدر والتي سارع للاستجابة اليها كسبة النجف وشقاواتها وتخاذل عن تلبيتها عمائم الحوزة المتربصة بالصدر او الشامتة به حسدا وبغضا.
لقد استطاع السيد الشهيد الصدر الاول من خلال مشروعه الاصلاحي وثورته الفكرية ان يضع مفصل نهائي لمنهجيتين مختلفتين في ادارة المشروع الاسلامي وقيادة الامة الاسلامية وهما الخط الحركي والخط الساكن او المنهجية العاملة والمنهجية المتفرجة او المرجعية الموضوعية والمرجعية الكلاسيكية او بحسب توصيف شهيدنا الصدر الثاني (قد) عندما صنف المنهجيتين على اساس السكوت والنطق فعبر عن المرجعية العاملة بالحوزة الناطقة وعبر عن المرجعية المتكاسلة بالحوزة الساكتة ، ويصف المرجع اليعقوبي وهو وريث المشروع المرجعي الرسالي موقف الشهيد الصدر الاول بالتصدي للايدولوجيات المعادية للإسلام بأنه موقف يعبر عن مسؤولية الشهيد الصدر الاول التي يستشعرها للدفاع عن الاسلام اولا وإطلاق الاسلام كمشروع لقيادة الحياة ثانيا بعد ان تسقط النظرية الالهية كل النظريات الوضعية الاخرى وتلقي بها الى سلة المهملات ويصف المرجع ذلك الانجاز الكبير للصدر الاول بقوله (ان فهم هذا الصراع والنهوض بمسؤولية الدفاع عن الإسلام وإقناع البشرية به وبقدرته على قيادة الحياة –كما عبّر السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) حينما عنون أحد كتبه بذلك هو سر انقسام المرجعية الدينية والحوزة العلمية إلى خطين وقيادتين متباينتين في المنهج والسلوك، أولهما عالم فاعل عامل لا يكتفي بتنميق الكلمات على الأوراق فقط بل يتحرك ويواصل الليل بالنهار ليعيد للإسلام هيبته وعزته وللمسلمين كرامتهم وحريتهم وثقتهم بأنفسهم ويدلّهم على معالم هويتهم المسلوبة من خلال ما يقدّم من نظريات وتشريعات ومنظومات فكرية ومعرفية تثبت أن دين الإسلام هو أصلح نظام للبشرية اليوم وغداً كما كان بالأمس).