لم يكن يريد أو يطمع من زعاماته وساساته وتيجان رؤوس الوطن سوى عيشة هنية وخبزة معها بعض الماء الصالح للشرب، بالطبع ليست مجاناً فقد إعتاد أن يدفع إيجار كل شيء في وطنه، حتى قطعة الأرض التي تأويه مع عائلته فهي مدفوعة الثمن مقدماً لأنه يسكن بالإيجار.
كان يتغنّى أمام أطفاله بحبه للوطن وكيف سرق منه ذلك الوطن أحلى سنوات حياته قضاها ما بين خدمة العلم وسنوات الوظيفة.
كان منتشياً بحب الوطن بالرغم من أنه كان يكره السياسة وعالمها.
بدشداشته البيضاء كان يُجالس رفاق العمر في ذلك الزقاق الضيق الذي تفوح منه رائحة المياه الثقيلة.
الجميع كانوا يستعيدون كلمات المغني العراقي (حضيري أبو عزيز) الذي توفي عام ١٩٧٣ والذي كان صوتاً للعراقيين عندما غنّى لهم “عمي يا أبو التموين” كانت تحمل الكثير من المعاناة والبؤس للشعب العراقي.
تقول كلمات الاغنية “عَمّي يا أبو التموين مَشّي العريضّة/ والسمرة على الچاي (الشاي) طاحت مريضَة/ الشكَّر (السكر) غالي/ إمنين أجيب الچاي والشكر غالي عذّب أحوالي”.
صديقي المتقاعد رجل بسيط لم يعترف يوماً بعملة إسمها الدولار، كان يحب الدينار العراقي ولا سواه، ورغم إن الدينار تغيّرت طباعته وألوانه وقيمته على مر الأنظمة السياسية إلا أنه كان يأبى الإعتراف بغيره حتى بعد أن وصلت قيمة الدينار في زمن الحصار المفروض على العراقيين من قبل أمريكا أن الناس كانت تزن العملة بميزان الفواكه والخضروات عند شراء بعض الأشياء.
بالرغم من تعرّي الدينار كان الرجل يحاول أن يستر عورته بالدفاع عن عملة البلد الوطنية.
إستيقظ الرجل السبعيني من نومه مفزوعاً في صباح يومٍ من أيام الديمقراطية التي ألبست ثوبها أمريكا للعراقيين على أصوات زوجته وأولاده وهم يلعنون ويشتمون زمن الفساد والسرقات والحياة الصعبة التي يزيد من قسوتها ومرارتها إرتفاع سعر الدولار وفساد رجال السلطة من السُرّاق.
لم تعد أعذار الرجل تُقنع الغاضبين فإضطر إلى الخروج من بيته للقاء رفاق دربه، في الطريق كان ينظر إلى جميع الوجوه وهي تتحدث عن أزمة الدولار وأضراره على حياتهم.
حاول أن يُرضي عائلته ببعض الحاجات التي يحملها لهم عند عودته من متجر قريب من منزله فوجد أن الأسعار قد تضاعفت.
سمع صوت صاحب عربة لبيع قناني الغاز وهو يتشاجر مع جيرانه لأن سعر القنينة إرتفع مع إرتفاع سعر الدولار، حتى سائق التوك توك إعتذر منه عن قبول الأجرة القديمة مطالباً بزيادة مثل زيادة سعر الدولار.
كان جنون الأسعار يُطارد الرجل أينما إلتفت وإرتحل.
أخيراً أدرك أنه لا مفر من الإستسلام لشروط الدولار والإعتراف به، أيقن الرجل أنه كان مخطئاً فلا مكان للدينار في حياته ما دامت حياته بأجمعها رهينة للآخرين، لم يُدرك هذه الحقيقة إلا مُتاخراً.
جلس مع أصدقائه في ذلك الزقاق الضيّق وهو يتحدث بألم وحسرة وندم كيف كان سعر الدينار الواحد في زمنه الذهبي يعادل ثلاثة دولارات، وكيف كان يفرض الدينار هيبته عندما يتجول به صاحبه بلدان العالم، شعر الرجل بأنه مخدوع في كرامته بالدينار وسطوته.
أخيراً إعترف الجمع بالأمر الواقع للدولار الذي يحكم ويتحكم في المصائر، الدولار الذي إن ضحكت فيه صورة (بنجامين فرانكلين) إبتسمت الحياة وإذا كان العكس فالويل والثبور بالإنتظار.
لم يكن الرجل يدرك أنه رهينة الدولار ومن فوقه سلطة ترهن الوطن والمواطن وحتى الأرض بالدولار.
في كل جولة كان الدولار ينتصر على الدينار، ربما ليس العيب في الدينار.
عاد الرجل إلى منزله بعد نُزهة السير في الطرقات ومشاهدة ردود أفعال الناس وهي تلعن الغلاء وإرتفاع الأسعار بسبب الدولار وهو يردد مع حاله عاش الدولار…عاش.