“آخر عهد نور الدين ووفاته (رحمه الله)”
مرّت الأمة الإسلامية قبل عهد آل زنكي بسنوات عجاف رغم المقاومة الإسلامية العظيمة التي قام بها الأمراء السلاجقة، ولكن زادت سطوة الغزاة الصليبيين، وتوالت حملاتهم على الشام ومصر، كما مرّتبأوقات عصيبة كثرت فيها الخلافات، وتعددت فيها الرايات، غير أن الله سخر رجالاً ظهروا، ونبغوا في أحوال غير مساعدة، وفي أجواء غير موافقة، بل في حقبة حالكة، وفي شعب أصيب بعطب في الفكر، وخواء في الروح، وخمود في العاطفة، وضعف في الإرادة، وخور فيالعزيمة، وسقوط في الهمة، ورخاوة في الجسم، ورقة في العيش، وفساد في الأخلاق، والإخلاد إلى الراحة، والخضوع للقوة، واليأس من الإصلاح، فعملوا على التمكين والإعداد وبناء الأمة في مجالات عدة؛منها بناء الشخصية المسلمة، وبناء النظام الإداري، وبناء الأمة الواحدة، حتى استطاعوا تجديد الدين في حياة الناس، ورفع راية أهلالسنة في ربوع البلاد الإسلامية، وكان من بين هؤلاء الأبطال السلطان العابد المتواضع الزاهد المجاهد الملك العادل نور الدين محمود زنكي (رحمه الله) الذي استمر حكمه بين عامي 541 – 569ه؛ إذ تعد فترة حكمه للعالم الإسلامي، من أقوى الفترات التي مرت بتاريخ المسلمين، وشهدت فترة حكمه نمواً كبيراً، ونهضة حقيقية في الجوانب السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والجهادية، وقد أشاد بدور نور الدين ومكانته وقوته عدد كبير من العلماء والمؤرخين.
نور الدين محمود:(رحمه الله) صفاته، ومما اشتهر به
كان نور الدين زنكي (رحمه الله) حاكماً ورعاً وعادلاً ومحباً للخير، وكان كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعاً للآثار النبوية، محافظاً على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة, كما كان فقيهاً على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث وأسمعه، وكان كثير الصلاة بالليل في وقت السحر حتى إنه يروى أن زوجته عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين الدين كانت تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها فذكرت نومها الذي فوت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجراً جزيلاً، وقد بنى بدمشق داراً لاستماع الحديث وإسماعه، قال ابن الأثير: وهو أول من بنى دار حديث.
شدة هيبته: وقد كان مهيباً وقوراً شديد الهيبة في قلوب الأمراء، لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه، ولم يكن أحد من الأمراء يجلس بلا إذن سوى الأمير نجم الدين أيوب، وأما أسد الدين شيركوه ومجد الدين بن الداية نائب حلب، وغيرهما من الأكابر فكانوا يقفون بين يديه، ومع هذا كان إذا دخل أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون، وإذا أعطى أحداً منهم شيئاً مستكثراً يقول: “هؤلاء جند الله وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا“.
وكان شديد الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه سمع يوما جزء من حديث وفيه (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلداً السيف)، فجعل يتعجب من تغيير عادات الناس لما ثبت عنه عليه السلام، وكيف يربط الأجناد والأمراء على أوساطهم ولا يفعلون كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها، ثم خرج هو في اليوم الثاني إلى الموكب وهو متقلد السيف، وجميع الجيش كذلك، يريد بذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، رحمه الله. (سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج20/ 532).
يقول أبو الحسن بن الأثير في بيان فضله على سائر الملوك: “قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحريًا للعدل والإنصاف منه، فقد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه، وإنعام يسديه، فنور الدين رحمه الله لم يأبه بأبهة الحكم والسلطان، ولم يتقاضَ راتبًا من بيت المال المسلمين، وإنما كان يأكل ويلبس هو وأهله من ماله الخاص، ولم يكن له بيت يسكنه، وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة قد اشتراها من ماله، يحل فيها عندما يعود من ساحة الجهاد”.
وهو أول من ابتنى دارًا للعدل، وكان يجلس فيها في الأسبوع مرتين، وقيل: أربع مرات، وقيل: خمس، ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب، ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره، بل يصل إليه القوي والضعيف، فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه، فيكشف المظالم، وينصف المظلوم من الظالم، وكان سبب ذلك أن أسد الدين بن شادي كان قد عظم شأنه عند نور الدين، حتى صار كأنه شريكه في المملكة، واقتنى الأملاك والأموال والمزارع والقرى، وكان ربما ظلم نوابه جيرانه في الأراضي والأملاك، وكان القاضي كمال الدين ينصف كل من استعداه على جميع الأمراء، إلا أسد الدين هذا فما كان يهجم عليه، فلما ابتنى نور الدين دار العدل تقدم أسد الدين إلى نوابه ألا يدعوا لأحد عنده ظلامة، وإن كانت عظيمة، فإن زوال ماله عنده أحب إليه من أن يراه نور الدين بعين ظالم، أو يوقفه مع خصم من العامة، ففعلوا ذلك، فلما جلس نور الدين بدار العدل مدة متطاولة، ولم ير أحدًا يستعدي على أسد الدين، سأل القاضي عن ذلك، فأعلمه بصورة الحال، فسجد نور الدين شكرًا لله، وقال: الحمد لله الذي جعل أصحابنا ينصفون من أنفسهم، وكان يجمع الفقهاء عنده والمشايخ وأهل الصلاح، ويكرمهم ويعظهم، وكان مهيباً وقوراً وشديد الهيبة في قلوب الأمراء (البداية والنهاية، ابن كثير، م12/ ص 278ـ284).
وأما ابنُ خَلِّكان فيقول عنه وعن فتوحاته، في وفيات الأعيان: “افتتح من بلاد الفرنجة عدَّة حصون، منها مرعش وبهسنا، وحارم، وأعزاز وبانياس وغير ذلك ما تزيد عدتُه على خمسين حصنًا، ثم سيَّرَ الأمير أسد الدين شيركوه إلى مصر ثلاث دفعات، وملكها السلطان صلاح الدين في الدفعة الثالثة نيابة عنه، وضرب باسمِه السكَّة والخطبة بمصر، وكان زاهدًا عابدًا متمسِّكًا بالشرع، مجاهِدًا كثير البر والأوقاف، له من المناقب ما يستغرق الوصفَ”.
وفاة الملك العادل نور الدين زنكي (رحمه الله)
توفي نور الدين زنكي يوم الأربعاء حادي عشر من شوال 569هــ/ مايو 1174م، وهو في التاسعة والخمسين من عمره، بعِلَّة الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالفصد، فامتنع، وكان مهيبًا فما رُوجِعَ.
ودُفِنَ بقلعة دمشق، فقد كان يلازم الجلوسَ والمبيت فيها، ثم نُقل منها إلى المدرسة التي أنشأها بدمشق، عند سوق الخواصين، وكانت ولايته ثمانية وعشرين سنة وأشهرًا، وكان لموته وقعٌ عظيم في قلوب الناس، وتأسفوا عليه؛ لأنه كان محسنًا محمود السيرة، وقد قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بالمُلك بعده، وكان عمرُه إحدى عشرة سنة، وحلف له الأمراء والمقَدَّمون بدمشق، وأقام بها، وأطاعه الناس بالشام وصلاحُ الدين بمصر، وخُطِبَ له بها، وضرب السكة باسمه، وتولى تربيتَه الأميرُ شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم، وصار مدبِّرَ دولته؛ فقال له كمال الدين بن الشهرزوري ولِمَن معه من الأمراء: “قد علمتُم أن صلاح الدين صاحِبَ مصر هو من مماليك نورِ الدين ونوَّابه أصحاب نور الدين، والمصلحة أن نشاورَه في الذي نفعله، ولا نُخرِجُه من بيننا فيَخرُج عن طاعتنا، ويجعل ذلك حُجَّة علينا، وهو أقوى منا؛ لأنه قد انفرد اليوم بملك مصر، فلم يوافِقْ هذا القولَ أغراضَهم، وخافوا أن يدخُلَ صلاح الدين ويُخرِجَهم، فلم يمضِ غيرُ قليل حتى وردت كتُبُ صلاح الدين إلى المَلِك الصالح يُعَزِّيه ويهنئه بالمُلك، وأرسل دنانيرَ مِصريَّةً عليها اسمه ويُعَرِّفُه أنَّ الخطبة والطاعة له كما كانت لأبيه، وقد رثاه الشعراء بقصائد من أحسنها ما قاله العماد الأصفهاني: (الدولة الزنكية، علي محمد الصلابي، ص608):
الدين في ظُلمٍ لغيبة نوره والدَّهرُ في غُممٍ لفقد أميره
فليندُبِ الإسلامُ حاميَ أهله والشَّامُ حافظَ مُلكه وثغوره
من للمساجد والمدارس بانياً لله طوعاً عن خُلُوصِ ضَمِيره
مَنْ ينصر الإسلام في غزواته فلقد أصيب برُكنه وظهيره
مَنْ للفرنج ومَنْ لأسر ملوكها مَنْ للهُدى يبغي فكاك أسيره
مَنْ للبلاد ومن لنصر جيوشها من للجهاد ومن لحفظ أُموره
لهفي على تلك الأنامل إنَّها مُذْ غُيِّبت غاض النَّدَى ببحوره
وحين ذاع خبر وفاة نور الدين محمود زنكي (رحمه الله) أدرك العالم الإسلامي أنه خسر سلطاناً عادلاً، وقائداً عظيمًا، لطالما رفع راية الحق والعدل والجهاد عاليًا، وقد فرح الصليبيون بموت نور الدين، مثلما فرحوا من قبل بموت والده الشهيد، ولكنهم في نفس الوقت كان يسيطر عليهم الخوف، من وحدة المسلمين وجمع شملهم، ومشيئة الله في نصر الإسلام والمسلمين لم تغب، فكلما أفل نجمٌ بطلٌ ظهر آخر على الساحة، ليواصل دكّ معاقل الصليبيين، وينشر العدل والإسلام، فاستلم الراية هذه المرة صلاح الدين الأيوبي، جنديه المخلص، وقائدهالذكي، الذي بنى جهاده على ما أسسه نور الدين من جهاد أعداء الله، والعدو الغاصب، وبدأت رحلته في قيادة الأمة، وتحقيق النصر العظيم.
المصادر والمراجع: