كانت العرب تعبر عن حالة التوازن عند شخص ما من خلال مقياس دقيق هو :”ان قال فعل”.. وامتدح العراقيون بلهجتهم العامية من يتصف بهذه الصفة ، حتى صار مثلا:”كول وفعل”.
قضية فطنها الأجداد، وأدركوا مكامن الشخصية السوية، انها ليست مهذارة، ولا تطلق الكلام على عواهنه، ولا تستعين بجميل المفردات والعبارات ، فيما تجدها على الواقع العملي صفرا في الشمال.. وهذا ما نعانيه اليوم، حيث نسمع كلاما يطول ويطول، لكن نعمل بخلافه، وهذه طامة كبرى، اذ كان هناك من يقول ولا يفعل، لكننا نقول، ونفعل بخلافه.
بعيدا عن التنظير، والعموميات، دعونا نقترب من الواقع ونترجم ما قدمنا الى ما قيل وما تحقق خلال السنوات الماضية ، وما حصدنا من فعال، لندرك اهمية ان “نصم” اذاننا ونشيح بأبصارنا عن كل الشعارات التي ملأت شوارعنا هذه الايام، كي لا ننخدع بصراحة ، ونختار بعقولنا، لا باهوائنا.. نختار خارج سيطرة الكلمة، والوعود الانتخابية التي اصبحت بحكم الـ”اكسباير”.
اكثر من عشر سنين ونحن نتغنى بالديمقراطية ، وحقوق الانسان، ونتباهى بالدستور، والفيدرالية والدولة اللامركزية، لكن اين هي الديمقراطية في اسمى صورها، بالتداول السلمي للسلطة، وليس منطق “ما ننطيهه”.. اين حقوق الانسان ازاء الانتهاكات المستمرة التي تطول العراقيين تحت اشكال ومسميات عدة.. واين الدستور.. بل من يستطيع ان يتفق عليه، وسط التفسيرات المتعددة، والانتقائية في نصوصه ومواده، فيما المرجع الذي لديه كلمة الفصل عند الخلاف، يخضع اصلا للتأثيرات السياسية ، وسلطة القرار، واين الفيدرالية و اللامركزية وسط التفرد بالقرار والحكم، والرغبة الجامحة في انتزاع الارادات والرؤى الأخرى.
اكثر من عشر سنين ، والحديث عن دولة القانون متواصل، لكن في لجة الصراع السياسي، تحول القانون الى سيف مسلط، يحركه صاحب السطوة في أي إتجاه ، فارضاً إرادته التي أصبحت رديفة للمنطوق السابق الذي كان يهون من القانون ويجعله مجرد “شخطة قلم”، فيما تحول خيار المعارضة الى تهمة ، وملف حاضر للنطق بالحكم.
استوقفتني كلمات ، قالها دولة الرئيس، نوري المالكي، قبل سنيين، خلال ثورات الربيع العربي، حين سقط علي زين العابدين في تونس، وسقط معمر القذافي في ليبيا، وسقط حسني مبارك في مصر، لم اقرأها على الورق ، كي لا يقال انني اسأت فهمها، او ان الوسيلة الاعلامية قد حرفت الكلمات.. وانما شاهدتها وسمعتها “صورة وصوت” ومن شدة عنايتي بما قاله، اخذت ورقة وقلما وسجلت كل ما قاله.
كانت كلمة مضيئة بلاشك، لكني كما يبدو لم ادرك حسابات الزمن، ولا طبيعة المرحلة التي كانت تعيشها امتنا، ولم يدر في خلدي انها ربما تكون مجرد رسالة الى الغرب، لطمأنتهم على المسار الديمقراطي الذي يتبناه العراق، لكن في كل الاحول ومهما يكن المعنى في قلب دولته، تبقى استحقاقات للمواطن ازاء ما قال وعبر.
قال دولة الرئيس لوكالة “فرانس برس” بتاريخ 2/5/2011، انه قرر عدم الترشح لولاية ثالثة كرئيس لمجلس الوزراء ، مؤكدا انه يدعم فكرة تثبيت دورتين رئاسيتين دستورياً.
ولم يكتف دولته بهذا، وانما حرص على ان يقول كلاما غاية في الاهمية والخطورة معا :”ان رئيس مجلس الوزراء اذا كان لديه برنامج وهو كفء، فانه سوف ينفذه خلال ثماني سنوات، وهذا كاف عليه، واذا لم يكن لديه برنامج ولا هو كفء، فلماذا نعطيه فرصة اكثر من ثماني سنوات”، مضيفا لنقف عند ثماني سنوات مثل رئاسة الجمهورية”.
واردف دولته “اؤيد تثبيت فقرة بالدستور تسمح لرئيس مجلس الوزراء بدورتين ، مدتها ثماني سنوات، اعتقد انها كافية، اذا كان لديه برنامج ومتعاون مع مجلس النواب، اما اذا لم يكن لديه برنامج او ان مجلس النواب غير متعاون معه، فحينها يصبح بقاؤه ضرراً”.
كلام في غاية الاهمية، لعله يعبرعن مرحلته بدقة، فلا اعتقد انه وخلال دورتين استطاع ان يحقق اي برنامج ، وادع التقويم بشأن الكفاءة لاصحاب الاختصاص، اضافة الى الشعب نفسه ، فقد عانى ما عاناه بسبب الازمات المتلاحقة التي جرت في عهده، حتى وصفت حكومته بحكومة ازمات، بل هناك من قال : انها لا تستطيع ان تعيش بلا ازمات.
فما الذي تغير يا ترى، ولماذا هناك اصرار على الولاية الثالثة، حتى هو دولته قد قال في حالة نجاحه، فان ثماني سنوات تكفي، فكيف اذا كانت خلاف ذلك، بل انه وصف البقاء مضراً، وهذا الضرر ليس عادياً بالتأكيد وإنما يمس في الصميم كيان وطن، وشعب.
نعم ، كانت ثماني سنوات مليئة بالخطب، والكلمات، لكن الرهان على النسيان ، على قاعدة “كلام الليل يمحوه النهار” ، ربما يصلح بين الزوج وزوجته، اما على مستوى الساسة واصحاب القرار ، فكل شيء مسجل، وموثق ، ولا يمكن نسيانه بالتقادم.