21 سبتمبر، 2024 5:02 م
Search
Close this search box.

“واعظ في بيت الأشباح”.. قصة قصيرة

“واعظ في بيت الأشباح”.. قصة قصيرة

كتبها: محمد فيض خالد 

رمتنا الأقدار إلى سكن متواضع، نزلنا في أحد حجراته، حرصنا منذ البداية أن تكون بعيدة عن بقية الحجرات، فمرأى البيت من داخله كئيب، مثير للغثيان، تتناثر فيه قطعان الهنود والبنغال، تمتلئ بهم شقوقه، ورائحة الطبخ المستمرة ليل نهار، بخلاصة الفلفل الحارق شيء لا يحتمل، أما ممراته فمرتع آمن لدواب الأرض من قطط وكلاب وفئران، يلقي بهم الليل كطرش البحر دون سبب.

لم تكن لنا خلطة بالسكان، لكننا كنا ذات يوم حين اندفع الباب بعنف، ليدلف منه شيخ في شرخ الشباب، بجلباب أبيض ناصع، وطاقية شبيكة، تبدى في طرف غضيض، طالع المكان مخفيا اشمئزازه، قبل أن يرن صوته بالتحية، اتخذ لنفسه مجلسا، برك على ركبتين كالجمل الفتي، يتأرجح عطره من حوله في عبق منعش، ساد صمت أخرس استغرق الجميع، سحب الشيخ تنهيدة كمد طويلة، ثم قال: “أنا أخوكم الشيخ مدثر، جاركم، جئتكم من باب الأخوة في الله والدين”، ثم بدأ في رصَّ موعظته في لكنة ركيكة، بعد أن تحول ببصره صوب الثلاجة، وكأنه يلقي إليها من ذاكرته بعد أن اغمض عينيه، يسترجع ردد جملا من قبيل التناصح، ككراهية الدنيا وتمني ما عند الله، مضى الرجل يتلعثم مرة، ويسكت أخرى حتى انتهى، انتبهت لأجد النوم يزاحم أغلب الحضور، أحمرت العيون، اهتزت الرؤوس في استسلام مريب، هبَّ من جلسته قائلا بصوت مرتعش: “لنا لقاء آخر عما قريب استودعكم الله”، لم أصدق أنه غادر، غير أن أحدهم قفز في ارتياح، وكأنه يجيبني بغير لسان، اغلق الباب في سخط، منهكا ألقى بجسده فوق سريره، شمل الجميع نوم عميق وكأن شيئا لم يكن، لم يرق لي اقتحام الأمس غير المسبب، شملنا حديث طويل عن الواعظ المجهول، عاجلني صديقي بابتسامة هازئة، ليردد في تأفف: “يا قاعدين !”، في هاته اللحظة دخلت علينا أربعة سحن، مشبعة بالحماس ومن خلفهم فتى الأمس، في أريحية شرع في تعريفنا بضيوفه: “اعرفكم، الشيخ صديق الحق، الشيخ عبدالمنان، الشيخ إسحق مظفر “، وجوه هندية قاسية، التفت الرجل إليهم، وقد اشرق وجهه في تصنع: “تفضل يا مولانا”، حتى اللحظة وأنا غائب في دخان المفاجأة، وكأني في حلم طويل، تساءلت بعد مشقة: “ماذا يحدث؟”، اعتلى أحدهم ناصية الكلام، انساب في لغة مضعضعة، هي أبعد ما تكون عن العربية التي ننطقها، جعل يمط أعناق الكلام ويلويه، يصرخ فيغيم وجهه المحتقن، اسكته الفتى بإشارة مهينة، ليبدأ هو في حديث ملء بالويل والثبور ، يهدد ويتوعد، يشخص سبابته في وجوهنا يقول في تأنيب: “إلى متى أيها العصاة منكم الغفلة، يا أرباب الشهوات”، بدى حديثه أشبه بالعراك، لكنه من طرف واحد، واتتني الشجاعة كخيوط الماء البارد تسيل فوق ظهري، كان عليَّ انهاء هذه المهزلة، قلت مستخفا: “نحن مسلمون والحمد لله، هلا دعوت سكان البيت من الهندوس، فهم أولى بالهداية!”، اهتزت أعطافه، بعد أن تضرجت وجنتاه، أجابني: “نعم ، ابشرك سأفعل”، أطبق جفنيه في غضب، لم يعد لحديثه مذاق، وآن له أن ينصرف كما جاء، اقتطعت لقمة من الخبز ، ألقيت بها في فم قريب مني، ابتسمت في تشفي، محييا: “بالهنا والشفا يا جرجس”، غاب الحضور في ضحكة مكتومة، وغمغمة تكاثفت من حول الشيخ كضبابة دكناء من الحزن، انصرف ومن معه بهدوء، وعند الفجر استيقظ المكان على تكبيرات تشق الظلام، كان الشيخ قد اعتلى كرسيه، واطلق عقيرته يردد في خشوع، امتلأت الطرقات في فوضى، هرع الهنود في ثياب نومهم، التي تظهر أكثر مما تخفي، ووجوههم ممتقعة تهدر غضبا، حاولوا الفتك به، لنستخلصه من بين أيديهم بأعجوبة، غادر الشيخ بعدها المكان، ولم يعد له من باقية.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة