21 سبتمبر، 2024 5:12 م
Search
Close this search box.

الرواية والمعاناة (9).. الروائيين العرب في فوّهة الألم والمعاناة والمواجهة

الرواية والمعاناة (9).. الروائيين العرب في فوّهة الألم والمعاناة والمواجهة

خاص: إعداد- سماح عادل

مثلت الرواية العربية في مجملها مرآة عاكسة لمجتمعات مأزومة علي مستويات عديدة، علي مستوي الصراعات السياسية والحروب، وعلي مستوي التدهور الاقتصادي، والانحدار الاجتماعي، مما خلفت شخصيات وأبطال مأزومة، مغتربة، فاقدة للإحساس بالذات، كارهة للبيئة التي طلعت منها.
هذا الملف تجيب عنه مجموعة من الكاتبات والكتاب من مختلف البلدان العربية، وقد طرحنا عليهم الأسئلة التالية:
. 1 هل الرواية العربية في الوقت الحالي تصدر من المعاناة، سواء من الحروب والصراعات، أو من ظروف المجتمعات التي أصبحت مأزومة، أو من معاناة الكاتب التي يصورها علي الورق كمعاناة فردية؟
. 2 هل الشخصيات والأبطال في الروايات العربية أبطال اشكاليون يعانون من الاغتراب عن المجتمع، او الاستلاب، أو من عدم التحقق وغيرها من مشكلات تجعلهم يعانون؟
. 3 كيف يتم تصوير تلك المعاناة التي يحب الكاتب تجسيدها في مسار الأحداث ورسم الشخصيات، وهل هناك بعض المبالغة في تصوير تلك المعاناة؟
. 4هل تكتفي بعض الروايات برصد المعاناة سواء فردية أو جماعية دون تقديم حلول إيجابية للتخلص منها أو مخارج؟

صياغة العالم باحتمالات لا تنتهي..
تقول الكاتبة “سوسن جميل حسن”: “قدر الإنسان هو المعاناة ما دام مدركًا وجوده المترع بالأسئلة، أصعبها وأكثرها غموضًا سؤال الموت، السؤال الحاضر، ولو في عتمة النفس، حتى في أقصى حالات الفرح، بل حتى في حضرة الجمال، ألا تكفي مقولة يرددها الناس في مجتمعاتنا، وفي مجتمعات أخرى أيضًا: “كفانا الله شر هذه الضحكة”؟ الإنسان يخاف حتى من المبالغة في الضحك، وهذا وحده معاناة، وتحت إلحاح هذا الشعور الذي يمكن القول فيه إنه شعور لا واعٍ أيضًا ومقيم في عمق النفس، تولد لدى الإنسان حاجة إلى الآخر، إلى أن يبثّ إليه معاناته ويبدّد وحدته ووحشته، لذلك طوّر عبر تاريخه أدوات التعبير لديه، إلى أن وصلنا إلى عصرنا الراهن وما يقدم من وسائل وطرق تعبير تساعد الإنسان في سرد معاناته ومشاركة الآخرين بها. لا يمكن الفصل التام والجامد بين المعاناة الفردية والعامة، كلاهما تتأثران وتؤثران في بعضهما بعضًا.
إنما يمكن القول إنه عندما تكون البيئة التي يعيش فيها الإنسان متأزمة ولديها كثير من المشاكل تهدد وجودها، فإن الحدود تمّحي تقريبًا، لذلك نرى أن الرواية العربية عامرة بصدى الأزمات والصراعات والمشاكل الاجتماعية واضطراب الهوية، بمستويات متباينة، لأن الواقع أيضًا يشير إلى اختلافات في نوعية المشاكل العامة والقضايا الرائجة بين بلد عربي وآخر، خاصة في العقدين الأخيرين، بل وقبلهما، منذ نكسة حزيران مرورًا بكل الحروب التي تلتها في المنطقة، وصولًا إلى العقد الأخير، سنوات الانتفاضات الشعبية التي أدت إلى حروب وفوضى وانهيارات في بعض المجتمعات العربية، من دون إغفال الثورة المعلوماتية وانفتاح العالم على بعضه بعضًا”.
وتواصل: “ما أدى إلى تخلخل بعض اليقينيات، من دون الوصول إلى عتبة الأمان أو الاستقرار بالقبض على معان جديدة، هذا كله ينعكس على الأدب، وعلى الشخصيات الروائية، يمكن القول إن الشخصيات الروائية تعاني من هذا الخلل، تعاني من الغربة والاغتراب عن واقعها، تعاني من أزمات مجتمعاتها، فهي منتج ثقافي إنساني وبيئة محلية، حتى لو كانت كيانات ورقية تعيش في النص، في عالم يتخلّق ضمن ممكنات الخيال. وهي كائنات اجتماعية تحيل إلى كائن حي يمكن التأكد من وجوده في الواقع، إنما كائنات من ورق، علينا فهمها من خلال عوالم النص التي لا يشترط أن تكون صورة طبق الأصل عن الواقع الواقعي، فأي عمل سردي لا يمكن أن يتشكل إلا من خلال نسيج وعلاقات تواصلية داخل الكتلة السردية، هي ما يحكم مسار وتطور الشخصية.
فالبيئة المتأزمة سوف تنعكس أطوارها على الشخصيات، وبالتالي فإن المعاناة الفردية تكون انعكاسًا للمعاناة العامة، إنما يمكن القول في النهاية أن العصف الذهني والصراع والأزمات الوجودية التي يعيشها الكاتب، وتأثره بما يحيط به، هو ما يرسم الفضاء الجامع للنص، والشخصيات هي جزء من عقد هذه الشبكة التواصلية، قد تكون وحدها تحمل المعاناة، وقد تكون انعكاسًا لمعاناة فضاء آخر، فمثلًا قد يكون المكان هو العنصر الطاغي في معاناته، عندما ترسم المدن العربية روائيًّا، سواء في الروايات الواقعية أو الفانتازية، أو غيرها، سواء حملت أسماءها الحقيقية أو أسماء وهمية، مدنًا متأزمة في فضاءاتها المتنوعة، يخلق شخصيات متأزمة أيضًا”.
لا أستطيع الجزم بمقولة البطل الإشكالي فيما يخص الشخصيات الروائية العربية، لكن من خلال شواغل وعوالم الرواية العربية بشكل عام أستطيع القول إنها تجنح لأن تكون شخصيات تعاني، شخصيات متأزمة، شخصيات قلقة، شخصيات تفتقد اليقين والثقة بالنفس، بل شخصيات عدمية في بعض منها، خاصة تلك المبنية في نصوص سردية في زمن الحروب والانهيارات”.
وتضيف: “أمّا عن كيف يتم تصوير تلك المعاناة التي يحب الكاتب تجسيدها في مسار الأحداث ورسم الشخصيات، وهل هناك بعض المبالغة في تصوير تلك المعاناة؟ فأظن أن في الإبداع عمومًا، وفي الأدب أو الرواية، موضوعنا، لا يمكن إضفاء الشمولية في السؤال عن فنية أو شكل صناعة العمل، لكل أديب أدواته وأسلوبه ومنهجه ولغته، كما من المجحف القول إن هناك مبالغة، فالمبالغة هي أحيانًا أحد روافع أي إبداع، كما أن الشخصيات، وهي محور السؤال هنا، هي بنى في عمل سردي ما، ستكون قاصرة ما لم تطرح ضمن سياق عام، ترتبط بعلاقات متينة “سرديًّا” مع كل عناصر السرد”.

وتؤكد: “ليس مطلوبًا من الرواية أن تقدم الحلول، على الرغم من اضطلاعها بقضايا الإنسان ، لكنها تطرح الأسئلة، تحرض الخيال والتفكير، عندما تشكّل العالم بطرق لا تنتهي، حتى عندما تغرق في أوحال الواقع، أو تقدم أدبًا ديستوبيًّا، الرواية، بقدرتها على صياغة العالم بطرائق لا تنتهي من الاحتمالات، تقدم ما يشبه العتبات للتفكير بالواقع والانتباه إلى المشاكل الكبيرة التي قد يكون المجموع غارقًا فيها مستسلمًا كما لو أنها قدر، هي لا تصنع انقلابًا على الواقع، ولا تصنع ثورات، بل تغيّر أساليب التفكير، تؤثر في الوعي، وبالتالي تمهّد للتغيير”..
الرواية متسربلة بالعذابات..
وتقول الكاتبة والروائية السورية “نجاح ابراهيم”: “الرواية العربية متسربلة في الوقت الحالي بالمعاناة والعذابات، فمعظم الدول العربية تخوضُ حروباً وصراعاتٍ على مستوى دولي، باستثناء بعضها، ومع ذلك فإنَّ هذا البعض لا ينزوي بآلامه الخاصة والفردية، فقد حكم علينا نحن الروائيين العرب أن نكون في فوّهة الألم والمعاناة والمواجهة. كيف أكتب عن فكرة خالية خاوية مم يعيشُ فيه وطني؟ بل كيف أنسلخ من ألم يعتصرني؟ أو ألم يعيشه أبناء بلدٍ آخر؟.
قلم الأديب يجب أن يكون مرتبطاً بما يجري حوله، انظري حرب ال 67 كيف كتب عنها مئاتُ الروائيين من مختلف الدول العربية؟ حتى الروائيين البعيدة بلادهم عن الحروب والصراعات نجد عندهم معاناة فردية يعانون منها في مجتمعاتهم، هذه المعاناة تمسُّ حرية الفكر والتفرقة والنظم، وعدم المساواة بين المرأة والرجل، وهكذا بالنتيجة نقول لا يمكن أن يتبرأ الروائي، الإنسان مما يجري في بلده أو في بلاد أخرى. فلو عدنا إلى روايات حنا مينه، أو نجيب محفوظ أو عبد الرحمن منيف لوجدناها مليئة بالمعاناة لأشخاص يمثلون شريحة من المجتمع رصدتهم عين الروائي”.
وعن الشخصيات تقول: “أبطال الروايات لا يسبحونَ في عالم مثالي، بعيد عن جو الأحداث في الرواية، لاشكَّ هم شخصيات إشكالية تعاني من اغترابات غير محدودة، فالقمعُ سمة دولنا العربية، تجدينه في كلِّ مجتمعاتنا، وكذلك عدم المساواة والتباين الطبقي، لهذا يشعر الروائي بهذا فيسقطه على شخصياته، في روايتي “الهوتة” عانى حامد الإبراهيم مرّاً في وظيفته من مرؤوسيه، واتهم بخيانة وطنه الذي لطالما دافع عنه من خلال قلمه كصحفي، وحين طلب منه أن يغمض عينيه ورفض، قامت الدنيا ولم تقعد، وانتهى ظلماً في السجن، وبعد أن خرج منه، مما اضطر أخيراً إلى الفرار من جحيمين الحرب والظلم. هذا ما يمكن أن نجسّده من صراع في شخصيات أبطالنا بالعمل الروائي ولا يمكن مغادرة المعاناة سواء كانت كبيرة بحجم حرب، أو صغيرة بحجم فرد.
الروائي الجيد يمدُّ الخيط لشخصيته لتنطق بمعاناتها وآلامها، وبذا تنقل الأحداث مؤثرة بالقارئ، وكلما لامست هذه المعاناة أوجاعَ القراء كانت فاعلة وصادقة، أما عن المغالاة فلا أظن ذلك يُجدي في العمل الروائي، بل أجزم أنه يغرّد بعيداً عن السرب، فما زاد عن حدّه انقلب ضده”.
وتضيف: “يكفي الروائي أن يرصد ما يحدث في بلده أو في بلدان أخرى، مضيفاً خياله، شيء ما وخز ضميره فأوجع قلمه فأرثه إبداعاً، وأبقاه شاهداً على فترة ما، حتى وإن كانت المعاناة فردية فهي ستجد الآلاف من البشر يتشابهون معها في الوجع، فالروائي ليس بمعالج فيزيائي ليقوم بإيجاد علاج، يكفي أن يحرّض في عمله على التساؤل ويستعرض الأحداث ويبدع في إيصالها للقارئ، ثم يترك المشاركة له حسب ذائقته وثقافته، فكم من رواية تركتنا نفكر بنهاية لها وبحلولٍ اجترحناها على مسؤوليتنا؟.
الرواية الجيدة هي التي تترك الباب مفتوحاً ليدخل القارئ ويسأل: وماذا بعد؟”.
الروائي حبيس بيئته..
ويقول “سامر المعاني” كاتب من الأردن: “بطبيعة الحال على مدار تسعة عقود والمنطقة العربية تعاني ويلات الحروب والتهجير، وقد شهدت المنطقة العربية حروب وأزمات كثيرة وكبيرة، ذهب ضحاياها عشرات الألوف وهجر من خلالها الملايين وتغيرت حتى طبيعة حياة الكثير، من خلال التهجير الداخلي. خاصة في العقدين الأخيرين ازدادت هذه المعاناة من بطش الحروب والأزمات الداخلية تكاد تطال أغلب الدول العربية، مما كان لها أثرا كبيرا في العمل الروائي كأرشيف أو كحالة أو حدث أو كمحورا إنسانيا ومجتمعيا تختلف من عمل لآخر ومن روائي لآخر.
وبالنسبة للوقت الحالي ظهر صنفين من الكتاب صنف أخذ على عاتقه أن يوثق الأحداث ويتبنى فكرا سياسيا واجتماعيا كل خيوطه تدور نحو فكر عقائدي وقومي ووحدوي، يسعى في العمل الإبداعي أن ينقل الأحداث وأن يبعث رسائل مفادها الوحدة العربية والتحرير مبينا السياسات الخارجية، التي تحاول أن تستغل خيرات الأمة وتنتصر للصهاينة وسطوتها على المنطقة، على حساب قضايا الأمة بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص، التي كانت وما زالت قضية العرب الأولى.
ومن الجانب أو الصنف الآخر من تطرق إلى الأحداث كعنصر ثانوي وكتوثيق يتطرق للأحداث العامة داخل وخارج القطر العربي كشاهد أو مناسبة، من خلال حركة الأبطال وتسلسل الأحداث، ولم تحمل هذه الروايات تصورات عالية من خلال عناوين أو فصول للعمل الروائي، وغالبا هذه الأعمال تركز على نقل فكر غير مؤثر يسعى أن يكون محايدا في الرسالة والطرح، ولا يتبنى موقفا من الأحداث الداخلية والخارجية” .
وعن هل الشخصيات والأبطال في الروايات العربية أبطال اشكاليون يعانون من الاغتراب عن المجتمع، او الاستلاب، أو من عدم التحقق وغيرها من مشكلات تجعلهم يعانون يقول: “نعم الأبطال في الرواية العربية يعانون من غياب الذات على حساب الأحوال المعيشية والأزمات الداخلية والخارجية السياسية، كما أنه تجاوز ذلك ليكون كثيرا من الأحوال حبيس العادات والتقاليد والقيود المجتمعية بالمقارنة مع العمل الروائي في الدول الغربية، التي خرج بها الإنسان مستقلا بكينونته وفكره وعقائده، متحررا من أعباء المجتمع ذاهبا إلى العمل الخيالي أو الروايات ذات البطل الواحد والمسار الواحد .
من هنا نجد أن الروائي العربي وقد امتاز أسلوبه بأنه حبيس بيئته المكانية والزمانية مقيدا ومحاصرا، فبقيت روايته حبيسة المكان العربي في غياب دوره كمبدع ومؤثر وقائد فكري وتوعوي، ينقل الواقع مشيرا الى التفاعلات الصغيرة بكل تفاصيلها كي ينجو من الغوص للإشارات السياسية والدينية، التي كثيرا ما كانت أهم سبب لغياب دور الفرد والمبدع والعالم في التغيير وانتشال المجتمعات التي حركتها نحو النهضة ببطء شديد.
وكي نكون منصفين هناك من استطاع أن يكون قادرا على الحديث بصوت عال في أعماله الروائية وساهموا في تسليط الضوء للحقيقة وسبل تطور الفرد والمجتمع، غير أنهم لم يأخذوا هم وأعمالهم اهتماما يجعلهم يشكلون حالة حقيقية في تطور الرواية العربية فكرا وتأثيرا”.
وعن كيفية تصوير تلك المعاناة التي يحب الكاتب تجسيدها في مسار الأحداث ورسم الشخصيات، وهل هناك بعض المبالغة في تصوير تلك المعاناة يقول: “من المتابعة للأعمال الروائية نجد أن الرواية العربية بجميع أشكالها وأصنافها ومواضيعها تبنت القضايا المجتمعية بكل تفاصيلها، من خلال الأحداث السياسية والمجتمعية بشكل عام، وركزت على كثير من القضايا التي يعاني منها المجتمع العربي من فقر وتكميم أفواه وسطوة الأجهزة الأمنية والرشوة والشللية، وعلى صعيد الأفراد هناك بعض المواضيع التي تبناها المبدع العربي بأعماله من تفكك وممارسات رجعية وسلوكيات طارئة، أثرت على بناء الأسرة والعلاقات الإنسانية المجتمعية.
من جهة أخرى كان التطرق لكثير من القضايا خطير وكمن يحاط بالنار مثل قضايا العقيدة والطائفية والجماعات الدينية التي أصبحت ظاهرة واقعية في المجتمعات وشكلت بعد ما يسمى بالربيع العربي والحروب مع اسرائيل، فكان المبدع العربي في داخل الدول العربية يقع بين ثلاثة خيارات من التوجهات الأنظمة والشعوب والجماعات المقاتلة والطائفية، بينما كان الوضع الطبيعي للروائي العربي الذي يعيش خارج البلاد العربية انحيازه التام للشعوب”.

وعن اكتفاء بعض الروايات برصد المعاناة سواء فردية أو جماعية دون تقديم حلول إيجابية للتخلص منها أو مخارج يقول: ” لا اعتقد أن الرواية العربية طرحت حلول واضحة في التعامل مع المعاناة المجتمعية والفردية للإنسان العربي مكتفية بالإشارة لها والتعامل معها بأنها حالة تختلف ردود الأفعال بالتعامل معها، مشيرة أن الأزمات العامة التي يعاني منها الوطن والمجتمع بحاجة إلى قرار سياسي ووقفات وطنية، تتفق بها منظومة الحياة العامة الدين والجهة الحاكمة وإرادة شعبية، فذهب الروائي هاربا إلى الروايات العاطفية والروايات التي تعكس بيئات مكانية وزمانية ضيقة، تعكس صورة العلاقات البشرية غير باحث عن اقتناص أحداث وتصورات عليا للنهوض بالمجتمع”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة