21 سبتمبر، 2024 8:13 م
Search
Close this search box.

رواية “دونت سبيك أسطب” ل”سلام إبراهيم”

رواية “دونت سبيك أسطب” ل”سلام إبراهيم”

قراءة: عمار الثويني

القسم الأول:
روايات السيرة الذاتية: جلد الذات وتعرية الواقع

يرى الروائي الجزائري أمين الزاوي أن “كتابة السيرة الذاتية الأدبية عمل يكاد يكون مستحيلاً تحقيقه في العالم العربي بشكل عام، إنها عمل أدبي وأخلاقي شاق ومزعج. فالسيرة هي الكتابة عارياً، مغامرة تتطلب كثيراً من الصدق وجرعة عالية من الجرأة والصراحة والأمانة والحرية والتحرر من ضغط الضمير الجمعي الأخلاقي الخانق والمحافظ والرقيب على الحرية الفردية أولاً.” ويضيف في مقال منشور في صحيفة إندبندنت عربية الإلكترونية بتاريخ 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2020 بعنوان “لماذا الخوف من كتابة السيرة الذاتية في الأدب العربي”، “لكي تصبح كتابة السيرة الذاتية ممكنة يجب أن تتوافر جملة من المعطيات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية في المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب الأديب، وأولها توافر الحرية الفردية التي هي الطاقة الأولى للكتابة، إذ لا إبداع في غياب الحرية الفردية.”
هذا التشخيص الدقيق للزاوي يضع اليد على جروح السرد العربي فيما يتعلق بكتابة السيرة الذاتية، إذ يتميز أغلبه بـ “غثاء الحقيقة”، وغياب الحرية والتحرر من كافة أشكال الرقابة، سواء تلك التي تفرضها السلطات أو المجتمع، أو التي يختلقها الكاتب نفسه عندما يتعذر عليه تخطي الحواجز النفسية والشخصية والمجتمعية. لذلك، وباستثناء تجربة الكاتب المغربي محمد شكري (1935-2003) تقريبًا، بالكاد نرى سيرة ذاتية عربية على كثرتها تعري الواقع المجتمعي بكل تفاصيله وتتجرأ على فضح التابوهات كافة في مصارحة مع الذات أولا، ومع الآخر ثانيًا، ومع أهمية وقيمة السيرة الذاتية كلون سردي مهم ثالثًا. بل على العكس، نجد في معظم كتابات السيرة الذاتية العربية إما تلميعًا لصاحبها، أو انتقاء لأحداث يود تسليط الضوء عليها، وحتى اختلاق بطولات وفتوحات ذاتية عوضًا عن المصارحة والمكاشفة وجلد الذات. لذا، فإن هذه الكتابات أشبه بمن يضع طبقة طلاء على حائط متشقق لتجميله وإخفاء عيوبه بدلًا الوقوف على كل عيوبه ومعرفة أسباب الشقوق والتصدعات المنفتقة فيه.
ووفقًا لهذه الاعتبارات، أرى شخصيًّا أن مشروع الكاتب العراقي سلام إبراهيم- المقيم في الدنمارك منذ قرابة ثلاثة عقود- هو أنضج مشروع سردي عربي متكامل في حقل السيرة الذاتية بالمعنى الحقيقي لهذا اللون الأدبي. ولعل هذا الرأي ليس اعتباطًا، بل يقوم على قراءة عملية تحليلية رصينة لسفره الأدبي المؤلف من ثماني روايات وأربعة مجموعات قصصية إضافة إلى عشرات المقالات النقدية والتحليلية واللقاءات الإعلامية، إذ تتضح سمات هذه الأعمال بالعديد من المزايا الفارقة من بينها:
أولًا: يتمتع الروائي بالجرأة والشجاعة لتقديم سيرة ذاتية تميط اللثام عن ستائر وحجب سميكة من التناقضات العجيبة التي يلبد خلفها بها أفراد المجتمع. لقد انطلق الروائي في هذه السيرة بتعرية ذاته أولا ولم يترك قريبًا أو بعيدًا إلا تطرق له، ونال من هذه التعرية بشكل موسع الواقع الاجتماعي بكل تفاصيله، والواقع السياسي في الفترة التي أعقبت مقتل الزعيم واشتداد عنف السلطات الدموية وكذلك تعرية يوتوبيا الحزب الشيوعي بالكشف عن الكثير من النماذج الانتهازية فيه وخذلان الأهداف التي قام من أجلها. لذلك مشروعه السردي عن طبيعة الإنسان العراقي يضاهي ما كتبه الراحل علي الوردي في دراسته الاجتماعية الشهيرة عن المجتمع العراقي.
ثانيًا: عادة ما يستجمع الروائيون سيرهم الذاتية في كتاب واحد أو كتابين، مثل “الأيام” لطه حسين، و”التجليات” لجمال الغيطاني، و”البئر الأولى” لجبرا إبراهيم جبرا، و”أثقل من رضوي” لرضوى عاشور والقائمة تطول. وسلام إبراهيم أول روائي يكرس 12 كتابًا ما بين روايات طويلة ومتوسطة وواحدة تسجيلية ومجاميع قصصية مخصصة لسرد سيرته الذاتية التي تمتد من الطفولة حيث نشأ في عائلة مناضلة ووسط يساري، والانخراط في صفوف الحزب الشيوعي منذ عمر مبكر جدًّا، ثم المراهقة والدراسة والمشاركة مرغمًا في الحرب العراقية-الإيرانية والهروب منها للانخراط ضمن صفوف الثوار في الشمال، وبعدها تعرضه لضربة كيميائية ونجاته منها بأعجوبة، ثم التسلل رفقة زوجته إلى إيران ومن هناك إلى سوريا فروسيا، والاستقرار في الدنمارك. لعل رأيًا يقول إن معظم الروائيين يتجسدون في شخصياتهم بطريقة ما، لكن لا يمكن وصف مثل هذا العمل بالسيرة الذاتية، فالروائي لا بد أن يسرد بعض الأحداث التي عاشها أو سمع عنها لتضمينها في النص المتخيل.
ثالثًا: ركزت كل رواية على أحداث/أماكن مختلفة مع الإشارة إلى أحداث وشخصيات وأماكن أخرى، لكن باقتضاب. ففي “إعدام رسام” يتناول علاقته الخاصة مع أخيه كفاح الذي أعدم عام 1983 لانتمائه للحزب الشيوعي، و”الحياة لحظة” تتناول جوانب من حياته في النضال في شمال العراق مع التركيز على حياته في روسيا والدنمارك، و”كل شيء ضدي” تمحور حول علاقته العائلية مع زوجته وتعرض لنا جانبًا جيدًّا عن نمط الحياة الاجتماعية في الدنمارك، والذي نفتقده لدى معظم الروائيين العراقيين المغتربين. بينما تتطرق مجموعاته القصصية إلى ومضات وحوادث وشخصيات عاش معها خلال مسيرته الحافلة. وتغطي روايته الأخيرة، “دونت سبيك، أسطب” التي صدرت هذا العام عن دار أمجد، والتي سنتطرق لها بالتفصيل في الجزئين الثاني والثالث من هذه الدراسة، مراحل الطفولة والمراهقة والشباب، وكرسها بالكامل تقريبًا لمدينة الديوانية والأحياء التي نشأها فيها من خلال الغوص في الحراك السياسي والاجتماعي والنفسي شائك التعقيد بدءًا من انقلاب 8 شباط والإطاحة بالزعيم قاسم ووصول القوميين إلى سدة الحكم ودخول العراق مرحلة من الصراع الدموي.
رابعًا: يملك الروائي ذاكرة تسجيلية بارعة التفاصيل للأماكن والأشخاص والأحداث، الأمر الذي أثرى تجربته السردية كثيرًا ولم يقوقعها في شخصه هو أو في مكان معين، لذلك ليس من المستغرب أن تكون في حقيبته هذا العدد الوفير من الروايات والمجاميع القصصية المكرسة تقريبًا للسيرة الذاتية. وفي “دونت سبيك أسطب” يصف عند عودته من المهجر بعد أول زيارة له بعد سقوط النظام مدينة الطفولة بشوارعها وأزقتها ودرابينها وومقاهيها ومحلاتها وبيوتها كذلك شخصياتها بمن فيهم كبار السن الذي التقى بهم أو عمل معهم مثل عمه بتفاصيل دقيقة وحية جدًّا لكأنه غادرها البارحة وليس قبل قرابة خمسين عامًا.
خامسًا: ما يميز أعمال سلام إبراهيم أنها متكاملة من حيث البناء السردي والثيمة والحكاية. فمن يقرأ رواياته، حتى تلك التي تتجاوز 400 صفحة، يدرك أن الروائي في جعبته الكثير الذي يود البوح في سرد مشوق فيخرج من “قبعته حكاياته” قصصًا وشخصيات وأحداث وأماكن، فضلًا عن النهايات التي تعيد القارئ إلى بداية العمل وإلى أحداثه البواكر. وهذه ميزة تنبع من مقومات عديدة من بينها القراءات الموسعة للكاتب للأعمال العراقية والعربية والعالمية، والذائقة الفنية والنقدية التي يتمتع بها، وإحاطته التامة بفن الرواية والتطورات العديدة التي شهدتها.
سادسًا، تقنات الكتابة: يتمتع الكتاب بقدرات عالية من بينها اللغة الأدبية التي تقبض على اهتمام القارئ من السطور الأٌول وتدخله في قلب الحدث المسرود. لقد أفردت في دراستي المنشورة سابقًا لعمله “إعدام رسام” تحليلًا للغة السرد الروائي وأوضحت أن لغة الكاتب ليست مجرد نقل للأفكار، بل هي كتلة هائلة من العواطف الجياشة والمشاعر المتقدة بحيث صارت اللغة مشاركة في السرد عبر أنسنة المشاهد واسباغ الجمادات حياة داخل النص. ليس من المبالغة القول إن كتاباته، وهو اليساري، “صوفية” ذات جنبات إنسانية عميقة. وفي عمله الأخير سيتضح أنه وهب المكان دورًا أكبر من مجرد حاضنة للأحداث فصار مشاركًا في سرد الأحداث.

القسم الثاني:

الرواية لتأسيس الوعي وتوثقة التاريخ

دائمًا ما تحضرني مقولة الروائي ميلان كونديرا في وصفه للرواية في كتابه “فن الرواية” بأنها “مستودع نفَس الإنسان، ورقيب أطواره وتفاعله مع الحياة، والرواية التي لا تؤسس وعياً، ولا تبث أسئلة وجودية هي رواية سطحية” كلما طالعت عملًا عميقًا يغور في جوّانية النفس البشرية ويزيح عن المنظومة المجتمعية طلاء التجميل الذي تتزين.
اتخذ سلام إبراهيم من أعماله الأدبية وثيقة لتأسيس وعي إنساني من أجل بناء سليم وصحيح لشخصية الفرد. يقتضي مثل هذا الوعي، كما يظهر جليًّا في رواية “دونت سبيك أسطب”، إماطة اللثام وتعرية بوتقة التناقضات العجيبة أقصى اليمين والشمال المتغلغلة جذورها عميقًا في شخصية الفرد: الفضيلة والرذيلة، العفة والكبت، الشجاعة والخوف، الوفاء والغدر، العنف والطيبة، والقسوة والعنف المضاد حتى أضحت الشخصية العراقية متناقضة وقلقة، وذات ردود أفعال شديدة التطرف كما فعل حسين شاني مع الشقي علي البصراوي الذي ذبحه على مرآى ومسمع من الجميع لمجرد أن الأخير هدده، ص186. تأثرت هذه الشخصية، كما نقرأ بين ثنايا العمل، بسبب الظروف السياسية التي عصفت في العراق وجايلها الكاتب باغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم صبيحة الثامن من شباط 1963 وانحدار العراق في موجات من العنف السياسي الشديد في العقود اللاحقة التي بلغت أوجها بصعود الدكتاتورية وإضرام حروب عبثية.
استطاع الكاتب، عبر التقاطات لشخصيات وأحداث وحوادث عديدة، تقديم صورة شاملة عن المجتمع في عمر مبكر، عن الحياة الاجتماعية في منزله الذي نشأ وترعرع فيه في الحي العصري بمدينة الديوانية، وعن الحراك السياسي المتمثل بكونه عائلة يسارية ذات تاريخ عريق، إضافة إلى الجانب النفسي العميق الذي يغور في ثنايا الفتى المراهق. كانت الشخصية الرئيسة تجمع ما بين “اللامنتمي” حسب وصف كولن ولسون، الشخصية المفرطة في الحساسية والعاطفة التي تتأثر بشدة بما حولها، خاصة برد الفعل إزاء العنف الذي تطبعت الشخصية العراقية وشهوتها لممارسة الظلم والأذى حد السادية، وشخصية “المنتمي” الملتصقة بشدة مع مجتمعها الذي تعرفت منذ نعومة أظفارها على خبايا عالم الكبار من خلال الجلسات في محل عمه خليل وما كان يحكى في الصالونات المغلقة. أولد هذا التزاوج الغريب ما بين “اللامنتمي” و”المنتمي” شخصية طريفة، وعميقة الوعي والفطنة، و”شقية”، وثائرة، ومتمردة على كافة التابوهات، ومرحة، وشديدة الفضول حد التلصص على الجيران، وحالمة “رومانتيكية” مع كل الإحباطات التي تعيشها، وراغبة بتجربة أي شيء، وذات طاقة فكرية وشهوانية متفجرة لا حد لها، وعاشقة حد الجنون، شخصية معجونة استمدت من الأب الصلابة والشجاعة والكتمان، ومن الأم الصبر والعاطفة الشديدة. كان هذا الفضول الشديد الذي دفعه للطواف حول شوارع وأزقة المدينة فضولًا لمعرفة ما يجري في الخفاء، والتعرف عن كثب كما نطالع عن المحرمات والعالم السري للعواطف والشهوات المكبوتة.
قدم الروائي في عمله وجبة دسمة عن الإرهاصات الاجتماعية والسياسية والنفسية وعلى شخصية الفرد العراقي “العجائبية” بطريقة سردية وليست تقريرية أو تحليلية، خاصة العنف الذي يمارسه الأفراد حد السادية عندما تكون بيدهم أدنى درجات السلطة والتسلط على الآخرين: رب الأسرة، رب العمل، المعلم، السجان، الأحزاب التي رفعت شعارات الإرهاب: “ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة”، أو هتاف الجماهير وهي تدعو الزعيم لقتل الخونة، ص157، “أعدم… أشنق… علق… أرمِ”.

وإذا ما استثنينا بعض ردود الأفعال القاسية من الأب تجاه الابن، ولها ما يبررها عندما كبسه متلصصًا على الجيران أو خوفًا عليه، نرى أن سلوك المعلم “جبار” (الذي هو الآخر ضحية أعدمه النظام كما يكتشف الروائي مصادفة لانتمائه لحزب الدعوة) يظهر نموذجًا لقساة التربويين، إذ تجاوز حد التعليم والتربية والتشجيع إلى الإرهاب والإذلال والتحقير في عمله اليومي والواجبات التي يطلبها: حفظ الدرس وتعليم الأولاد على الصلاة. نستشف في عبارة الأستاذ جبار الوعيدية للتلاميذ، بعدما أعطاهم واجبًا بإتقان قراءة الدرس وهددهم بعصا غليظة عن كل خطأ “ماذا بكم ترتجفون من البرد أم من الخوف؟” ص83، مدى سعادته وهو يرى الرعب مرتسمًا على وجوه الأطفال، ثم يصف لنا الروائي حال الهلع والضرب الشديد والنياح الذي ساد في الصف ذلك اليوم، فكان، كما يقول، ص 85، “كنت أفكر بزميلي سعد حمد البوحمد الذي يشاركني المقعد”، وهو كما يشرح ’من عائلة ثرية وذو شخصية لطيفة وشديدة الهدوء فكان يحميه من الأولاد الأشقياء لكنه يواجه صعوبة في القراءة.‘ ثم يصف ما حصل من رد فعل الأستاذ جبار عندما أخطأ سعد في القراءة، ص87-88: “تناوب على ضرب راحة كفيه المبسوطتين الواحدة بعد الأخرى. كان يشهق غير قادر على البكاء من شدة الألم، كاد يختنق، لاعَ رافعًا رأسه إلى السقف كمن انقطع نفسه ثم انفجر بعويل طويل وراح يتوسل إذ لم يعد بمستطاعه بسط ذراعيه فضمهما تحت إبطيه متكتفًا وتكور غير آبه بأوامر بسط الذراعين. تجنن “جبار” وانهال ضربًا على كتفيه المضمومين، وعلى رأسه، أسفل رجليه، فاستدار المسكين من حلاوة روحه معطيًا قفاه، فضربه على ظهره فاستدار ثانية ليواجه ضربات جديدة على رأسه وكتفيه، إلى أن تراجع وسقط في برميل القمامة…

في تلك اللحظة رن جرس الاستراحة فوقف وعدل سترته وقال ’نكمل بعد الاستراحة‘…. هرعت إليه… كان مهدود القوى مختنقًا يلوع، لا يستطيع البكاء من شدة الوجع، ساعدته على النهوض، فوجدته قد بال بسرواله…” ثم يذكر أن هذه الحادثة جعلت سعد يترك المدرسة إلى الأبد، شأنه شأن العديد من التلاميذ الذين هجروا مقاعد الدرس بسبب العنف ليقضوا في الحرب.
أما المشهد الثاني فقد حصل إزاء ردود فعل الجماهير ص152-158 تجاه ضابط وجندي اتهما، كما يتضح بحيلة من جنود للتخلص منهما، بأنهما مشاركان في ثورة الشواف ضد الزعيم. في هذه الصفحات يصف الروائي كيف أن إشاعة واحدة كافية لتنفجر أعداد غفيرة من الناس لاقتراف أقسى درجات العنف. “كان أيضًا [يصف العسكري الثاني] بملابس عسكرية ممزقة تمامًا، وحبل معقود على رقبته مضافًا للآخر المعقود على كتفيه، ممزق الجسد، مشوه الوجه، مطفأ العينين، مسحوق الأنف، يركض حوله شبان حفاة يركلونه بأقدامهم وفي عيونهم اللامعة لذة، هل يلتذ الإنسان لحظة قتله لأخيه؟ هل هي شهوة خفية نتوارثها من دم أسلافنا ساكني الكهوف؟ … وقتها لم أفهم، ولم أجد لها تفسيرًا، كانت مخيفة تبعث على الهول، سوف أراها في وجوه زملائي وقت المعارك لحظة الإجهاز على جندي إيراني، وفي وجوه رفاقي الثوار وهم ينفذون حكمًا بالإعدام على أسير أو خائن.”
ولعل المشهدين اللذين يعرضها عن السجن يوضحان مدى السادية التي انطبع عليها السجانون. ففي المشهد الأول يتعلق بما حصل لعمه خليل نقلًا عن صديقة عزيز السماوي، فيقول، ص 352- 55: بدأ قائد المجموعة بقراءة الأسماء وعمك خليل من ضمنهم… مسلحو الحرس القومي بملابسهم الخاكية ورشاشات بورسعيد المصرية يوثقون أيدي عشرة موقوفين ويعصبون عيونهم بخرقة سوداء.. تابعت عمك كان الثاني من اليسار لصق الجدار يرتجف مثل سعفة… ظهر مسلح… وأخرج ورقة وبدأ يقرأ قرار حكم إعدام المجموعة رميًا بالرصاص فانهار بعض السجناء… صفوهم من جديد فالتصقوا ببعض، بينما صدر من آمر الفصيل أمر الرمي، سحبت الأقسام وصوبت البنادق ومع صوت الرصاص الخلَّب [الذي يطلق صوتًا فقط] تداعى صف السجناء صارخين باكين… ومن داخل الردهات تعالى الصراخ والبكاء والهتافات المتقطعة وسط قهقهة المسلحين السكارى الذين أعدوا مسرحية الرعب…” وفي مشهد آخر يصف السارد خلال سجنه عام 1980 ما اقترفه الحرس مع أحد المساجين، وهو مجنون يدعي أنه لواء في الجيش ص 420: “أخرجوه سحبًا عنيفًا من كتفيه الناحلين فتمزق قميصه الأبيض الخفيف، أوقفوه لصق عمود حديدي يسند سقف الطارمة… ربطوا يديه وقدميه إلى العمود، سحب أحد الحراس قميصه فصار عاري الصدر، كان ينظر بعينين شاردتين كأنه لا يراهم.” ثم يواصل السرد بعدما تراهن الحارسان أنه المجنون لن يصرخ مهما كان الضرب مبرحًا: “تناوبا على ضربه، تناوبًا يا علي بن أبي طالب، تناوبًا جعلني أضغط بقبضتي المتوترين قضبان النافذة، متابعًا قسمات وعيني الجلاد الهام بالضرب أينما يشاء، في الجذع الأعلى العاري… في أم الرأس” حيث يتواصل السرد على لسان أحد الحرس: “هذه الضربة راح أخليه يصرخ! أبتعد عن جدار البناية البعيد ثم هب راكضًا نحو الكتلة الناحلة محنية الرقبة إعياء… نطحه برأسه وضربه بقبضتيه على صدره وصدمه بركبته في وسطه بنفس اللحظة، الاصطدام وقعه مثل انفجار مكتوم صداه عاشرني بقية العمر…”
هذا الحادث الأخير وتفاصيل موت السجين في تلك اللحظة بعدما نزف من كل جزء من جسده تجسد قمة “الوعي” بأقصى درجات السادية وعشق العنف وشهوة إيذاء الآخر وتكشف في الوقت ذاته حساسية السارد المفرطة، كما يقول ص422: “الناحل المسكين الذي طلعت روحه أمام ناظري حزّ بقلبي جرحًا أبديّا دفعني لمعانقة الحياة بعنفوان وشرف.”

القسم الثالث:

روايات ما بعد السيرة الذاتية “الميتا أوتوبيوغرافي”

ثمة الكثير من التقنات التي امتازت بها رواية “دونت سبيك أسطب” والتي تجعل منها أنموذجًا لروايات السيرة الذاتية ما بعد الحداثية، سواء ما يتعلق بأهمية العمل ضمن محفظة الكاتب السردية، أو على صعيد البناء الفني للرواية، أو المعالجة السردية، أو إيهاب المكان بعدًا أبعد من المتعارف عليه في السرد، أو الجو الخاص الذي أولد فيه النص والذي استغرق قرابة ست سنوات فاختمرت ونضجت على نار هادئة. لا شك عندي في ذلك، ففي الوقت الذي أصدر فيه الروائي نتاجاته الأخرى خلال تلك الفترة، كان يشتغل على هذا العمل الذي ترك له ثغرات وأحداث زمنية في حياته، وأقصد هنا مرحلة الطفولة بهذا التكثيف الحكائي. وسأقف عند عدة محطات تتعلق بالبناء الفني لتسليط الضوء على تفرد هذا العمل:
أولًّا: تتسم الرواية بالعديد من تقنيات ما بعد الحداثة/ الرواية الحديثة. ولعل أبرزها أنها تنتمي إلى ما يسمى بروايات ما بعد السيرة الذاتية “ميتا أوتوبيوغرافي”، وهي كما يقول كريستيان ستروث في كتاب “كراس السيرة الذاتية/التخييل الذاتي: النظرية والمفاهيم (وهو كتاب غير مترجم للعربية ويقع قسمه الأول في قرابة 2200 صفحة) بأن إحدى وظائفها الرئيسة إمكانية قراءتها في الوقت ذاته على أنها سيرة ذاتية، وسيرة، وعمل متخيل. لذلك جمعت هذه الرواية ما بين السيرة الذاتية للكاتب، والسيرة الغيرية: العائلة والأقارب (مثل العم موسى سوادي) والأصدقاء والمعارف مثل: سعد حمد البوجمعة، جهاد الحداد، سريع، مظهر، حامد، إضافة إلى تخييل الكاتب كما يحصل عند سرده لسجن والده ووفاة والدته، أو تخيله ما حصل مع الشاب الذي تحرش بخالته خلال رحلتها إلى تكريت.
ثانيًا: المتوالية القصصية والسرد الشعاعي. تتألف الرواية من 32 فصلًا وكل فصل قائم بذاته (قصة كاملة) وينطوي على فكرة محددة أو حدث معين أو شخصية مثل المعلم جبار وفتاة البرميل وبريجيت باردو والخال مهدي، لكنها تتوشج جميعًا بصلة ما لخدمة الثيمة الرئيسة لتشكل رواية قائمة على “متوالية قصصية”. أما مسار السرد الذي يعتمد على الاستباق والاسترجاع، فقد اتخذ شكلًا شعاعيًّا لما يتعلق بالزمن. فمثلًا عندما يتحدث في الفصل الأخير عن مواقف الموت التي واجهها، يعود إلى إحدى حوادث الطفولة التي نجا منها بأعجوبة. لذلك كانت الأحداث تسير بلامركزية (فيما يتعلق بالتراتبية الزمانية) صوب مركزية الثيمة، إذ تستهل بفكرة الموت، وتسدل الستار بسرد حوادث الموت، لكنها تتنصر للحياة.
ثالثًا: الجو العام لكتابة العمل ومخاطبة الموتى. ليس ثمة شك أن الرواية، بما تضج من عواطف متقدة ومشاعر جياشة، مكتوبة في جو خاص، ليس خارج الوعي كما فعل جيمس جويس أو وليم فوكنر، بل في ظرف نفسي شديد الخصوصية والحرج، كما يقول الكاتب عن نفسه في الاستهلال الذي يسبق السرد، ص7، “العام الفائت كدت أصعد إلى السماء، بالنسبة لي ليس هنالك شيء أشد ألفة من الموت، سأروي لكما كيف رافقني وحام حولي منذ الطفولة وحتى العام الماضي حينما وقعت في دوامة ألم مبرح حيّر الأطباء في الدنمارك حتى أنهم طردوني من المستشفى بعد أن تكرر إدخالي والفحوصات لا تسفر عن شيء..” لذلك وهب والديه- وكذلك عمه خليل- دورًا واضحًا وكان يتحدث إليهما على مدار السرد كأنهما حاضران معه، بدافع كما يتضح لي من لهفته الشديدة لهما في ذلك الظرف النفسي العصيب وبعد أن فقدهما وهو في دار الغربة- وما أصعب مثل هذا الفراق- أو تكفير عن خطاياه بسبب “شقاوته” خلال طفولته وفتوته، أو ليبث لهما المعاناة والظروف التي كابدها حتى هذا العمر. هذا الخطاب تناوب في مضمونه بين الأب والأم، واختص الأول عندما يتعلق الموقف بصعوبة وشدة (ص 15، 48، 49، 50، 55، 60، 200، 224-225، 370، 382، 389، 398، 429) لكأنه يقول له أنه سائر على طريقه في مقارعة الدكتاتورية بكل شجاعة، في حين يخاطب الأم (ص16، 17، 19-20-، 47، 282، 286، 288، 289، 310، 324، 328، 333، 392) عندما يقتضي الموقف شحذ العاطفة والحب والحنان. ثم يخاطبهما معًا في الموقف الذي يجمع ما بين الشدة والعاطفة كما في الصفحة 407 (عند نجاته في طفولته من الموت بأعجوبة وهو على الرصيف عندما اندفع صوبه لوري ركاب خشبي قديم) وفي الصفحة 422 عندما يسرد فلسفته في الحياة فيقول: “أسمعا يا عبد سوادي وعلية عبود، لم يحس أحد الحياة مثلي، لا فيلسوف يرى في الأشياء ما لا يراه البشر، ولا شخص هش تلذذ بالمباهج لثروة عائلة هائلة، ولا فلاح قرية أحب جارته وفاز بها حتى مات طاعن السن بين يديها، ولا… ولا، لذتي في الحياة لم يتذوق مثلها إلا نبي، لذة هي الحياة في لحظتها التي يظنها من كان يمشي جنب الحائط كل العمر أنها في متناول يده وهو لا يدري أنه لم يمس عمقها أبدًا مثل فقاعة تنفجر في أية لحظة أو في نهاية عمره.”
رابعًا: العنوان اختار المؤلف عنوانًا مختلفًا هذه المرة، عنوانًا غير عربي لنص عربي، “دونت سبيك، أسطب” وهي نقل حرفي لجملة إنجليزية تعني “لا تتكلم، توقف.” تحمل هذه العبارة التي تكرر عدة مرات في حديث الأب تارة مع ابنه وتارة أخرى مع الأم من باب المزاح والتحذير انزياحات عدة. فهي تشير إلى حالة حراك اجتماعي لطيف في تلك الفترة، الستينات والسبعينات، بترديد عدد من المفردات الإنجليزية ليظهر المتكلم إجادته الحديث بأكثر من لغة، وهنا الأب-النجار- يوضح لـ ابنه-طالب المدرسة- من باب المزاح أنه يعرف أحسن منه باللغة الإنجليزية. وثانيًا، وهو الأرجح تحذير مبطن بعدم الكلام وعدم الفعل بسبب الظرف السياسي والخوف الذي تفشى بتبوء القوميين سدة الحكم ودخول البلاد في دوامة العنف والترهيب.
خامسًا: تعدد الثيمات. تتمحور روايات السيرة الذاتية عادة على موضوع محدد أو موضوعين سواء تلك المتعلقة الحياة الاجتماعية للسارد، أو الحياة السياسية أو العملية. بيد أن هذه الرواية انطوت من خلال سردها المكثف وتقنية المتوالية القصصية على عدة مضامين: سياسية واجتماعية ونفسية وإنسانية وتاريخية تمحورت حول العائلة أو بمدينة الديوانية إضافة إلى سرد حيوات أشخاص آخرين. من بين هذا المحاور الظاهرة: الفقر والمعاناة والفوارق الاجتماعية، كما مثلا مع العمة نعيمة وفطورها الدسم مقارنة بالكعك والشاي الذي يتناوله في منزله، والعنف والقسوة، ونضال العائلة اليسارية وتاريخها في مقارعة الملكية والقوميين، وعبثية الحياة في ظل الحروب والدكتاتورية، والحب والعشق والزواج كما أشرت في القسم السابق. الرواية ضاجة بالألم والمعاناة دون أن تخسر معركة الحياة.

استحضرت وأنا أتأمل في المونولوج في الأسطر الأولى من الرواية، ص9، “كم حلمت بهذه اللحظة؟” آخر عبارة في رواية “الساعة الخامسة والعشرون”، في المشهد الذي يأمر فيه الضابط إيوهان موريتز بعبارة “ابتسم! ابتسم! ابتسم!” وهو في قمة المأساة بعدما طوى 13 عشر عامًا متنقلًا بين السجون والمعتقلات. كانت “اللحظة التي حلم بها الروائي” هي في الواقع قمة المأساة التي نطالعها في فصول الرواية، بدءًا من مشاهداته، خلال رحلة العودة، للبلد المدمر المحتل المنهوب الذي عاثت فيه السلطات الجديدة التي قدمت مع قوات الاحتلال الأمريكي خرابًا وفسادًا، ومن ثم الإقبال على ذكريات وأماكن لأشخاص هم أقرب الناس إليه ممن فقدهم ما بين موت في أقبية النظام أو جراء العنف أو موت طبيعي، غير الأحبة من أقرب الأصدقاء والمعارف الذين غابوا عن مسرح الحياة جراء الحروب والمرض والإعدام.
سادسًا: اللغة والمكان: تتسم لغة الرواية، كما هي الحال في العديد من أعمال الكاتب، بتفردها وبلاغتها وعمقها السردي والأدبي، خاصة في تصوير المشاعر والمكابدات. لغة سلام إبراهيم الأدبية، كما أوضحت في دراستي السابقة لعمله “إعدام رسام”، تتجاوز مجرد وسيط لنقل الفكرة إلى مشارك في الحدث.

وفي هذه الرواية بالذات، كان المكان مشاركا في الحدث وليس مجرد حاضنة له: بيت الجد القديم، البيت في الحي العصري، المدرسة، السينما، الدكان، محل النجارة، محل العم خليل، الشوارع والأزقة والدرابين وأماكن “الختلات” الذي اكتشف أنها بؤرة لممارسة الرذيلة، السجن، والسجن المتخيل حيث حُبس والده. لذا يقول في ص11 في تصوير مشهد عودته إلى العراق: “رددت الباب ونزلت درجات السلم الحجرية الثلاث، كان الظلام والسكون والصمت يلف المنزل الذي يسكنه أصغر أخوتي مع زوجته وطفليه. شعرت بسعادة خفية للصدفة، فسوف تفسح لي هذه الخلوة الإحساس بالمكان الذي نشأت فيه، فبين هذه الجدران تخلقت، وكبرت حتى صرت ما أنا عليه بكل تناقضاتي، ومشاكساتي، ووداعتي، وطيبتي وخبثي، وقوتي وضعفي، وإقدامي وجبني، كل ذلك بُني هنا بين هذه الجدران الرطبة وأساساتها المتداعية.” ثم يقول في 20 في وصف تخييلي لروح المكان: “هبطت إلى موضع جلستها مُخلقًا كتلتها في ذاكرتي، من روح المكان، من عمق نفسي، من صمت المساء، من عمق البيت الخالي، فتجسدت في لحظة بارقة حتى أني لمست يدها الناعمة، ومرغت وجهي براحة كفيها الحانيتين وتأرجحت على حافة النشيج، فيما سمعت من الغرفة الداخلية المفتوحة على الصالة صوت أخي كفاح وهو يضحك مع صوت احتكاك الفرشاة بجسد قماشة الرسم الأبيض.”
بالإضافة إلى هذا الدور البارز للمكان، كان له أيضًا أهمية في الوصف بالغ الدقة، سواء في الفترة التي عاشها المؤلف منذ نعومة أظفاره، وفي فترة عودته، وحتى في فترة غيابه في المهجر القسري عندما يشير إلى الدكان الصغير الذي شق طريقه من جدار البيت فترة الحصار في صراع البقاء بسبب الظرف الاقتصادي الخانق.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة