22 سبتمبر، 2024 1:51 ص
Search
Close this search box.

الشرعية الدولية و”حل الدولتين” .. حراثة الأرض للأعداء !

الشرعية الدولية و”حل الدولتين” .. حراثة الأرض للأعداء !

خاص : بقلم – د. راجي مهدي:

عبر 75 عامًا من الصراع العربي الصهيوني، عوّلت البرجوازيات العربية كثيرًا على الشرعية الدولية ومؤسساتها ومقرراتها، وعبر تلك الأعوام، لم يُنتج هذا التعويل، وتلك الدعوة لاحترام الشرعية الدولية والالتزام بمواثيقها ومؤسساتها سوى الهزيمة والارتهان.

أنهت حرب غزة شهرها الثاني وشرّعت الولايات المتحدة باستخدامها حق النقض؛ (الفيتو)، في مجلس الأمن ضد مشروع قرار دولي تقدمت به دولة الإمارات لوقف إطلاق النار، استمرار المجزرة “الإسرائيلية” المفتوحة ضد المدنيين العُزل في شمال غزة وجنوبها. خلال هذا الوقت، لم تترك آلة الحرب الصهيونية فرصة واحدة لهتك ستر الشرعية الدولية وقراراتها إلا واغتنمتها ومرّغت أنف تلك الشرعية في التراب؛ كما أن النظرة الأولى توحي بعجب شديد، كيف استطاع الكيان الصهيوني تمرير جرائمه وعلى رأسها جريمة وجوده، من تحت أنف تلك الشرعية دون أن تهتز لتلك الجرائم أركان معبد القانون الدولي واتفاقيات حقوق الإنسان ؟ لكن نظرة متفحصة قد تُمكّننا من مقاربة بعض الحقائق التي تُختبر كل يوم في الأرض المحتلة وتُثبّت صحتها بلا ريب.

ليست الشرعية الدولية سوى مجموع المباديء التي أفرزها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية متجسّدًا في مؤسسات لحفظ الأمن والسّلم الدوليين، ودرء مخاطر نشوب حرب عالمية جديدة، وقد تبلورت تلك الترتيبات في اتفاقيات طهران وبوتسدام ويالطا بين القوى العالمية الثلاث، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وإمبريالية الدرجة الثانية المسّماة بالمملكة البريطانية الآفلة. لكن تلك الترتيبات التي عكست موازين قوى عالمية جديدة وعلاقات قوى أفرزتها نتائج الحرب العالمية الثانية، سرعان ما اختبرت في اليونان بالسّلب، حين أحجم الاتحاد السوفياتي عن دعم الحزب الشيوعي اليوناني في المعركة ضد البريطانيين، ثم في الحرب الأهلية الناشبة في 1946، أي التزم الاتحاد السوفياتي من جهته بمقررات الشرعية الدولية التي لم تكن سوى اتفاقًا ثنائيًا بين ستالين وتشرشل على نسّب النفوذ الشهيرة، نفذت بريطانيا مجزرتها بحق قوى اليونان الديموقراطية في ظل شرعية دولية احترمت حق البريطانيين في الحفاظ على مصالحهم في اليونان عبر الانخراط في المعركة مباشرة ضد جبهة المقاومة الوطنية اليونانية وجيش التحرير، ثم برعايتها إرهابًا أبيض ضد الحزب الشيوعي وحلفائه، ثم بالتدخل البريطاني يليه التدخل الأميركي ضد الجيش الديموقراطي في فترة الحرب الأهلية اليونانية.

انتُهكت سّيادة اليونان وجرى التدخل في شؤونه الداخلية تحت مظلة الشّرعية الدولية ومؤسساتها التي عكسّت الصعود الأميركي لقيادة المعسكر الإمبريالي، وعكسّت أيضًا نصيب السوفيات من دوائر النفوذ.

ثم كان الاختبار الثاني في الحرب الكورية، وهو اختبار سقطت فيه الشرعية الدولية ولم تقم قائمتها، لأنها فشلت في درء خطر الحرب والتصدي للتدخل الأميركي السّافر في شبه الجزيرة الكورية.

ومنذ الغزوة الأميركية لكوريا، تبلور المفهوم النهائي للشرعية الدولية: حق الأمم القوية في دحر الأمم الضعيفة، وسّلب الأمم الضعيفة الحق في المقاومة، أي الحق في أن تناطح الأمم القوية.

لكن البرجوازيات العربية التي قبلت قرارات الشّرعية الدولية في العام 1947 بخصوص تقسّيم فلسطين، ثم قبلت قرارات الشّرعية الدولية في العام 1967، وتحديدًا القرار (242) الذي بنّت عليه البرجوازيات العربية أوهامها التصفوية، تلك البرجوازيات التي شهدت المرة تلو المرة كيف تلوك الإمبريالية مقررات شّرعيتها الدولية وتجعلها وقودًا لآلة الحرب الصهيونية، ما زالت تُحاضر عن الشّرعية ومقرراتها، ماذا يعني هذا ؟

حين تُعلن البرجوازيات العربية التزامها بمقررات الشّرعية الدولية، فإنها تُعلن التزامها مباشرة بحق الكيان الصهيوني في الوجود، أي أنها تُعلن التزامها أساسًا بأن الكيان الصهيوني الذي صُنع استيطانيًا توسّعيًا كمركز إمبريالي متقدم في المنطقة، من حقه أن يبقى ليُمارّس توسّعيته ويُعمق طبيعته الاستيطانية ليبقى كمركز إمبريالي متقدم في المنطقة، وبالتالي يبقى التزام تلك البرجوازيات بمقررات الشّرعية الدولية هو في الحقيقة التزامًا بأن يُمارّس هذا الكيان توسّعيته تحديدًا ضد الشعوب التي صُنع ليتوسّع على حسابها، وضد الفلسطيني تحديدًا الذي صار فاقد الأهلية في أرضه باعتباره من غير العنصر الذي صُنع هذا الكيان منه باعتباره كيانًا عنصريًا.

كما أن الشّرعية الدولية التي أقرت بألا اضطهاد لإنسان على أساس العِرق والمذهب والدين، إنما تُقر بحق الصهيونية في أن تُمارّس صهيونيتها على غير الصهاينة. ثم تجتمع البرجوازيات العربية لتُطالب المجتمع الدولي بوقف حد للانتهاكات “الإسرائيلية”، وفي هذه المطالبة تناقض خطير، فوجود “إسرائيل” بحد ذاته هو انتهاك؛ انتهاك ردمت عليه البرجوازيات العربية بعشرات الآلاف من جثث الشهداء سمادًا لأرض كان حصادها المنتظر تحريرًا كاملاً للأرض المحتلة، فما كان الحصاد سوى القرار (242) الذي ظلّ نصًا يُقرأ بالإنكليزية فيُعطي دلالة ويُترجم إلى العربية فيُعطي دلالات أخرى، “أراضٍ عربية” أم “الأرض العربية”، هكذا كان الحصاد نصًا مشّوشًا داسته “إسرائيل” بنعال مسّتوطنيها وعصاباتها المسلحة، فإذا كان وجود “إسرائيل” في حد ذاته انتهاكًا، كيف تُطالب البرجوازيات العربية ممن مارسّوا هذا الانتهاك وضع حدٍ له ؟

حتى مقررات الشّرعية الدولية التي هي قرارات مجلس الأمن، ظلّت حبرًا على ورق، وفي هذا الحبر نبّت مسّخ صغير اسمه “حل الدولتين”، وعلى قاعدة “حل الدولتين” أُبرمت اتفاقية أوسلو. وهمٌ على وهمٍ، نتج عنه وهم سلطة فلسطينية، في ظلها، ابتلعت المسّتوطنات كامل الضفة، وصارت الاقتحامات الصهيونية للضفة حقًا صهيونيًا تُمهد له السلطة بتصفية الخلايا المقاومة في الضفة، أي حراثة الأرض للأعداء.

“الالتزام بمقررات الشرعية الدولية”؛ يبدو هذا النص موجهًا للقائمين على رعاية أمن الشّرعية الدولية، أي القوى التي ترعى بقاء الكيان الصهيوني باعتباره جزءًا مكونًا من صيانة النظام العالمي. كان هذا النص ليبدو أكثر منطقية لو تم توجيهه للمقاومة الفلسطينية، إذ أن من انتهك الشّرعية الدولية حقًا هو المقاومة الفلسطينية، ومن تحدى ميزان القوة، والنظام العالمي هي الفصائل التي رفضت القبول بالشّرعية الدولية التي هي الأمر الواقع للاحتلال، التي هي إضفاء الشّرعية على الكيان واستمراره ومجازره، التي هي تسّوية شعوب المنطقة بالأرض وإخضاعها لتقسّيم العمل الدولي بالإكراه عبر وضعها باستمرار تحت تهديد السلاح الصهيوني الذي هو حامل لواء الإمبريالية في المنطقة، فما كان من المقاومة الفلسطينية إلا أن رفضت الارتهان لمجلس الأمن ومقررات النظام الدولي، النظام الذي لم يأبه لأن شعبًا يتم نحره يوميًا وتُمارّس ضده همجية القرون الوسطى وتحاول الصهيونية ومن وراءها ركله خارج التاريخ، هذا الشعب أكل من الرغيف الفذ ما يكفي، أكله مرغمًا بخيانات متتالية، وقد أبت قواه المقاتلة أن تقبل بموازين القوة والشرعية الدولية التي هي شرعية القوة، الشرعية التي تكفل للدولة العبرية حق انتهاك كل مادة من مواد الميثاق العالمي لحقوق الإنسان من دون أن تهتز للعالم الحر قصبة. قصف المنشآت الطبية، حصار المدنيين وتجويعهم وحرمانهم من الماء والوقود ومن علاج جرحاهم، ضرب المناطق المدنية بالأسلحة المحرمة، فرض التهجير، الإبادة الجماعية، إطلاق تصريحات عنصرية ضد الفلسطينيين، أليست جريمة واحدة من تلك كانت كافية لتدفع جيوش عشرة بلاد إمبريالية لسّحق دولة من دول العالم الثالث ؟ ألم تجر أميركا جيوشها وزبانيتها ليدفعوا العراق إلى عالم القرون الوسطى تحت دعوى امتلاكه سلاحًا نوويًا، في حين يُطلق وزراء الصهيونية دعاوى لضرب قطاع غزة بالسلاح النووي ؟ ألم تُهاجم أميركا الأراضي السورية بحجة حماية المدنيين من بطش البعث والسلاح الكيميائي، وألم تسمح أميركا لحافظ الأسد بالتدخل لسّحق الثورة الفلسطينية في لبنان حماية للموارنة، وألم تُطلق أميركا أيدي النظام الأردني في أيلول/سبتمبر 1970 لتصفية قواعد الثورة الفلسطينية في الأردن ؟ أليست تلك هي الشّرعية الدولية ؟ أليست هي ذاتها الشّرعية الدولية التي تحت أعلامها ذبحت فيتنام وتبادلت عليها الضواري الإمبريالية من هولندا إلى فرنسا إلى الولايات المتحدة أعوامًا وأعوام تقصف فيتنام بالنابالم والسلاح المُحّرم ويُمارّس فيها الرجل الأبيض مجزرته القديمة ضد الهنود الحُمر ؟

إن الشّرعية الدولية هي منطق القوة؛ هي من يحكم العصر؛ من يملك القوة يصّوغ القوانين، ويصّوغها لمصلحته حصرًا.. وحول تلك القوانين ينقسّم الناس. الداعون لاحترامها هم هؤلاء المسّتفيدون منها، وقد قام الفلسطينيون في 07 تشرين أول/أكتوبر ليضعوا قانونًا آخر للعصر، وهم لهذا يواجهون العالم كله بصدورهم العارية بلا نقصان، أما استمرار الهمجية الصهيونية بترخيص عالمي فهو ببسّاطة توكيل من الإمبريالية لإعادة هيبة شّرعيتها الدولية. إن “إسرائيل” هي عصا الشّرعية الدولية ودرعها، والداعية الأكبر لاحترام تلك الشّرعية وصيانتها بالتهويد تارة وبالقنابل الفوسفورية تارة أخرى، وحولها فيالق الدعاة لاحترام حق الصهيوني في قصف الفلسطيني بالنووي، لكن دون أن يُعلن، وتطبيق “حل الدولتين”، ذرًا للرماد في العيون، كشكلٍ مبطن لتثبيّت حق الصهيونية في الوجود، وهو الحق الذي تنتفي معه أي حقوق فلسطينية وعربية.

إن “إسرائيل” تُثبّت بالحرب دعائم الشّرعية الدولية، لذا فهي أكثر إخلاصًا للشّرعية الدولية من الداعين إلى تثبّيتها في القمم !

  • نشر هذا المقال لأول مرة بموقع (180 بوست).

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة