14 نوفمبر، 2024 7:27 م
Search
Close this search box.

النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين .. أصولها، أسبابها ونتائجها/1

النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين .. أصولها، أسبابها ونتائجها/1

تمهيد

ـ قال الحميري” أما أهل فارس فإنهم كانوا كنار خمدت لم تبق لهم بقية تذكر إلا ابن المقفع وابنا سهل: الفضل وحسن”. (الروض المعطار1/214). وكتب خالد بن الوليد رضى الله عنه إلى مرازبة فارس: الحمد لله الذى فضّ خدمتكم، وفرّق كلمتكم“. (الصناعتين/278). وذكر الخطيب البغدادي” قرأت على أبي بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر اليزدي بأصبهان عن أبي شيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان قال حدثني أبو الحسن البغدادي قال: عن إبراهيم بن عبد الله جئت أنا وأبي إلى أبي عثمان الجاحظ في آخر عمره فقال جئت إلى شق مائل ولعاب سائل الامصار عشرة فالصناعة بالبصرة والفصاحة بالكوفة والخير ببغداد والغدر بالري والحسد بهراة والجفاء بنيسابور والبخل بمرو والطرمذة بسمرقند والمروءة ببلخ والتجارة بمصر”. (تاريخ بغداد1/72).

ـ ذكر ابن الجوزي” نزل سعد بن ابي وقاص القصر الأبيض، واتخذ الإيوان مصلى، وجعل يقرأ(( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ. [وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ. وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ))‌ و أتم الصلاة، ثم دخلها لأنه كان على نية الإقامة، وصلى الجمعة، وكانت أول جمعة جمعت بالعراق جمعة المدائن“.(المنتظم4/206). سورة الدخان25 ـ28

ـ ذكر الطبري” بعث خالد بن الوليد عماله و بعث آخرين على ثغور، ثم إن خالدا كتب إلى أهل فارس و هم في المدائن مختلفون لموت أردشير، وكتب كتابين: كتابا إلى الخاصة، وكتابا إلى العامة، وقال لرجل: ما اسمك؟ قال: مرّة. قال: خذ هذا الكتاب فأت به أهل فارس، لعل اللَّه أن يمرّ عليهم عيشهم. وقال لآخر: ما اسمك؟  قال: هزقيل. قال: خذ هذا الكتاب وقال اللَّهمّ أرهق نفوسهم، وكان في أحد الكتابين: ” بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، أما بعد، فالحمد للَّه الّذي حلّ نظامكم، ووهّن كيدكم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم كان شرا لكم‌، فادخلوا في أمرنا ندعكم و أرضكم، ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة”.

اما في الكتاب الآخر” بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى‌ مرازبة فارس، أما بعد، فالحمد للَّه الّذي فرق كلمتكم، وفلّ حدّكم، وكسر شوكتكم، فأسلموا تسلموا، وإلا فأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت، كما تحبون الخمر”. (تأريخ الطبري3/370). (المنتظم4/106)

ـ ذكر ابن الجوزي” لما التقى رسول اللَّه (ص) بالمشركين يوم بدر، فنصر عليهم، وافق ذلك اليوم التقاء فارس بالروم، فنصرت الروم، ففرح المسلمون بالفتحين. إنما فرحوا لأن الروم أصحاب كتاب، وفارس لا كتاب لهم. أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الفضل بن خيرون، قال: أخبرنا أبو علي بن شاذان، قال: أخبرنا أحمد بن كامل، قال: حدّثني محمد بن سعد العوفيّ، قال: حدثني أبي، قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس في قوله تعالى فس سورة الروم/4ـ5 ((يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ‌)). كان ذلك في أهل فارس والروم، كانت فارس قد غلبتهم- يعني الروم- بعد ذلك، و لقي نبي اللَّه (ص) مشركي العرب يوم التقت الروم وفارس، فنصر اللَّه النبي (ص) ومن معه على مشركيالعرب، ونصر أهل الكتاب على مشركي العجم، ففرح المؤمنون بنصر اللَّه أتاهم‌، فذلك قوله ((وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ‌)) “. (المنتظم3/135)

في نقاش مع مجموعة من المثقفين العرب والإيرانيين طُرح موضوع مهم للغاية وهو أهمية ورفعة الحضارة الفارسية وتفوقها على بقية الحضارات العالمية، وكان يُقصد بذلك حضارة الفرس قبل الفتح الإسلامي. واستشهد أصحاب هذه النظرة بقول الهمداني” أمّا الأمة التي سبق أوّلها وعفا آخرها فأهل فارس كانوا في سالف الدهر أعظم الأمم ملكا، وأكثرهم أموالا، وأشدهم شوكة. وكانت الملوك في جميع الأطراف والأقاليم تعترف لهم بذلك، وتعظم ملكهم وتغتنم منه أن يهاديهم. وكانت العرب تدعوهم الأحرار وبني الأحرار، لأنهم كانوا يسبّون ولا يسبّون ويستخدمون ولا يستخدمون. ثم أتى الله بالإسلام فكانوا كنار خمدت وكرماداشتدت به الريح في يوم عاصف، فتبدد جمعهم ومجت قلوبهم، ومزقوا كل ممزّق، فلم يبق في الإسلام منهم نبيه يذكر، ولا شريف يشهر”.(كتاب البلدان للهمداني/607).  كما ذكروا عن ابن قتيبة قوله” خراسان أهل الدعوة وأنصار الدولة لما أتى الله بالإسلام كانوا فيه أحسن الأمم رغبة واشدّهم اليه مسارعة منّا من اللهعليهم أسلموا طوعا ودخلوا فيه أفواجا وصالحوا عن بلادهم صلحا فخفّ خراجهم وقلّت نوائبهم ولم يجب عليهم سبى ولم يسفك فيما بينهم دم مع قدرتهم على القتال وكثرة العدد وشدّة البأس”. (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم/293).

وانتقوا نصوصا أخرى من مصادر عربية وفارسية، كان الغرض كما تبين لنا من طرح هذا الموضوع هو تبرير النظرة الاستعلائية الفارسية على العرب حصرا دون بقية الأمم والشعوب في غاية مقصودة، وليست عفوية. في حين هناك أقوال أخرى تعارضها منها ما ذكره الزمخشري” قال سفيان: والله ما أدري أي البلاد أسكن؟ فقيل:خراسان! فقال: مذاهب مختلفة، وآراء فاسدة. قيل: فالشام! قال: يشار إليك بالأصابع، أراد الشهرة. قيل: فالعراق. قال: بلد الجبابر. قيل: فمكة. قال: تذيب الكيس والبدن”.( ربيع الأبرار1/246).  وقال الزمخشري” قال الحجاج للغضبان بن القبعثري كيف تركت أرض كرمان؟  قال: ماؤها وشل، وسهلها جبل، ولصها بطل، وثمرها دقل”. ( ربيع الأبرار1/266).

خلال النقاش طرحنا السؤال الآتي: هل يمكن لأصحاب هذه النظرة تزويدنا بأسماء ولو خمسة من علماء الفرس قبل الإسلام في مجال الفلسفة والطب والصيدلة وعلوم الإنسان والحيوان والفلك؟ وضربنا مثلا: لقد اخترع العراقيون القدامى العربة والكتابة وفن الجراحة وإنشاء السدود لدرء الفيضانات، وأخترع الصينيون الورق والبارود والخزف. وأخترع الأغريق النار الأغريقية والزجاج المرن والأسمنت والطنبور والمكبس. فما هي اختراعات الفرس قبل الإسلام؟

ومن هم أبرز علماء الفرس في هذه العلوم قبل الإسلام؟

الشطرنج

تحير المؤيدون لحضارة الفرس، ولم يسعفهم الجواب! ليس لأنهم يجهلون أسماء العلماء الفرس، بل لأنه لا يوجد أصلا علماء فرس واختراعات قبل الإسلام الذي كان له الفضل الكبير في إنقاذهم من وحل المجوسية والزرادشتية.

حاول أحد الحاضرين إسعاف جماعته، فذكر لعبة الشطرنج كاختراع فارسي، سيما ان التسميات الواردة في اللعبة فارسية. أبطلنا هذا الادعاء لأن لعبة الشطرنج (الاختراع) ليست فارسية بل هندية الأصل. قال الابشيهي” إن سبب وضع الشطرنج أن ملوك الهند ما كانوا يرون بقتال، فإذا تنازع ملكان في كورة أو مملكة تلاعبا بالشطرنج، فيأخذها الغالب من غير قتال”. (المستطرف/471). وقال الغزولي” قيل سبب وضع الشطرنج أن ملوك الهند ما كانوا يروا القتال فإذا تنازعوا في كورة او مملكة تلاعبا بالشطرنج فيأخذها الغالب من غير قتال“.(مطالع البدور ومنازل السرور/34).

كما قال البكري” ملك الهند دينام- وقيل اسمه دبشلم – وهو واضع كتاب كليلة ودمنة (الذي نقله ابن المقفّع وصنّف سهل بن هارون للمأمون كتابا سمّاه ثعله وعفره عارض به كليلة ودمنة. وكان ملكه مائة وعشرين سنة. ثمّ ملك بلهيت وصنعت في أيّامه الشّطرنج بيّن فيه الظفر الذي يناله الحازم والنكبة التي تلحق الجاهل. وللهند في الشطرنج سرّ يسرّونه في تضاعيف حسابها ويتغلغلون بذلك إلى ما علا من الأفلاك ويجعلونه متّصلا بالأجسام السّمائية. ولم تزل كلّ طائفة تستعمل عليها فنون الملح والنوادر المضحكة المدهشة، ويزعمون أنّ ذلك ممّا يبعث على لعبها وانصباب الموادّ وصحيح الأفكار، وهو بمنزلة الارتجاز للمقاتل والحدّ للمغنّي. وقال بعض الشعراء:

نوادر الشطرنج فــــــــي وقتنا   أحرّ من ملتهب الجمــــر
كم من ضعيف اللعب كانت له   عونا على مستحسن القمر      (المسالك والممالك للبكري/243).

قال القاضي نكري وهو فارسي” عن الشَّيْخ بهاء الدّين العاملي رَحمَه الله تَعَالَى يُقَال فَضَائِل الْهِنْد ثَلَاث: كليلة ودمنة وَلعب الشطرنج والحروف التِّسْعَة الَّتِي تجمع أَنْوَاع الْحساب”. (دستور العلماء4/132). وقال ابن خلدون ” ذكر خراش: أنّ ملك زابلستان بعث إلى المأمون بحكيمه ذوبان أتحفه به في هديّة وأنّه تصرّف للمأمون في الاختيارات بحروب أخيه وبعقد اللّواء لطاهر وأنّ المأمون أعظم حكمته فسأله عن مدّة ملكهم فأخبره بانقطاع الملك من عقبه واتّصاله في ولد أخيه وأنّ العجم يتغلّبون على الخلافة من الدّيلم في دولة سنة خمسين ويكون ما يريده الله ثمّ يسوء حالهم ثمّ تظهر الترك من شمال المشرق فيملكون إلى الشّام والفرات وسيحون وسيملكون بلاد الرّوم ويكون ما يريده الله فقال له المأمون: من أين لك هذا؟ فقال: من كتب الحكماء ومن أحكام صصّة بن داهر الهنديّ لّذي وضع الشّطرنج”. (تأريخ ابن خلدون/420).

كما ذكر اسبهبد مرزبان الفارسي” أعلم أن واضع الشطرنج من أحكم حكماء الهند وكان أعقل الحكماء والبراهمة وقد وضع لكل من الحيوانات مكاناً وبيتاً وقرر له نوعاً من السير لا يتعداه ووضع للفيل مكاناً لا يتخطاه”. (مرزبان نامة/132). وقال القزويني” لما وضع الهند الشطرنج بعثوا به هدية إلى كسرى ولم يذكروا كيفية اللعب به، فاستخرجه بزرجمهر ووضع في مقابلته النرد وبعث به إلى الهند”.(آثار البلاد وأخبار العباد1/235). إذن بإعتراف الفرس وغيرهم لم يَكُ الشطرنج فارسيا.

علما ان للعرب الكثير من الطرائف والأشعار والأمثال التي تتعلق بالشطرنج، ما لا يوجد في الأدب الفارسي منها: بيدق الشطرنج

قال الثعالبي” بيدق الشطرنج يشبه بِهِ الْقصير الدنيء السَّاقِط وأظن النَّاظِم أول من شبهه بِهِ حَيْثُ قَالَ
أَلا يَا بيدق الشطرنج   فى الْقيمَة والقامة
لقد صغر مِنْك الْكل     غير الدبر والهامة     (ثمار القلوب/666).

كما قال الثعالبي” بغلة الشطرنج:  يشبه بهَا من يسْتَغْنى عَنهُ وَلَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَيكون دخيلا فى الْقَوْم إِذْ لَيْسَ للبغل مَكَان فى دَوَاب الشطرنج وَله يُقَال فى الْمثل من أَنْت فى الرّفْعَة قَالَ بعض العصريين:

يَا كَاتبا أقبل من زرنج   مبرقع الْوَجْه بلون الزنج

               اذْهَبْ فَأَنت بغلة الشطرنج      

(ثمار القلوب/666). وأضاف الثعالبي” زاد في الشطرنج بغلة، ثم نفضناها على قائمة. وفرزنت سرعة ما أرى يا بيذق، وهل تجري البياذق كالرّخاخ”. (التمثيل والمحاضرة/201).

كما أنشد جحظه:
قل للشقيّ وقعت في الفخّ   أودت بشاهك ضربة الرّخّ
وأراك تولع بالبياذق ساهياً   والمشرفيّة حول شاهك تلمع
وقال كشاجم:
وقد كنت أطمع في قمرةٍ   فأصبحت أقنع بالقائمه
وأنشد السريّ الرّفاء:
مشوا إلى الرّاح مشي الرّخّ وانصرفوا   والرّاح تمشي بهم مشي الفرازين  

(التمثيل والمحاضرة/201).

بل ان العرب أنفسهم فندوا رأي البعض بأن الشطرنج عربي الأصل، قال العاملي” الناس كثير منهم يخلط في الصولي وهو أبو بكر محمد بن يحيى بن صول تكين الكاتب وتزعم أنه واضع الشطرنج، لما ضرب المثل به فيه، والصحيح أن واضعه صصه بن داهر الهندي”. (الكشكول1/330). وأضاف” يقال فضائل الهند ثلاثة كليلة ودمنة، ولعب الشطرنج وتسعة أحرف التي يجمع أنواع الحساب”. (الكشكول1/333).

لكن ما هو رأي علي بن أبي طالب في الشطرنج؟

قال ابن منظور” قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ قمارٌ فَهُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ حَتَّى لعبُ الصِّبْيَانِ بالجَوْزِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنه قَالَ: الشِّطْرَنْج مَيْسِرُ العَجَمِ؛ شَبَّهَ اللَّعِبَ بِهِ بِالْمَيْسِرِ، وَهُوَ الْقَدَاحُ وَنَحْوَ ذَلِكَ”. (لسان العرب5/295). كما قال عصام الدين العمري” أول من وضع الشطرنج صصه بن راس الهندي ملك شهران”. (الروض النضر2/153).

الحقيقة ان ارتباط الفرس بالشطرنج يرجع الى تولع الفرس المجوس بها، فالتصقت بهم اللعبة، قال ابن أبي الدنيا” عن أبي جعفر أنه سئل عن الشطرنج فقال: دعونا من هذه المجوسية لا تلعبوا بها؛ يعني: الشطرنج”. (ذم الهوى/83). (ذم الملاهي/78).

فن العمارة

قال ابن سعيد الأندلسي” يحكي أن أنوشروان ملك الفرس عاب على بعض العرب تجولهم في أقطار الأرض، وقلة سكناهم في المباني، فقال: ذلك لأنا ملكنا الأرض ولم تملكنا. وهذه من البلاغة العجيبة”. (نشوة الطرب/84).

حاول البعض ـ بعد أن عجزوا عن الجواب ـ الانتقال الى موضوع آخر، كان في تصورهم إنهم يملكون فيه الحجج الكافية لإثبات وجهة نظرهم. فذكروا بأن الفرس أبدعوا في العمارة، وإن إيوان كسرى شاهد على العمارة الفارسية، فهو من أبرز الصروح المعمارية الفارسية القديمة،مستشهدين في ذلك بقول البحتري:

وكأن الإيوان من عجب الصنعة   جرب في جنب أرعن جلس

وكذلك وصف ابن الحاجب له:

هل أسمعت أذناك مثل حديثهم   أو عاينت عيناك كالإيـــــــوان؟
قصر يكـــــاد يردّ حسن بنائه     عند التأمــــــــــل أعين العميان
تعلو له شرف كأن شخوصه       بيض الحمائم في ذي الأغصان
حفّت به كحفوف وقد أحدقوا     بحريم بيت الله ذي الأركـــــــان

كما أوردوا قول الاصطخري” امّا المدائن فمدينة صغيرة جاهليّة قد كانت عظيمة فنقل عامّة ابنيتها الى بغداد وهى من بغداد على مرحلة وكانت مسكن الاكاسرة وبها ايوان كسرى الى يومنا هذا وهو ايوان عظيم معقود من آجرّ وجصّ ليس للأكاسرة ايوان اكبر منه”. (المسالك والممالك للأصطخري/86). وأضاف أحد العراقيين ان العرب حاولوا هدم هذا الصرح العظيم لأنهم غير قادرين على الإتيان بمثله، وذكر قول البكري” ذكر أنّ الرشيد بعث إلى يحيى بن خالد، وهو في اعتقاله، يشاوره في هدم الإيوان، فبعث إليه: لا تفعل. فقال الرشيد لمن حضره: إنّ المجوسية في نفسه والحسد عليها والمنع من إزالة آثارها. فشرع في هدمه، فإذا به يلزمه في هدمه مال عظيم لا تضبط كثرته، فأمسك عن ذلك، وكتب إلى يحيى بن خالد يعلمه بذلك. فأجابه أنّ ينفق على هدمه ما بلغ من الأموال ويحرّض على محو أثره. فتعجّب الرشيد من تخالف كلامه فبعث إليه يسأله ما معنى تخالف قوله. فقال: أمّا الكلام الأوّل فإنّي أردت به بقاء الذكر لأمّة الإسلام، وأن يكون من يرد (في الأعصار ويطرأ من الأمم في الأزمان) يرى مثل هذا الأثر العظيم فيقول: إنّ أمّة قهرت قوما هذا بنيانهم واحتوت على ملكهم لأمّة عظيمة الشدّة، وأمّا قولي الثاني فأخبرت أنّه شرع في بعضه هدمفأردت نفي العجز عن أمّة محمّد وأن لا يقول قائل: إنّ هذه أمّة ضعيفة عجزت عن هدم ما بنته فارس. فلمّا أعلم بذلك الرشيد قال: قاتله الله، فما سمعت له قطّ قولا إلّا صدق فيه. وأعرض عن هدمه”. (المسالك والممالك للبكري/286).

وقال النويري” من مباني الفرس إيوان كسرى، زعم المسعودي أن سابور ذا الأكتاف بناه في نيف وعشرين سنة، وطوله مائة ذراعفي عرض خمسين ذراعا في ارتفاع مائة ذراع، وطول كل شرفة منه خمسة عشر ذراعا.، ولما ملك المسلمون المداين، أحرق ستر هذا الإيوان فأخرجوا منه مائة ألف دينار ذهبا. ولما بنى المنصور بغداد، أحب أن ينقضه ويبنيها به، فاستشار خالد بن برمك في ذلك فنهاه، وقال: هو آية للإسلام، ومن رآه علم أن الذى بناه لا يزيل ملكه إلا نبي والمؤونة على نقضه أكثر من الارتفاق به. فقال له: أبيت إلا ميلا إلى العجم، فهدمت منه ثلمة. فبلغت النفقة عليها مالا كثيرا، فأمسك المنصور عن هدمه، فقال له خالد: أنا الآن، يا أمير المؤمنين، أشير بهدمه لئلا يتحدّث الناس بعجزك عن هدم ما بناه غيرك. فلم يفعل. وحكى مثل هذه القصة أنها وقعت ليحيى بن خالد مع الرشيد، وهو إذ ذاك في اعتقاله. وكان الرشيد بلغه أن تحته كنزا فأراد هدمه واستشار يحيى فأشار عليه بمثل هذا. ومن عجيب ما يحكى من تقلب الأحوال أن بعض شرفاته هدمت وجعلت فى أساس سور بغداد. وقال ابن الأثير في تاريخه إن الإيوان باق إلى الآن. (وكان يوم ذاك في سنة خمس وعشرين وستمائة.(نهاية الأرب1/380).

قال نشوان الحميري” فلما أتت لسابور ست عشرة سنة أمرهم أن يختاروا ألف رجل من أهل النجدة والبأس ففعلوا، فأعطاهم الأرزاق، ثم سار لهم إلى نواحي العرب الذين كانوا يعيثون في أرضهم، فقتل من قدر عليه منهم ونزع أكتافهم، فسمي ذو الأكتاف لذلك، وهو باني الإيواء الأعظم بالمدائن”. (الحور العين/268). وقال الثعالبي” إيوَان كسْرَى: يضْرب بِهِ الْمثل للبنيان الرفيع العجيب الصَّنْعَة المتناهي الحصانة والوثاقة لِأَنَّهُ من عجائب أبنية الدُّنْيَا وَمن أحسن آثَار الْمُلُوك وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ من بَغْدَاد على مرحلة بناه كسْرَى أبرويز في نَيف وَعشْرين سنة وتأنق فيتأسيسه وتشييده وتحسينه فَلَمَّا ارْتَفع كَانَ من خَصَائِصه الثمان عشرَة الَّتِي لم يُعْطهَا ملك قبله، وَيُقَال بل بناه أنو شرْوَان وَهُوَ الذى بنى الْبَاب والإيوان أَيْضا. وأنشدنا أَبُو نصر المرزبانى لنَفسِهِ يذكر ذَلِك:

قلت لما رايته في قُصُــــــــــــــــــور       مشرفات الجدران والبنيان
هبك كسْرَى كسْرَى الْمُلُوك أنو شرْوَان   بانى الْأَبْوَاب والإيوان
أي شكر ترجوه منى إِذا لــم                 تقض لى حاجتي وترفع شأني

وَذكر ابْن قُتَيْبَة في كتاب المعارف أَن بانية سَابُور ذُو الأكتاف” وَمن وَصفه أَن طوله مائَة ذِرَاع في عرض خمسين ذِرَاعا فى سمك مائَة ذرَاع وَهُوَ متخذ من الْآجر الْكِبَار والجص وثخن الأزج خمس آجرات وَطول الشرفة خَمْسَة عشر ذِرَاعا. وَلما بنى الْمَنْصُور مَدِينَة السَّلَام أحب أَن ينْقض إيوَان كسْرَى ويبنى بنقضه الْأَبْنِيَة فَاسْتَشَارَ خَالِد بن برمك في ذَلِك فَنَهَاهُ عَن نقضه وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه آيَة الْإِسْلَام وَإِذا رَآهُ النَّاس علمُوا أَن من هَذَا بِنَاؤُه لَا يزِيل أمره إِلَّا نبي وَهُوَ مَعَ هَذَا مصلى على بن أَبى طَالب رضوَان الله عَلَيْهِ والمؤنة فى هَدمه ونقضه أَكثر من الارتفاق بِهِ فَقَالَ الْمَنْصُور يَا خَالِد أَبيت إِلَّا ميلًا إِلَى الْعَجم ثمَّ أَمر بهدمه فهدمت مِنْهُ ثلمة فلبغت النَّفَقَة عَلَيْهَا مَالا كثيرا فَأمر بالإضراب عَن هَدمه وَقَالَ يَا خَالِد قد صرنا إِلَى رايك فِيهِ فَقَالَ أَنا الْآن أُشير بهدمه قَالَوَكَيف قَالَ لِئَلَّا يتحدث النَّاس بأنك عجزت عَن هَدمه فَلم يقبل قَوْلهوَتَركه على حَاله”. (ثمار القلوب/181).

كما ذكر ابن حمدون” يقال إنّ المنصور لما بنى بغداد أحبّ أن ينقضه ويبني بنقضه، فاستشار خالد بن برمك فنهاه وقال: هو آية الإسلام ومن رآه علم أن من هذا بناؤه لا يزيل أمره إلا نبيّ، وهو مصلّى علي بن أبي طالب، والمؤونة في نقضه أكثر من الارتفاق به، فقال: أبيت إلا ميلا للعجم، فهدمت ثلمة فبلغت النفقة عليها مالا كثيرا فأمسك، فقال له خالد: أنا الآن أشير بهدمه لئلا يتحدّثبعجزك عنه، فلم يفعل. ووصفه البحتري فقال:

وكأن الإيوان من عجب الصّنعة    جوب في جنب أرعن مرس

لم يعبه أن بزّ من ستر الديباج      واستلّ من ستور الدمقس

مشمخرا تعلو له شرفات            رفعت في رؤوس رضوى وقدس
لست أدري أصنع أنس لجن        سكنوه أم صنع جنّ لإنس
غير أني أراه يشهد أن لم            يك بانيه في الرجال بنكس   (التذكرة الحمدونية2/88).

ذكر الخطيب البغدادي” الذي بنى الايوان على ما ذكر عبد الله ابن مسلم بن قتيبة هو سابور بن هرمز المعروف بذي الاكتاف وقد بنى أيضا ببلاد فارس وخراسان مدنا كثيرة وله في كتب سير العجم أخبار عجيبة وذكر أن مدة ملكه كانت اثنتين وسبعين سنة أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال أنبأنا محمد بن عمران المرزباني قال نبأنا أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي قال حدثني أبو علي أحمد بن إسماعيل قال لما صارت الخلافة إلى المنصور هم بنقض ايوان المدائن فاستشار جماعة منأصحابه وكلهم أشار بمثل ما هم به وكان معه كاتب من الفرس فاستشاره في ذلك فقال له يا أمير المؤمنين أنت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من تلك القرية يعني المدينة وكان له بها مثل ذلك المنزل ولأصحابه مثل تلك الحجر فخرج أصحاب ذلك الرسول حتى جاءوا مع ضعفهم إلى صاحب هذا الايوان مع عزته وصعوبة أمره فغلبوه وأخذوه من يديه قسرا وقهرا ثم قتلوه فيجئ الجائي من أقاصي الارض فينظر إلى تلك المدينة والى هذا الايوان ويعلم أن صاحبها قهر صاحب هذا الايوان فلا يشك أنه بأمر الله تعالى وأنه هو الذي أيده وكان معه ومع أصحابه وفي تركه فخر لكم فاستغشه المنصور واتهمه لقرابته من القوم ثم بعث في نقض الايوان فنقض منه الشئ اليسير ثم كتب إليه هو ذا يغرم في نقضه أكثر مما يسترجع منه وأن هذا تلف الاموال وذهابها فدعا الكاتب واستشاره فيما كتب به إليه فقال لقد كنت أشرت بشيء لم يقبل مني فأما الآن فإني آنف لكم أن يكون أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن هدمه والصواب أن تبلغ به الماء ففكر المنصور فعلم أنه قد صدق ثم نظر فإذا هدمه يتلف الاموال فأمر بالإمساك عنه أخبرني عبيد الله بن أبي الفتح الفارسي قال نبأناإسماعيل بن سعيد بن سويد قال نبأنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال نبأنا أبو العباس المبرد قال أخبرني القاسم بن سهل النوشجاني أن ستر باب الايوان أحرقه المسلمون لما افتتحوا المدائن فأخرجوا منه ألف ألف مثقال ذهبا فبيع المثقال بعشرة دراهم فبلغ ذلك عشرة آلاف درهم “. (تاريخ بغداد1/141).

علقنا على الاستشهادات بأن هذا الموضوع ليس بجديد، فهو تكرار لما قيل منذ اكثر من الف عام، ورد العرب عليه ودحضوه تماما، ومنهم ابن الفقيه بقوله ” تفاخرت الروم وفارس بالبنيان وتنافست فيه، فعجزوا عن مثل غمدان، ومأرب، وحضرموت، وقصر مسعود، وسدّ لقمان، وسلحين، وصرواح، ومرواح، وبينون، وهندة، وهنيدة، وفلثوم، بريدة قال:

أبعد بينون لا عين ولا أثر   وبعد سلحين يبني النّاس بنيانا   (البلدان للهمداني/93).  

كما ان العرب قبل الإسلام وبعده اشتهروا بفن العمارة، وما تزال الأندلس زاخرة لحد الآن بفن العمارة الإسلامي، وهو من أهم مميزاتها ومعالمها الحضارية، بل هي قبلة السياح الأجانب، وهذا الفن لم يقتصر على العرب فحسب بل الرومان وأهل الصين والهند والإغريق وغيرهم من الشعوب.

لا أحد ينكر أن الديوان كان صرحا جميلا وهندسة رائعة، لكن مفهوم الحضارة لا يقتصر على العمارة فحسب بل على جملة مظاهر أخرى تصاحبه، فالجنائن المعلقة وسور الصين والإهرامات وغيرها هي أكثر عمرانا وهندسة وجمالا من الإيوان. وعجائب الدنيا السبع لا توجد فيها اعجوبة فارسية. كما انه لا أحد ينكر فخامة القصور والمساجد في كافة الأمصار خلال العصر الإسلامي. فقد ذكر ياقوت الحموي” الدار البيضاءبالبصرة: ابتناها عبيد الله بن زياد بن أبيه، واعتنى ببنائها وجملها بالتصاوير، فلما فرغ منها البناؤون، أمر رجاله ألا يمنعواأحداً من دخولها وأن يأتوه بمن تكلم بشيء عليها، فدخل إليها أعرابي بصحبة بصري، فلما شاهدا التصاوير.

قال الأعرابي: لا ينتفع صاحب هذه الدار بها إلا قليلاً.

وقال البصري: بقاؤه فيها مستحيل، ولبثُهُ بيننا غير طويل. فجيء بهما إلى عبيد الله، وأخبر بأمرهما وما قالاه.

فقال للأعرابي : لم قلت ما قلت؟ فقال: لأني رأيت فيها أسداً كالحاً، وكلباً نابحاً، وكبشاً ناطحاً.  وقال للبصري: وأنت، لم قلت ما قلت؟ فارتعد خوفاً وقال: لا أدري أيها الأمير، أهو مني للأعرابي احتذاء، أم أنه حمقٌ وبذاء. فأمر بإخراجهم جراً على البطون، ولكن كان الأمر كما قالا، فلم يسكن هذه الدار إلا قليلاً، حتى أخرجه أهل البصرة، فانطلق إلى الشام ولم يعد بعد ذلك إليها”. (الخزل والدأل/3).

ومنها دار التاج” كانت جليلة القدر، مشهورة واسعة، وهي ببغداد، على الجانب الشقي من دجلة. وضع أساسها المعتضد، وسماها باسمها، ولم تتم في خلافته، فأتمها ابنه المكتفي”.(الخزل والدأل/3).

كما قال ياقوت عن قصر جعفر” ثم أنزل في القصر الفضل والحسن ابني سهلٍ، ثم لما طلبه الحسن وهبه له، فعرف بالقصر الحسني مدة، ثم آل أمره إلى بوران بنت الحسن، بعد موت أبيها المعتمد عنه وعوضها منه، فجددته وأحسنت فرشه، ثم أخبرت الخليفة باعتماد أمره، فأتاه فرح في نفسه، ونزل فيه بقية عمره. ثم آل أمره إلى المعتضد من بعده، فوسعه، وأدار سوراً من حوله، ثمابتدئ ببناء التاج، فجمع الرجال ليحفر الأساسات، ثم اتفق خروجه إلى آمد، فلما آب رأى الدخان منه، وابتنى تحت القصر آزاجاً من القصر إلى الثريا تمشي فيها الحُرم والجواري والسراري. وما زال باقياً إلى الغرق الأول الذي حدث ببغداد، فغفا أثره”.(الخزل والدأل/4).

ودار الطواويس: كانت بدار الخلافة المعظمة ببغداد ابتناها المطيع، وكانت أعجوبة الزمان في عصرها، وهو الذي سماها باسمها، لما رأى الأرض حولها مخضرةً، وعليها كل ضروب الورد في أيام الربيع”.(الخزل والدأل/6). بل قال الحصري” لم ينفق أحد من خلفاء بنى العباس في البناء ما أنفقه المتوكل؛ وذلك أنهأنفق في أبنيته ثلاثمائة ألف ألف، وفي أبنيته يقول على بن الجهم:

وما زلت أسمع أنّ الملوك   تبنى على قدر أخطارها
وأعلم أنّ عقول الرجـــال    يقضى عليها بآثارها
صحون تسافر فيها العيون   فتحسر من بعد أقطارها
وقبّة ملك كأنّ النجو م          تفضى إليها بأسرارها
إذا أوقدت نارها بالعراق     أضاء الحجاز سنا نارها
لها شرفات كأنّ الربيع       كساها الرّياض بأنواره    ( زهر الآداب1/231).

وللبحتري في القصور المميزة أشعار كثيرة منها:
أرى المتوكليّة قد تعالـــــت   مصانعها وأكملـــت التماما
قصور كالكواكب لامعات يكدن يضئن للساري الظّلام    (ديوان البحتري).

ذكر أبو الفرج الأصفهاني عن أبي  عثمان يحيى بن عمر قال: قرأت في بعض الدواوين أن المتوكل أنفق على أبنيته وقصوره والمسجد الجامع ومنتزهاته في خلواته بسر من رأى، وأعمالها من الأموال ما لا يعلم أن أحدا أنفق على بناء مثله، ومبلغ ذلك من العين مائة ألف وخمسين ألف دينار ومن الدراهم مائتي ألف ألف وثلاثة وتسعون ألف ألف وخمسين ألف درهم، من ذلك القلايا مائة ألف وخمسون ألف دينار، العروس ثلاثون ألف درهم، الشاة عشرون ألف درهم، البرج ثلاثون ألف ألف درهم، البركة ألفا ألف درهم، الجوسق الإبراهيمي ألفا ألف، المختار خمسة آلاف ألف، الجعفري ثلاثة وعشرون ألف ألف، البديع عشرة آلاف ألف، المليح خمسة آلاف ألف، الصبيح خمسة آلاف ألف، التل خمسة آلاف، الجوسق في الميدان خمسمائة ألف درهم، وازاء عشرون ألف ألف، المسجد الجامع خمسة عشر ألف ألف، الغراء بدجلة ألف ألف، القصر بالمتوكلية خمسة عشر ألف ألف، لؤلؤة خمسة آلاف ألف، النهر بالمتوكلية خمسون ألف ألف. وبنى المعتز بعد ذلك البيت المعروف بالكامل ولم أعرف مبلغ النفقة عليه، وبنى المعتمد المعشوق والبيتين المعروفين بالغنح والبهج“. (مطالع البدور ومنازل السرور/292).

يتبع لطفا.

أحدث المقالات