تحيا الامم وتموت كما يحيى الانسان ويموت وهي سنة الهية في الخلق والناس يقول ربنا الكريم “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدمون” (الاعراف 34) فكم من امة كانت في اوج عظمتها تحكم العالم وترعب البشرية بجيوشها “وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ” (ق36) فقد اهلك الله تعالى عاد وثمود وقوم تبع والفراعنة والروم والبيزنطينيين والفرس والتتار والمغول وفي عصرنا الحديث شاهدنا امم عظيمة تتهاوى في ليلة وضحاها كالاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا. كما اننا كنا شهوداً على ولادة امم جديدة قوية بجيوشها واقتصاداتها وتقنياتها كالولايات المتحدة والصين والهند, والله تعالى عندما خلق الكون والوجود خلقه بسنن وبنواميس مكّن الانسان من تسخيرها لصالح سعادته او تعاسته “واتاكم من كل ما سالتموه” (ابراهيم 34) فمن استطاع ان يأخذ بالاسباب تمكّن من تسخير خيرات الدنيا لصالحه ولصالح شعبه ومن اخذ باسباب الفشل والفرقة والضعف انتهى الى مزابل التاريخ حتى لو كان يصوم النهار ويقوم الليل فالصلاة والصيام ليست حصانة من الفشل بل هي علاقة بين الانسان وربه تعطيه دفعا معنويا لتحقيق الافضل وتدفعه للاخلاص في نيته وعمله فايمان بلا عمل لاقيمة فيه ولا خير يرتجى منه.
وكما ان اسباب موت الانسان متعددة فقد تكون مفاجئة بسبب حوادث مميتة او تدريجية بسبب التقدم بالسن والهرم او بسبب الامراض العديدة التي ابتلي بها الانسان فان سنة موت الامم لا تختلف عن ذلك, ولو اخذنا العراق نموذجا, لوجدنا انه اجتمعت فيه كل عوامل الموت ولوجدنا انه في طور الاحتضار منذ عقود طويلة الا ان هناك بين الفينة والاخرى محاولات لانعاشه واغاثته ليُمنح فترة حياة اصطناعية اطول لا تلبث ان تنتهي فيشارف على الموت مجدداً, ولكنه سرعان ما يحصل على جرعة جديدة من المسكنات والمنشطات الوقتية, والتي لا تنفع لدفع مصير الموت المحتوم.
ولكي اتجنب الاطالة بعد هذه المقدمة لا بد ان نبين بالدليل اسباب احتضار الامة وبالتالي اثبات انها تمر بدورة الموت المحتومة التي تمر بها كل امة.
الهرم والشيخوخة:
عندما يهرم الانسان يتوقف عن الانتاج والتفاعل مع محيطه وتتباطيء قدرته على التجاوب مع المتغيرات حوله على كافة الاصعدة وعلى هذا القياس فان الامة العراقية تمر بمرحلة هرم من علاماتها عجزها عن انتاج اي شي وتحولها الى كتلة مستهلكة كبرى ربما هي اكبر كتلة مستهلكة في العالم مكونة من 35 مليون انسان ولولا النفط لمات نصفهم جوعا, لانهم توقفوا انتاج ابسط مفردات حياتهم اليومية كالغذاء واللباس فكل شي مستورد رغم توفر كل عوامل الانتاج من ارض ومياه ومعادن وثروات, الا ان الانسان العراقي والذي هو لبنة الامة العراقية اصابه الهرم والشيخوخة الانتاجية المبكرة, واية امة تعجز عن انتاج غذائها لا تستحق الحياة وستخرج حتما من دورة الحياة لتدخل دورة الموت التي قد تطول اذا وضعت الامة في صالة الانعاش الصناعي مع ربط اجهزة التغذية الخارجية وواقع الحال فان العراق في حالة انعاش وان المغذي الذي يبقيه على قيد الحياة هو النفط وما ان يتوقف انتاج النفط او ينتهي تنهي معها قصة الامة العراقية.
السرطان الطائفي:
من اخطر الامراض على الانسان هو السرطان وهو نفس المرض الذي ضرب الامة العراقية, فاذا كانت السرطانات التي تصيب الانسان متنوعة, فان ما اصاب الامة العراقية هو السرطان الطائفي رغم اصابته بسرطانات اخرى يمكن الشفاء منها كالخيانة والعمالة وتقديم المصالح الذاتية على مصالح الامة والسرقة التي لم تشهدها امة في تاريخها من يوم خلق الله البشرية, غير ان السرطان الطائفي اشد فتكا وهو ما يصيب الامة باسرها وعليه لا يمكن اجتثاثه
كما هو الحال لو اصاب عضوا من اعضاء الجسم وعليه فان الشفاء من هذا المرض يبدو مستحيلا طالما ان غالبية خلايا الجسم مصابة به وتتفاعل معه, والا كيف تسكت امة باسرها على تصريحات للنائبة السرطانية حنان السرطاني وهي تدعو الى القتل الطائفي للابرياء فقط لانهم يخالفوها العقيدة الجزئية؟ فلو كان اي نائب في اي برلمان في العالم صرح بما صرحت به لخرجت الدنيا في تظاهرات عارمة ولما انتهت الا بمحاكمة النائبة والقضاء على الفتنة في مهدها ولكن سكوت الامة العراقية له دلالات عديدة منها ان هناك من يتفاعل مع تحريضها الطائفي المقيت ومنها ان الطرف الاخر ربما يستغل التصريح لاغراض دنيئة هي طائفية ايضا, كما ان الوسطيون يعتقدون ان لا قدرة لهم على مواجهة او تغيير هذا المرض كما في الانسان فان صلاح عضو في جسمه لا يمكّنه من مكافحة مرض السرطان الذي اصاب بقية الجسم ولا يلبث هذا العضو ان يصيبه المرض عاجلا ام اجلا.
ان تقسيم الامة العراقية على اسس طائفية وعرقية واثنية وقومية وبالتالي ترسيخ المرض السرطاني الطائفي لاشد فتكا من اي سلاح اخر, ويطلق ديفد ليفي الاسرائيلي الذي يتهمه البعض بانه اليد الخفية وراء الربيع العربي, على هذا المرض بسلاح التدمير الاجتماعي ويقول ما عليك الان ان تطلقه وتتفرج كيف يدمر أمة باسرها من خلال سرطانات تحاول احتلال مواقع من الجسد المريض رغم انها لا فائدة منها امثال حنان الفتلاوي ومشعان الجبوري.
الكوارث الطبيعية:
قد يُصاب الانسان بعاهات بسبب الكوارث الطبيعية فتقطع منها اجزاء من جسده ويصاب جرّاء ذلك بالضعف الشديد او ربما الموت او الغيبوبة كذلك الحال مع الامة العراقية فالاحتلال الذي اصاب العراق مثّل كارثة سياسية كبرى اوصلنا الى ما نحن عليه ولو كان السرطان الذي اصاب قلب العراق قبل الاحتلال المتمثل بصدام حسين تم علاجه بتبديل القلب ضمن عملية جراحية مدروسة على ايدي اطباء ماهرين لربما كان العراق الان بحال افضل.
غير ان الاحتلال شابه عملية قلع القلب من قبل جراح ماكر وخبيث وبايدي ملوثة بانواع السرطانات بهدف اصابته والتسبب بموته ببطيء لاحقا لكي ينجوا من فعلته.
عاهات بالولادة:
يولد بعض الناس مع عاهات بالولادة وكذلك العراق فهو ولد بخليط غير متجانس يحتوي على كل الاديان والقوميات والاثنيات والقبائل والعشائر واللهجات والبدو والحضر وهذه المكونات تشعر باستمرار بالخطر من بقية المكونات الاخرى وعليه تنطوي على نفسها وتضع الحواجز النفسية بينها وبين الاخر في محاولة لحماية وجودها ولم تتمكن الحكومات المتعاقبة من تكوين هوية عراقية يشعر الجميع بالانتماء اليها دون الخوف من سلخ هويته الاخرى, وفي الواقع يكون هذا التنوع مصدر قوة لو حكمها قانون قوي يساوي بين الجميع ولكن في حالة الامة العراقية فان هذا التنوع تحول الى تشوهات مستديمة تقف حجر عثرة امام تطور ورقي هذه الامة, والعاهة الولادية لا يمكن علاجها او اصلاحها خاصة اذا كانت تشمل كامل الجسد وليس عضوا محدداً وعليه فان الامة العراقية تواجه صعوبة كبيرة في الشفاء من العاهة المستديمة التي اصيبت بها منذ ولادتها وهي في طور الاحتضار وتقسيم الارث بين هذه المكونات.
العقم:
يصاب الرجال والنساء بالعقم وهي سنة الهية في البشر لحكمة لا يعلمها الا هو, والامة العراقية اصيبت بالعقم ولم تتمكن من انجاب قيادة تاريخية سواء تمثلت بشخص او حزب او مجموعة اشخاص تتمكن من لملمة شمل الامة دون تفريق بينها ورسم ملامح مستقبلها ووضع الاستراتيجيات للحيلولة دون اصابتها بشتى انواع الامراض التي تعاني منها حالياً وعليه فكما ان الرجل العقيم عندما يموت تموت معه ذكراه الا اذا ترك اثراً من نوع اخر, كذلك الامة العراقية فانها وهي في طور الاحتضار ليس هناك من سبيل لعلاجها وحيث انها لم تنجب فانها الى زوال عاجلا ام اجلاً.
خلاصة القول:
ان على الذين يتحدثون عن العراق الواحد الموحد وعن دولة القانون وعن دولة المواطن وتساوي الحريات والحقوق عليهم ان يستيقظوا من سباتهم العميق ويعوا حجم المصيبة وهي مصيبة موت امة, وحيث ان النواح لا يعيد ميتا فانه من الحكمة بمكان الخروج باقل الخسائر ووضع استراتيجية تقسيم الارث للحيلولة دون سكب المزيد من الدماء من خلال صراعات مدمرة على ارث هذه الامة الميتة, وعلى الاخوة الذين يتصارعون على ارث ابيهم المحتضر ان يعلموا انه سيكون هناك من سيتصارع على ارثهم وسيمزقون اربا اربا وسنرى دويلات ودويلات تنشأ من هذا العراق اذا لم نتوقف في لحظة تأمل تاريخية ونستقرأ المستقبل لنعلم حجم المخاطر التي تنتظرنا بعد موت الاب الكبير العراق.
ان الموت لايعني بالضرورة النهاية بل هو في الغالب مقدمة لبداية جديدة فكم من امة ماتت وبعثت من ارثها امةاقوى كما هو الحال مع روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي او تركيا وريثة الدولة العثمانية.
لقد كانت اوربا تعاني انقاسمات عنقودية في القرون الوسطى ولكننا نرى انها قوة ثانية في العالم توحدها انظمة وقوانين ودساتير لا تفرق بين مواطنيها بل ولا تفرق حتى بين من يلجأ اليها من دول تدعي انها اسلامية رغم اختلافاتهم الاثنية والعقائدية والطائفية, وعليه فان موت العراق كامة لا يعني بالضرورة النهاية بل قد يعني نهاية هذه الماساة وهذه الصراعات العبثية وهذا القتل البشع ويعني ايضا نهاية هذه السرطانات التي ظهرت منذ عشرة سنوات وتنخر في جسده لانها تقتات على القتل والفتن والاحقاد فاذا ما انطفأت نيران هذه المشاكل نجد ان هذه السرطانات تتلاشى تلقائياً ولن يكون بمقدورها الادعاء بالدفاع عن المذهب والدين والقومية.
اقول بدلاً من النواح على العراق واضاعة الوقت والاموال في شراء المغذيات والمنشطات الصناعية من اجل ابقاء بلد هو في طور الاحتضار دعونا نرفع اجهزة الانعاش لنترك هذا المحتضر يلقى موتا مشرفا وتشيعا مهيبا تحترمنا الامم عليه لتكون بداية انطلاقة جديدة وانبعاث لامم جديدة “عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ”(القلم 32).