كلما كانت هوية الجماعة واضحة المعالم وراسخة في الوجدان ؛ كلما كان افراد الجماعة اكثر قوة وعزة وثقة بالنفس و اعتزازا برموز ورجال الجماعة وثقافتها وامجادها التاريخية ؛ واما اذا كانت الهوية مغيبة او هلامية او مذبذبة … ؛ كلما كان افراد الجماعة اكثر ضعفا وتمزقا وهشاشة وضياعا ؛ مما ينتج بالتالي اضطراب نمط الحياة وبؤس العيش ويدفع بتوالي المناخات السياسية السيئة والمتوترة وتكرار الماسي والازمات والانتكاسات الداخلية … ؛ وبما ان هوية الشعوب والجماعات والمكونات مرتبطة بالتاريخ ؛ لان التاريخ يقدم لنا المعلومات الحقيقية والمحتملة عن الجذور التي ينتمي اليها هذا الشعب او تلك الجماعة ؛ تحتم علينا دراسة تاريخ الأمة العراقية منذ نشأتها القديمة وظهور اقوامها وجماعاتها ومكوناتها في بلاد الرافدين وانبثاق الحضارات الانسانية والامبراطوريات الاولى ؛ وانتشارها وسيطرتها على الاراضي الشاسعة والبقاع البعيدة … ؛ ثم انكماشها رويدًا رويدًا ، وما استتبعه ذلك من سقوط المدن والدول والحضارات والامبراطوريات الرافدينية العظيمة وانتهائها ، واعادة صيرورة العظمة العراقية بأشكال وصور مختلفة ؛ ومنها الخلافة العلوية المجيدة والامبراطورية العباسية العراقية الكبيرة … ؛، وما آل إليه الأمر في النهاية من سيطرة الاحتلال المغولي ؛ ثم العثماني , ثم الانكليزي … ؛ ثم تمزيق جسد الامة العراقية والقضاء على هويتها التاريخية من خلال تسليط عملاء الحكومات الهجينة – من عام 1921 الى 2003 – على العراق ؛ ومن ثم الاحتلال الامريكي الغاشم وتدخله السافر في الشؤون الداخلية ونهبه للثروات الوطنية ؛ ولا زال الصراع مستمرا وقائما بين احرار وغيارى وابطال الاغلبية والامة العراقية مع الامريكان ؛ وبمختلف الطرق وشتى الوسائل ؛ وصولا للاستقلال التام والنهضة العراقية المرتقبة ؛ وتمكين شرفاء الامة العراقية من بناء العراق واسترداد كافة حقوقه التاريخية المسلوبة .
فالتاريخ يمثل الهوية لكل شعب وجماعة ، إذ حينما تختل المفاهيم وتختلط الاوراق لا يبقى غير التأريخ هوية ثابتة لشعب من الشعوب… ؛ والأمة التي تجهل تأريخها، أمة بلا هوية، ومن لا هوية له، يمكن ان يقع ضحية الآخرين ؛ ومطية يمتطيها الغرباء والاجانب والدخلاء ، ويسقط تحت تأثير التحديات المستمرة، وربما اختلت قناعاته وسلك مسلكاً يضر بمصالحه الوطنية ؛ ويصير خنجرا في خاصرة ابناء جلدته , وقلما منكوسا يقطر سما زعافا ؛ فالتاريخ مرآة الشعوب وحقل تجارب الأمم ، في صفحاته دروس وعبر للمتأملين، لأنه نتاج عقول أجيال كاملة، والأمة التي تهمل قراءة تاريخها لن تحسن قيادة حاضرها ولا صياغة مستقبلها…؛ وخير شاهد على ذلك أن الأمم التي ليس لها تاريخ تحاول أن تؤلف لنفسها تاريخًا، ولو مختلقًا، حتى يكون لها ذكر بين الأمم .
عندما نفهم تاريخنا المجيد جيدا ؛ ونستلهم منه الدروس والعبر ؛ نستطيع عندها تصحيح اخطاء الحاضر ؛ لان الحاضر هو امتداد للتاريخ القديم , وهو تطور منه , ونتيجة عنه , فالإنسان العراقي المعاصر هو نتاج تراكمي لحضارات كثيرة وثقافات متعددة واحتلالات مختلفة وانتكاسات وازمات مستمرة … ؛ استطاع ان يتفاعل معها تفاعلاً ايجابيا تارة وسلبيا تارة اخرى … ؛ وعليه لابد لنا من تصحيح المسيرة وتغيير السيرة بما ينسجم مع الظروف المعاصرة والتحديات الحضارية الانية ؛ وان نبحث عن نقاط القوة في تاريخنا وهويتنا و واقعنا وطاقاتنا البشرية , و أن نرتقي بذواتنا لكي نستطيع ان نقف ؛ ومن ثم نستثمرها في تحقيق التنمية والتطور والازدهار ؛ فالفرق بين الشعوب الحية والشعوب الميتة او المريضة او المأزومة ؛ ان الاولى : أفادوا من ماضيهم وتفاعلوا معه وصنعوا حاضرهم، وهم الان يبنون لمستقبلهم ؛ اي انهم عملوا فصنعوا حاضرهم ومستقبلهم ؛ واما الثانية : عاشت في الماضي ولا زالت تتغنى بأمجادها وتبكي وتنوح على اطلال الحضارات الغابرة ؛ من دون ان تستفيد من الماضي لصناعة الحاضر , اي انها شعوب لا تعمل , لا تنتج , لا تخترع , لا تبدع , لا تصنع , لا تزرع ؛ فقط تستهلك ولا تنتج سوى الشعارات الطوباوية والكلمات الفارغة … ؛ فهم الان يبنون لمستقبلهم، ونحن لا نعمل لحاضرنا ، فلا فرق بيننا وبينهم سوى العمل واعمال الفكر ، وحتى لا نندثر علينا ان نعمل، لأننا في حال اندثارنا سيخسر العالم نفسه، لأنه سيفقد عنصراً يمكن أن يؤدي دورا في استمرار التاريخ، والاندثار ليس القصد به الجانب الفيزيائي بل الجانب المعنوي من الوجود، لأننا سنُطرد من دائرة الحياة ونعيش مستعبدين لأولئك الذين عملوا فاستعبدونا، كما يحدث الآن في العالم فهناك شعوب مهددة بالانقراض، كما هو الحال في افريقيا المهددة بالانقراض بالمجاعات والحروب الأهلية . (1)
………………………………….
1- من محاضرة للدكتور المؤرخ عماد عبد السلام رؤوف / بتصرف .