21 سبتمبر، 2024 10:56 م
Search
Close this search box.

الإنسان في أدب “عبد العزيز بركة ساكن

الإنسان في أدب “عبد العزيز بركة ساكن

كتب: عثمان خاطر 

جنوب السودان/ جوبا

” نلاحظ في قراءة كتابات بركة ساكن أنه يقوم بصناعة الإنسان وليس الكتابة عنه فقط، وهذا الجوهر من المعنى يلازم الإنسان على أنه ليست قضية سردية إنما مراحل تكوين التنشئة”.

_ الإنسان لدى بركة ليس هو الإنسان نفسه الذي نقرأه في كتاباته، نلاحظ أن الأمر يفتح المجال واسعا للمعنى اللغوي لكي يتعمق ويتسع مع تعدد محاور اللغة، إذ أن السؤال الجوهري في هذا الأمر يُبنى عليه الأسئلة العميقة حتى يبين القصد النهائي؛ الذي يبدو سهلا في فحواه اللغوي لكنه غير كذلك البتة، وهذا يجعلنا نستحضر معنا آخر سهم لإطلاق التعريف، للعبور ونتسائل،

مَن هذا الإنسان الذي يقصده بركة ساكن في كتاباته؟

و كيف يمكننا معرفته عن قرب؟

وهل سوف نتعرف عليه حين نقابله في الواقع؟

وهل أما زال يعيش في اللغة أم له وجود واقعي يتمظهر في الفضاء الحياتي الذي نمثله ونعيشه؟

أهو طفل، شاب، مسن رجل أم امرأة؟

كل هذه الأسئلة تضعنا نفهم منذ البداية أن العالم الذي يحاول بركة ساكن تسليط الضوء عليه من خلال هذا الإنسان الذي خلقه هو بنفسه يشترط معه التثقف العميق في تعرية مفهوم اللغة والنص كفضاء بياني يقوم عليه افتراضات المعنى والبُعد الفلسفي في تقصي الدور الغائب المستحضر.

اهتمام بركة ساكن بالكتابة الأدبية أنتج نوعية مختلفة من الكتابة بشكل مدهش، وعلا إبداعه في تناوله المواضيع الحساسة في المجتمع، ونبش ويلاته وهمومه ومشاكله وحروبه وتناقضات إنسانه، إذ أننا نلاحظ أن بركة ساكن لم يترك لنا موضوع لم يكتب عنه، فهو كاتب مكتمل مختص بالإنسان الذي لا صوت له، كتب عن الأطفال، النساء، الرجال، المجانين، العسكر، الجنجويد، الحركات المسلحة، الجنقو، السكارى، اللصوص، الجنود الصغار، الضباط الأنذال، بائعات الهوى، الدعارة، اللواط، مريضي النفس، الأنذال، الأخيار، الشيوخ الدجالين، الأمبتارة، فتيات الليل، وكتب أيضا عن العنصرية، العبودية و الطغيان، الظلم والقهر، الاستبداد والقمع، رجال الساسة والقادة والسياسة الداخلية المقيتة بكل خبثها وعدميتها، وعن المجتمع بكل قبائله وثقافاته كتب عن كل شيء يستحق الكتابة وما لا يستحق الكتابة عنه بالقدر الذي جعل من رواياته شعاع توصي إلى التعلق بالموضوعية والمعرفية وإبراز لونية جديدة لم تعتادها الجغرافيا، والساحة الفكرية والكتابية، أننا في قراءتنا لبركة ساكن نجد ذلك الكم الهائل من الوقائع الإنسانية التي تستعصي معها الوقوف على حدى فكل جانب منه يعزي الانتباه إليه، ويعطي ميزة ان الإنسان الذي بصدد التعرف عليه يكشف عن نفسه بصريح العبارة أنه لم يكن على خير ما يرام تاريخيا ونفسيا . وبعيدا عن لملمة الشتات المبعثرة بالفوضى والخلق الجديد، في الصراع الكوني المبعثر بالتراجيديا والتماس المرحلي يلزمنا الأخذ بعين الاعتبار أن الإنسان الذي كتب عنه بركة ساكن يختلف كليا عن ما تناولته الكتابة الإبداعية عند الآخرين.  

بركة ساكن كاتب له فلسفته الخاصة في الكتابة، فلسفته ركزت على الإنسان بشكل كلي، أي أن واقعيته تكمن في الإنسان، هذا الكائن الغريب بكل نشاطه ومشاكله وتفاصيله الذاتية والاجتماعية معريا ما يخفيه هو ( أي الإنسان)، وهذا التساهل الذي أبدى عليه فرضيات كتاباته أعطت نكهة مميزة في القبول والرضا بما يجري من حولهم، الإهتمام الذي لاقه إنسان الهامش أو ذلك الكائن المنسي من خريطة الدولة جعله يوقن الشرارة المصيرية التي في انتظار حياته، كما أن اللغة التي عرٌف بها الإنسان بصٌمته بالحقيقة والوجود والآخر في نفسه وانتجتْ من خلالها بلورة أخرى لمشروع كبير في تقدم المجتمعات، يقدس بركة ساكن الحياة الإنسانية بشكل كبير جدا وظل يدافع عنها بإنتظام واهتمام شديدين، فهو يركز على ان الانسان لكي ينهض ويكمل دورة حياته عليه أن يوفر له الحرية الاجتماعية والعدالة السياسية في الدولة وهو ما يعني أن الخلل الذي وشم صدر الدولة أضعفت الاحساس المعرفي وأجهدت الحرية وأعدمت العدالة الأنسانية لكي تتطور وتتقدم، الدفاع عن الإنسان ركيزة أساسية من الكينونة البشرية. 

  نلاحظ في كتابات بركة ساكن أنه لا يتناول الإنسان كموضوع وقضية فقط بل يقوم على صناعته بأسس جديدة، وهو برز جليا في جميع أعماله الروائية والقصصية، توظيفه السردي للمشكلات هي في الحقيقة محاولة تجميعية على شاكلة ثانية يسهل معها ترتيب الأشياء على الطريقة المناسبة ( مسيح دارفور، مخيلة الخندريس كمثال وليس حصر) .

الإنسان يظهر بوضوح في روايات بركة ساكن الكائن الضعيف المهمش والمظلوم تاريخياً وسلطوياً وثانيا إجتماعياً وإقتصادياً، شخوصه الروائية والقصصية يكشفون بوضوح التناقض الحياتي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي في البقعة التي يقطنونها ( الجنقو مسامير الأرض، سماهاني، الرجل الخراب )، وهو ما يعني أننا في بادي الأمر نوقن أو يلزمنا أن نفهم قبل خوض تجربة القراءة معرفة هذا الإنسان الذي لا يسير كما هي عليها الحياة الإنسانية، ويجعلنا ندرك مسبقا أن الذاتية المرسومة في هذا السياق يأخذ بُعد آخر عن ما تتضمنه الوقائع بصورة تكاد تكون أكثر نفورا ومقيتا وحنى لا يصعب معرفتنا على فكرة الإنسان في مخيلة الكاتب يجب ان نتسلح بقراءة التاريخ والثقافة معا على واقع الحقيقة المخفية. 

 رؤيتنا للإنسان وحياته تقف على خط فلسفتين معروفيتين وهما الوجودية والعدمية بعيداً عن المحاور الاخرى والأبعاد التاريخية في ما يختص به الإنسان في ذاتيته مع الذات والآخر، وهذا المحور الذي أقدم عليه بركة ساكن بالكتابة عنه يأخذ نبرة أخرى في أن نفهمه على الشكل المتاح، ويعيدنا إلى السياق التاريخي والمجتمعي لبلورة جديدة تسمح الوضوح حتى ندرك أننا أمام ظاهرة جديدة في فهمها بماهية الأوضاع وهذا القفز المعرفي والقيمي في القراءة والكتابة معا تحتاج إلى أن نلتقي النظرة عما تخفيه الكلمات واللغة معاً، أي أننا سنكون أمام تحدي آخر من نوع مختلف عما هو عليه كالنص مثلا حين يغلف بالغموض والاستعارة المكثفة، وهو الشيء الذي لا نجد عند بركة ساكن في كتاباته فهو يكتشف النص كما لو أنه يقوم بالغسيل، نرى بوضوح المشكلة ونفهم اللغة ونعرف مكنونها والسرد والجمال، ونخرج من قراءتنا بإدراك أن الإنسان المُعنى هنا هو ذلك الكائن الذي نكونه ونمَثله ونغمس جزء كبير من مصيره وتاريخه، في النهاية هو نحن في صورتنا الأدبي. 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة