18 ديسمبر، 2024 11:25 م

لماذا يركز المحور الشيعي بقيادة إيران على معاداة إسرائيل

لماذا يركز المحور الشيعي بقيادة إيران على معاداة إسرائيل

ينقسم العالم الإسلامي والعربي، بجانب تنوع ديني وعرقي، إلى طوائف إسلامية عديدة. هناك طائفتان كبيرتان تمثلان أكثرية المسلمين وهما السنّة والشيعة. لكن السنّة هم الأكثرية، وبحسب الكثير من المصادر يشكل السنّة أكثر من 85% من المسلمين، بينما يشكل الشيعة 10% أو أكثر بقليل. هذا الفرز له تأريخ طويل تبلور منذ بدايات الإسلام عقب وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). بإيجاز، بعد وفاة النبي، إجتمع معظم الصحابة، ومن بينهم أبوبكر وعمر (الخليفتان الأولان) في السقيفة (مكان بالمدينة)، وقرروا كيفية النظام السياسي الذي ورثته الإمبراطوريتان الأموية والعباسية، ومن ثم حتى أصبح العثمانييون الأتراك ورثة هذا الخط الممتد عبر قرون. على الجانب الآخر، وأثناء وفاة النبي، إنشغل إبن عمه علي بن أبي طالب مع بعض أقاربهما بتكفين النبي، وعليه، لم يشاركوا في المؤتمر الذي عقد في السقيفة، حيث تم تنصيب أبوبكر خليفة أول للمسلمين بتدبير من عمر وصحابة آخرين كانوا أصلاً من مكة. لم يرض علي والموالون له بنتائج المؤتمر، ورفضوا الإعتراف بها وما تمخض عنها من تشكيل للنظام السياسي الذي تزعّمه أبوبكر ثم عمر وبعدهما عثمان (الذي به تأسست الدولة الأموية). لذلك، أصبح علي هو أول معارض للخلافة الإسلامية التي تشكلت بعد وفاة النبي. واستمرت عائلة علي، وهي عائلة النبي طبعا، والموالون لهم، بمعارضة النظام السياسي على مر العصور والقرون. ومن أجل ذلك، دفع علي وعائلته أثمانا باهظة من حياتهم، حيث تمت إبادة معظمهم بطرق في غاية القسوة والعنف، وأكثرها بالإغتيالات (واستمر الوضع قامعا لأهل البيت إلى أن زالت الدولة العباسية في العراق، بعد منتصف القرن الثالث عشر الميلادي). لكن الموالون لعائلة النبي (سمّوا بالشيعة)، واصلوا المعارضة للأنظمة الإسلامية، وأحيانا شكلوا دولاً وأمارات قوية، لكن الهيمنة ظلت للدول السنّية. من الدول الشيعية تأتي الدولة الفاطمية الإسماعيلية (قضت عليها عائلة أيوب الكُردية)، الإمبراطورية الصفوية (أسستها سلالة من أصل كُردي ترجع إلى الشيخ صفي الدين الأردبيللي وكان فقيها شافعياً كُرديا)، وحاليا الجمهورية الإسلامية الإيرانية كأبرز محطات التتويج السياسي للشيعة في التأريخ.

إنشغلت الدول السنية كثيرا بالغزوات والصراعات مع الروم والفرس، ولاحقا أوروبا الصليبية ومن ثم الإستعمارية. إستمرت هذه الغزوات والصراعات منذ صدر الإسلام وإلى بدايات القرن العشرين، حيث سقطت الإمبراطورية العثمانية في أكتوبر عام 1923. هذا المسار كوّن رصيدا ضخما وغنيا للسنّة، رسّخ فيهم الإعتقاد، أنهم هم الخط الصحيح للإسلام والمقاوم للقوى الخارجية. لكن الشيعة، وبسبب القمع والإضطهاد الذي واجهوه من قبل الدول السنّية منذ العصر الأول للخلافة، وبسبب الصراع بين الجانبين السنّي والشيعي، لم يكن بمقدورهم أن يبنوا رصيدا غنيا مثل السنّة، في الصراع مع القوى الخارجية وخصوصا الأوروبية. وظل معظم الصراع الشيعي وحروبهم مع الداخل الإسلامي، وقليل منه مع القوى الخارجية. هذا الواقع ولّد عقدة حادّة لدى الشيعة، وأظهرهم لدى السنّة كجماعة متواطئة مع القوى الخارجية، مما أجبر الشيعة أن ينفوا بإستمرار هذه التهمة التي ترسخت في التأريخ. وفي مقابل هذا الواقع، وفي وقتنا المعاصر، وحيث يعاني المسلمون والعرب عموما الضعف والتخلف أمام القوى والدول الغربية، وجد الشيعة بقيادة إيران فرصة متاحة لتصحيح هذا المفهوم التأريخي عنهم. ومما ساعد في إنتشار هذا المفهوم المشوِّه لصورة الشيعة أمران. الأول، هو كون إيران فارسية وفي نفس الوقت مركز الشيعة عالمياً، ويعني أن لديها عداءا تأريخيا مع العرب على المستوى القومي، ومع السنّة على المستوى المذهبي. الثاني، هو تعاون إيران والشيعة مع أمريكا لإحتلال العراق في عام 2003. ففي هذا العام، تعرضت مقولة خميني “أمريكا الشيطان الأكبر” إلى سخرية شديدة، ومن ثم خفوت كبير أفقدها المصداقية على أرض الواقع. لذلك، فمنذ عام 2003، تحاول إيران ومعها الشيعة أن تصحح ما تعرضوا له من تشويه وسخرية، بسبب دعمهم أمريكا إحتلال العراق، وهو إحتلال عاد عليهم بالنفع، حيث سيطر الشيعة على النظام في العراق الذي دخل في نفوذ إيران.

هناك مسألة يجب أن ننتبه إليها وهي، أن مفهوم العيب أو العار، يشكل تأثيرا كبيرا في بنى وأوساط المجتمعات الشرقية والإسلامية. وإذا ما تحول أمرُ ما إلى ظاهرة إجتماعية أو عامة، فعدم الخضوع لها تعني إقصاء الرافض من الفضاء العام وما يندرج تحته من قبول و سلم و وئام. مثلا، يتغنى معظم المسلمين والعرب بالقضية الفلسطينية، وأنها في التداول الإعلامي والسياسي تشبه الترانيم في المعابد المقدسة. فمن يجروء على الوقوف ضد هذه الهيمنة السايكولوجية فيصرخ بالضد مع الصلوات في المعابد أثناء إقامتها، ليتعرض إلى الإغتراب في وسط متناغم ينبذه، وينعته بتهم كثيرة مثل الكفر، الخيانة، والعمالة للأعداء. من هنا، فإن الشيعة مهوسون جدا بإزالة التهمة التأريخية التي تشبه وصمة العار، لذلك نجد إعلامهم يتحدث بحماس مبالغ عن القضية الفلسطينية وما يجري في غزة حاليا، لأن القضية الفلسطينية أصبحت كالترانيم المقدسة في المعابد، حتى ولو كانت على أرض الواقع تشكل وبالا عظيما على شعوب المنطقة وقبل كلهم الفلسطينيين. وما دام الأمر على هذا النحو، فالكل يريد أن يستثمر في القضية الفلسطينية، وأغلب هذا الإستثمار يمر في قنوات النفاق الذي يزيد من محنة المنطقة وآلام شعوبنا.

ولكن هناك بعدا سياسيا ودوليا في هذه السياقات. فإيران، التي تعتبر اليوم مرجع الشيعة السياسي والعسكري، لها نفوذ قوي جدا في العراق، سوريا، لبنان واليمن مع أذرع قوية في دول أخرى في هذا المحيط المتجاور. إيران بنظامها الشيعي الحالي، تبلورَ في أعقاب الثورة الإيرانية التي عصفت بشاه إيران في عام 1979. وبما أن الشاه كان معروفا عند الإيرانيين، ولدى العرب والمسلمين بشرطي أمريكا، كان لزاما على الخميني الذي تزعم الثورة، أن يقدم نفسه على نقيض من مسار الشاه فكان الشعار المدوي لخميني “أمريكا الشيطان الأكبر.” فحدثت أزمة الرهائن في بداية الثورة الإيرانية التي أسست لعلاقة متأزمة بين إيران وأمريكا، في شد وجذب إستمر إلى يومنا هذا. وفي هذا السياق اتجهت إيران شرقاً، حيث الإتحاد السوفييتي، الصين والدول المناوئة للغرب، من أجل التأييد السياسي والإعلامي، ومن أجل تحقيق حاجة إقتناء الأسلحة في حرب الثمان سنوات مع العراق، وتحشيد القوة إقليميا. وبالرغم من إستفادة إيران من إسرائيل وأمريكا في الحصول على الأسلحة، إلا أن أوروبا أيضا لم تبخل على إيران بتزويدها بالأسلحة المطلوبة، ومن أجل ذلك ولأهداف أخرى أوسع، تغاضت أوروبا عن جرائم إيران التي ارتكبتها على الأراضي الأوروبية، مثل إغتيال زعماء المعارضة الإيرانية في فيينا (1989)، باريس (1991)، برلين (1992). وتعاظمت قوة إيران بعد إحتلال أمريكا لأفغانستان (2021) والعراق (2003)، لأن إيران كانت المستفيدة الأكبر. لكن التأزم والحساسيات في العلاقات بين الطرفين ظلت كما هي، وبلغت الذروة حين قامت طائرات أمريكية بقصف قاسم سليماني ومساعده في بغداد وقتلهما. إلا أن التأزم الأكبر أصبح كغيوم ثقيلة، تحوم السماء بين تل أبيب وطهران. فإيران هي راعية حزب الله في لبنان، وداعمة حركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين، وميليشيات وأحزاب شيعية في سوريا والعراق والحوثيين في اليمن. وتستثمر إيران مئات الملايين من الدولارات سنويا، من أجل دعم هذه الحركات الموالية لها. وعن طريق دعم هذه الحركات، تحاول إيران تحقيق أهداف عديدة منها:

أولا: فرض هيمنتها ونفوذها في المنطقة، عبر أذرع سياسية وعسكرية تلعب أدوارا مهمة في دول المنطقة.

ثانيا: فرض شروطها قدر الإمكان في ما يتعلق بسياسة المنطقة مع الأطراف المتنفذة والمهيمنة، مثل أمريكا وإسرائيل، وبدرجة أقل تركيا والدول الأوروبية. هذه الشروط تلبى لدى هذه الأطراف بما يخدم مصالحها، ومصالح إيران بالطبع كتحصيل حاصل.

ثالثا: تصدير أزماتها إلى خارج حدود إيران، للتغطية على أزماتها الداخلية الكثيرة، عبر تسخين جبهات عديدة في المنطقة تخلف كوارث كبيرة. وحين تكون هناك نماذج كارثية في المنطقة مثل العراق وسوريا واليمن وفلسطين، فإن إيران تبدو دولة مستقرة ومزدهرة بالمقارنة في هذا الوسط المتهاوي.

رابعا: تخريب أي مشروع سياسي وإقتصادي من شأنه المساهمة في إستقرار بلدان الشرق الأوسط، وتطويرها وإزدهارها، لأن ذلك يؤدي إلى تقزيم شأن إيران، وتحريض الإيرانيين ضد النظام الذي يقمع حرياتهم ويزيدهم فقراً وتخلفا.

خامسا: نشر المذهب الشيعي ذو التوجهات السياسية المتعصبة لنظام إيران، والمعادية لدول ومكونات المنطقة. إن نشر المذهب الشيعي يعطي قوة و زخما ثقافيا وإعلاميا للأجنحة والأحزاب التي تدعمها إيران في دول المنطقة. والتشيع هو وسيلة سياسية وليس هدفا أسمى للنظام الإيراني. ولو كان التشيع هدفا، لكان لزاما على إيران أن تقف مع الثورة السورية في عام 2011، لكي ينتشر التشيع على أوسع نطاق دون أي جهد أو عناء.  

سادسا: ترسيخ العلاقة مع روسيا والصين والإستفادة من صراعهما مع الغرب، لكسب الدعم في مواجهة المشروع الغربي في منطقة الشرق الأوسط. وفي هذا المجال، ساهمت أمريكا في تعزيز مكانة إيران السياسية والعسكرية في أكثر من مناسبة، مثلا، في عام 2003، حين أسقطت نظام صدام حسين وسلّمت العراق للأحزاب الشيعية الموالية لإيران، وفي عام 2011، حيث سمحت لإيران أن تلعب دورا كبيرا في دعم نظام بشار الأسد ضد الربيع العربي في سوريا، وفي عام 2017، حيث تواطئت أمريكا وبريطانيا في تسليم مدينة كركوك الغنية بالنفط لفيلق القدس الإيراني، بعدما كانت خاضعة لقوات البيشمركة الكُردية.

سابعا: الإستحواذ على القضية الفلسطينية، لتبدو إيران هي الراعية الوحيدة لهذه القضية، تزامنا مع إظهار دول المنطقة كمتواطئة مع إسرائيل أو خائنة مع القضية الفلسطينية التي تحولت في الذهن الجمعي للمنطقة إلى قضية مقدسة، بدأت تدريجيا تفقد مكانتها القداسية في العقدين الأخيرين وخصوصا بعد الربيع العربي (وتحديدا في سوريا: “قلعة الصمود أمام إسرائيل”!). وفي هذا المجال، ومن ضمن الأهداف المرجوة، تحاول إيران والشيعة تصحيح بعض المفاهيم التأريخية المشاعة عنهم، كتعاونهم مع القوى الخارجية ضد العالم الإسلامي.            

إن اللعب بالقضية الفلسطينية على المسارين الديني والسياسي (العلاقات الدولية) هو بمثابة ورقة التوت التي تغطي العورة الإيرانية إلى حين. لكن هذه الورقة ستسقط لا محال، والمسألة مجرد وقت. لكن الإنطباع الذي تركه التأريخ، أن الشيعة تواطئوا مع القوى الخارجية، من الصعب إزالته في الذاكرة الجماعية لتأريخ المنطقة. وسواء كان هذا الإنطباع صحيحا أم مغالطة تأريخية، فإن إيران وأذرعها هي التي ساهمت في ترسيخ هذا الإنطباع في المنطقة، بسبب سياسات خاطئة ومليئة بالخفة والتناقضات والشر الذي به تتبرم منطقة الشرق الأوسط منذ عام 1979 وإلى يومنا هذا. وسياسة معاداة إسرائيل تدخل ضمن هذه التناقضات التي نرى نتائجها اليوم في غزة، حيث الكوارث تترى على أهالي غزة، بعدما عصفت بمدنيين إسرائيليين لا ذنب لهم. إن محور إيران والشيعة، بعد التغيرات الدولية في أعقاب حرب أوكرانيا وتصاعد الصراع الصينيالأمريكي، أصبح يشكل خطورة ملموسة على إسرائيل بسبب نشوء أقطاب دولية جديدة، بدأت ترسم ملامح جديدة في العلاقات الدولية، حيث بدأت قبضة أمريكا ترتخي معلنة أن القطب الواحد في العلاقات الدولية بدأ يتلاشى، بعد أن ظل مهيمنا في العقود الثلاث الأخيرة. إيران التي تقود الشيعة ستحافظ على إمبراطوريتها القائمة، وإحدى دعائم هذا الحفاظ هو الوقوف ضد إسرائيل ومحاربتها (لأن إسرائيل محور مهم في التحالف الغربي)، مادام كانت هناك قوى دولية (روسيا والصين) تساند ظهر إيران كمناوئ لإسرائيل. ولا تملك إيران خياراً آخر سوى أن تلعب هذا الدور لأنها وقعت في هذا المحور بحتميات لا إرادة لها في تقريرها. ولكن الوقوف ضد إسرائيل سيكون بلا شك خاضعا لمتطلبات العلاقات الدولية، ومصالح إيران كمركز للشيعة في العالم، تحركهم من أجل إبقاء هذا المركز متقداً ومحفوظاً من خطر الإنهيار. وهذا السياق لا يبالي بالفلسطينيين إن كانوا بيادقاً أو ضحايا مجانية، تزيد من غلّة الآخرين، وتمدّ في عمر نكبتهم أنفسهم في سلسلة النكبات التي تعصف بأجيالهم.