في الحلقة الرابعة (والخامسة إن شاء الله) من بحثنا في المشاريع الإسلامية نناقش قضية رغم أهميتها حرص الجميع على تغافلها وهي (العلاقة بين المشروع الإسلامي (الشيعي) العراقي ومشروع ولاية الفقيه) الذي يحكم الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتلك قضية (رغم حساسيتها) لابد أن تكون واضحة للجميع ومن الخطاء المجاملة فيها لما لها من علاقة وثيقة بالمشروع الإسلامي العراقي وبمجمل الحراك السياسي فيه . ولا ادري ما السبب الذي يجعل القادة السياسيون الشيعة لا يتعمقون في طرح هذه العلاقة على مدار البحث العلمي وقد يتحرج البعض من مناقشتها رغم أهميتها .
ولابد في البداية من تحديد “فلسفة” المشروع السياسي السُني والشيعي.
ومن المعروف لدى المفكرين السياسيين الإسلاميين السُنة إن (النظرية السياسية الإسلامية) واحدة تمتد من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الخمسة بصفتها أول تطبيق عملي لها بعد وفاة الرسول وبصفتها التطبيق الأمثل الذي “يحتج به” في التنظير السياسي الإسلامي وما تلاها من تطبيقات سياسية ليس حجة ولكنه محسوب على الفلسفة السياسية الإسلامية وهكذا بالنسبة للدولة الأموية والدولة العباسية وما تلاها من دول لغاية الدولة العثمانية (راجع كتاب فقه الخلافة وتطورها للدكتور عبدالرزاق احمد السنهوري) مع تأشير نقاط الإختلاف قرباً أو بعداً قياساً على الخلافة الراشدة (الخلفاء الخمسة الراشدين) إضافة الخليفة الأموي عمر أبن عبد العزيز ؛ ولقد إستطاعت (النظرية السياسية الإسلامية) أن تواكب إلى حد كبير التغيرات والتطورات الحضارية التي حدثت طوال التاريخ الإسلامي. أما البحوث والدراسات الحالية فقد إقتصرت على مستوى التنظير السياسي المقارن وخصوصاً في الإقتصاد السياسي الإسلامي والعلاقات الخارجية وحقوق الإنسان والأمن الإجتماعي والدولة المدنية وفي ذلك مؤلفات كثيرة) .
حتى ما أصطلح عليه خروج عن الثوابت الإسلامية قياساً غلى التطبيق المثالي (الراشد) كان إجتهاداً بشرياً مبرراً من المنظور السياسي وليس الديني . بل إن تنوع التجارب الإسلامية أثرى النظرية السياسية ومنحها مرونة جيدة يحتاجها (الفكر السياسي) بشكل عام. وكان للصعود الإسلاميين إلى السلطة والدولة في الكثير من البلدان الإسلامية (ماليزيا ؛إندنوسيا؛ الباكستان؛ تركيا؛) وأخيراً في بعض البلدان العربية (المغرب وتونس ومصر) عبر المنافذ الديمقراطية شكل لهم تحدي حضاري و تعتبر (التجربة التركية من أعقد وانجح التجارب الإسلامية السياسية المعاصرة) مما أثرى ونشط الفكر السياسي الإسلامي المعاصر من جديد ولا زالت النقاشات والمعارك الفكرية دائرة بين التجديد والأصالة وبيت الإجتهاد والنص (النص والروح) وبين الإعتدال والتطرف وبين السلفية والإخوان وبين الدولة الإسلامية والدولة المدنية…
ومع هذا فإن كل تلك التجارب السياسية التاريخية المتنوعة في الحكم رغم ثرائها وتطورها التاريخي فهي غير ملزمة (من الناحية الأصولية الفقهية) بل إن الفكر السياسي الإسلامي يمكن له ان يتجاوزها كلها في نظرية جريئة طرحها الفيلسوف الدكتور محسن عبدالحميد (بما يمتلك من تخصص ديني عالي يؤهله للإجتهاد بهذا) تحت شعار (من الوحي إلى العصر) متجاوزاً كل الممارسات والتجارب والفقه السياسي (وغير السياسي) من بعد إنقطاع الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا وهذا يمنح النظرية السياسية الإسلامية أفقاً رحباً ومتسعاً من التنظير والتفكير الحر بما يناسب روح الإسلام ومتغيرات العصر (النظرية لم تأخذ حقها المناسب من الدراسة والتطبيق رغم أهميتها وابعادها بل إنها لو أخذت ما تستحقه ونوقشت بحيادية لأحدثت ثورة ليس من المنظور السياسي الإسلامي فحسب بل من المنظور الفقهي والتكوين الإجتماعي الإسلامي ولأسهمت في وضع أسس سياسية يمكن أن تسهم في إيجاد مشتركات سياسية لكل المذاهب والطوائف الإسلامية ) وهي تمنح المفكر السياسي الإسلامي فسحة كبيرة من حرية التفكير والإبتكار والتعامل الواقعي وتضعه في مواجهة مشاكل عصره وتحدياته وهو من أهم ما يحتاجه السياسي .
وأما في الطرف الثاني فإن النظرية السياسية الشيعية قائمة على إن الحكم بعد وفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم محصور بالإمام علي بن أبي طالب وابنائه من نسل فاطمة الزهراء سلام الله عليهم أجمعين؛ وإن الإمامة ركن من أركان الإسلام واجبة الإعتقاد وإن إختيار الخليفة ليس أمراً إجتهادياً بل هو موصى به من قبل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالأسماء : {الإمامة الركن الرابع من أركان الإسلام في المذهب الثني عشري :و هي خلافة عن النبوة ، قائمة مقامها في المهام و الصلاحيات إلا في تلقي الوحي الإلهي بلا واسطة .و الإمامة كانت بعد كل نبي و بالذات بعد النبي المصطفى محمد بن عبد الله ( صلَّى الله عليه و آله ) لكونها لطفاً من الله تعالى ، إذ لا بُدَّ و إن يكون في كل عصر إمام هادٍ يخلُف النبي في وظائفه من هداية البشر و إرشادهم إلى ما فيه الصلاح و الفلاح و السعادة في الدنيا و الآخرة ، فالإمامة استمرار للنبوة في المهام . ثم إن الإمامة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان النبي أو لسان الإمام الذي قبله ، و ليست هي بالاختيار و الانتخاب من قبل الناس . هذا و إن الأئمة بعد النبي محمد (صلَّى الله عليه و آله) هم إثنا عشر إماما نصَّ عليهم النبي ( صلَّى الله عليه و آله ) و ذكرهم جميعا بأسمائهم بصورة كاملة .}
ولقد إنتهت الإمامة بالإمام الثاني عشر (المهدي المنتظر) محمد بن الحسن بن على وصولاً إلى سيدنا الأمام علي بن أبي طالب عليهم السلام .
وتلك مسألة أصولية تحكم (النظرية السياسية الشيعية) إلا إن التحول الدراماتيكي الكبير حدث على يد (روح الله الخميني) حيث بعث الحياة في إحدى النظريات التي لم تجد لها صدى مؤثر داخل المذهب الإثنى عشري وهي نظرية (وكيل الإمام الحجة) والتي سميت (نظرية الولي الفقيه) والتي منحت صلاحيات الإمام الحجة إلى (الولي الفقيه) بل أكثر من ذلك حيث إعتبرها (الإمام الخامنئي) من أركان المذهب الإثنى عشري { ولابد أن تكون إرادته وصلاحيته فيما يرجـع إلى المصالح العامة للإسلام والمسلمين حاكمة على إرادة وصلاحيات عامة الناس عند التعارض. ولاية الفقيه في قيادة المجتمع وإدارة المسائل الاجتماعية في كل عصر وزمان من أركان المذهب الحق ألاثني عشري ولها جذور في أصل الإمامة. ومَن أوصله الاستدلال الى عدم القول بها فهو معذور، ولكن لا يجوز له بث التفرقة والخلاف.
رأي ولي أمر المسلمين هو المتَّبع في المسائل المتعلقة بـإدارة البلد الإسلامي وبالقضايا العامة للمسلمين، وكل مكلَّف يمكنه إتباع مرجع تقليده في المسائل الفردية المحضة. http://www.leader.ir/tree/index.php?catid=34 }
وهذا يعني ضمناً أن ولايته ليس على عامة الإيرانيين بصفته السياسية الحاكمة بل إن ولايته دينية ملزمة لعامة الشيعة في العالم بل هي مقدمة على ولاية مراجعهم المعتبرين في حال الخلاف وله المرجعية دون غيره من المراجع العظام في المصالح العامة للإسلام والمسلمين وهو المتَّبع في المسائل المتعلقة بـإدارة البلد الإسلامي ولابد من أن يرجعون إلى “إرادته”.
والسؤال الذي نحتاج إلى إجابة دقيقة عليه هو مدى إلزامية هذه “الفتوى” للأحزاب السياسية الدينية “الشيعية” العراقية ومن منهم يؤمن بولاية الفقيه؟ ومَن مِن تلك الأحزاب ملتزم بتقليد السيد الخامنئي ومن منهم لا يؤمن بهذه الفتوى بحكم تقليد مراجع آخرين لا يؤمنون بنظرية (الولي الفقيه) ؟ . وهناك سؤال أخر لا يقل أهمية عن الأول وهو مدى إلزامية مرجع الحزب الديني على أتباع الحزب ؟ (وتلك أسئلة لا أمتلك الإجابة العلمية الدقيقة عليها في الوقت الحاضر وأنا بانتظار إجابة الأخوة والأساتذة المختصين عليها ). وسنعود عليها حال الوصول إلى قناعة علمية مؤثقة إن شاء الله.
وفي الحلقة الخامسة إن شاء الله سنناقش تأثير (نظرية ولاية الفقيه) على المشروع السياسي الشيعي في العراق وسنسلط الضوء على طبيعة العلاقة السياسية بين (المشروع السياسي الشيعي في العراق والدولة الإسلامية الإيرانية)