26 ديسمبر، 2024 2:47 ص

منصات ها يكو لبلقيس خالد/ الجزء الثاني

منصات ها يكو لبلقيس خالد/ الجزء الثاني

منصات ها يكو لبلقيس خالد/ الجزء الثاني

اسماعيل ابراهيم عبد

 

 

 

هي إذاً أُسطورة المطر , المطر الذي جمع رذاذه ليصير قطرة دمع كبيرة تشهق من السماء لتتهاوى على الأرض , فترتوي بها شجرة تتفرع وتزداد خضرة وحنوّاً , يصيرها ظل يحمي دمعة العشاق , وتروي عنهم قصة بلد غص بالدمع حتى لكأن لا عشق موثق على جذوعها او تحت ظلالها . البلد يختزل عشقه بامرأة , فهي محتوى اساطيره كلها , وقد تروي بدمعها ودمها الحكاية الخالدة : تخلد الأرض والسماء بخلود الأنثى.                ج ـ مهنة نزيف ما ان تتهاوى الأمطارُ على الأرض حتى تسقي بمياهها الأرضَ , فتنمو النساء اسطورة بلاد .. ما ان تضع أولادها عند عتبة البلاد حتى يتساقطوا على الأرض , بينما أرواحهم تأخذ الدمع والماء والأمطار برحلة أبدية من الأرض الى السماء.. وتظل النساء تمتهن الخصوبة والولادة والنماء , فتتكاثر أرواح الشهداء الصاعدة الى السماء.. والمرأة تظل تنزف الدمع والدم والمطر , فاتحة الأيادي الى بياض غيمة دون احمرار! , إذ كلما :

 

[كلما تساقطوا..

 

امتهنت مشاعر النساء النزيفَ] ـ دقيقتان .. ودقيقة واحدة , هايكو عراقي , ص16

 

ثالثاً : لقمة لفم القصيدة الشاعرة بلقيس خالد تضع نفسها بديلاً عما على القصيدة من فعل , فتصنع لكل ومضة حدثاً , ثم في نهاية الحدث ينكشف الترابط الدلالي كقيمة معنى أساسية , تضع للعلائق الدلالية مبرراً منطقياً, فلسفياً اجتماعياً , يعكس عَبْرَهُ منظورَهُ القيمي والروحي والفني كنشاط بشري صائغ للوعي الإنساني بصورته الموجهة للدلالة المتناغمة مع سمو الضمير , أو المحتجة على ضياع السمو في الضمائر. لنتابع ..

 

أ ـ اللقمة الكبيرة يلاحظ على الومضة القادمة انها حال يحتفي بقيمة الآكل والمأكول .. بل انهما يتبادلان اللذة مع الشاعرة التي تجد نفسها قصيدة , ثوبها لغة تخبئ وراءها قيم قاسية , لها ترابط دلالي يخص نظرة الناس الى وظيفة الثوب التي لا تغادر معنى كون الثوب ستراً عن العري , وحجباً للنظر الى ذلك العري , والقصيدة او الشاعرة تؤكدان ذلك الفهم المجتمعي , فتتلذذان بقيمة ودلالة فضح الامتهان للجسد والعواطف والمعنى , كأنما الثوب لقمة القصيدة , والقصيدة جسد يبتلعه الثوب .. لنقرأ ونتأكد :

 

[لقمة لذيذة ..

 

يلتهمني

 

ثوبي] ـ دقيقتان .. ودقيقة واحدة ـ هايكو عراقي , ص28

 

ان نتيجة قراءة الومضة هي ان الآكل والمأكول يتفقان على ان مثل هذه اللقمة الكبيرة لقمة قميئة من حيث النفع الإنساني , وهي قميئة أيضاً كونها تبدل الكائن الإنساني بلقمة تختزل جسده وروحه. بمعنى ان الشاعرة تقدم الحال السلبي لتنبه الى ايقاف وظيفة الأستار عن عري المجسدات.                

 

ب ـ الفم الكبير ودرجاً مع القيمة المُنوّه عنها قبلاً فسنرى في الومضة القادمة ما يضخم حال الآكل القميء مع  حال المأكول المستغيث .. لنقرأ :

 

[المآقي .. تشبه كل فم..

 

ولا شبيه لها

 

في اللغة] ـ دقيقتان .. ودقيقة واحدة ـ هايكو عراقي , ص40.

 

المآقي التي تتسع لإبصار الموجودات (ذاتها) هي من تتسع لتصير فماً حامياً وحاوياً بشغف الآكل وقوة المأكول لكل قيمة جمالية , فهو يشرب الدمعَ ويبلل الثوبَ , ويشقق الجفنَ , ويحفل بالقول من  اي نوع كان . هو فم من لغة ألغتْ بلاغتها حياء وخجلاً من دمع البلاد المأسوف على فمها المقهور بقيمة القمع وتشتيت لغة الجمال التي توحد الأحلام والمستقبل والرؤى .

 

إذاً ستكون المآقي فماً للكلام عالي الصوت .. ستكون المآقي فماً للصرخة المستغيثة , وللاستغاثة الثائرة على نواميس لغة الخضوع. 

 

رابعاً : ظلان للعتمة أهمية النور حين تمنح للدواخل قدراً من حرية التخيل والتحكم بالصورة المتحولة من وجود الى آخر , لنتابع .

 

أ ـ الظل الأول انه الظل الأكبر الذي بشعاعه يفوق الشمس , انه الليل الذي بتفاصيله تختبئ الأشكال فتضيع أبعادها , وتحتار الأشياء كيف تستقبل أقدامه , التي تدفع الأبواب وتحطم الحجب , فتثقب الوجود كله ليصير جوفاً لا يعرفه غير ظل يطل من علو الخيال الى مآل اللغة , فيوقف أقدام الليل ويحاسبها ويأمرها ان تتطهر بالماء وتدخل الى ما بعد الأبواب جالبة معها الخير , الذي استعارته من الغيم تلقيه على الأرض فتكون طهارة الماء بالتراب , وطهارة التراب بليل البلل.  

 

[أيها الليل

 

لا تتحير قبالة بابي

 

أمسح من الغيوم قدميك

 

وأدخل..] ـ دقيقتان .. ودقيقة واحدة , هايكو عراقي , ص48

 

توضح ومضة الهايكو أعلاه ما يؤكد بأن الليل الوارد هنا ليس ليلاً انما عتمة مضيئة لدواخل الشاعرة التي تحلم ببهاء الغيم يظلل الأرض بالفيء , والعقل ببلل المعرفة , والمعرفة بخير الاكتشاف!.

 

ب ـ الظل الثاني الظل الثاني عتمة للرفاهية فهو عتمة الحسد على لا شيء , وعتمة الظل حقيقية : 

 

[يحسدونه بناؤو الأسيجة :

 

صباغ الغرف يحتكر الفيء] ـ دقيقتان .. ودقيقة واحدة , هايكو عراقي , ص56.           عتمة الرفاهية سخرية حادة الوقع , كونها تخص أخص وأقل حق للكائن البيئي , ولأن الانسان من عناصر البيئة فما يوفره الظل أقل مما يتوفر لصرصار.. من هذه الحال تصير عتمة (الفيء) عتمة لدواخل من يفكر بالعدالة بين قوى العمل وقوى المتحكمين بالعمل.                إذاً ستكون العتمة اضاءة للضمائر الحية , يعنيها ان توفر الكرامة للكائنات كلها بحسب حاجتها لا بحسب قدرتها!.

 

خامساً : تعادل ان التعادل في مهمة تشكيل حال القول الشعري يستثمر عدة منافذ للتحقق , منها /

 

أ ـ الحركة العكسية في الحركة العكسية تكون السماء فضاء لثوران الأرض , وقد تكون الحركة هذه متعادلة تماماً . مثلا القفز الى الأعلى يعادل الهبوط الى الأسفل , ونزول قطرات المطر يعادل تماماً مقدار وقوة ومسافة ومساحة تبخرها الى الأعلى :

 

[ما أن تلامس الأرض

 

تقفز..

 

هل تريد

 

العودة الى السماء

 

قطرات المطر؟] ـ دقيقتان .. ودقيقة واحدة , هايكو عراقي , ص60

 

ب ـ قوة الركض يكون التعادل في قوة الركض والجريان , وبين العري والاستحمام , والطفل والبطة .. ومضة الهايكو القادمة تحتمل الجود بقوة ركض متعادل كالذي افترضنا وجوده في :               

 

[يبحث النهر عن وليمةٍ،

 

طفلٌ عار ، ركض خلف بطةٍ

 

شاءت أن تستحم] ـ دقيقتان .. ودقيقة واحدة , هايكو عراقي , ص66

 

ج ـ قدرة المخالفة هذه القدرة تعمد الى انشاء موازنة من عوامل مخالفة الثيمات التي تؤدي فعل المؤالفة القيمية, فاللسع تقوم به النحلة والفراشة ويفترض ان يقابله الردع والتجهم , لكن ذلك لم يحدث انما الذي يحدث هو التوازن البيئي والشعري والقيمي عبر زهرة الأقحوان وابتسامتها المتسامحة , وفي هذا توجيه ذوقي وانساني مستقى من القيم المسيحية في الصفح عن المسيء حتى يخجل من اساءته.    

 

[تلسعها النحلةُ والفراشةُ

 

وتبقى مبتسمةً

 

زهرةُ الأقحوان] ـ دقيقتان .. ودقيقة واحدة , هايكو عراقي , ص70

 

سادساً : أرواح من صمت أرواح الصمت هي أقوال صارخة صادحة معللة , مفتتة للمآخذ الانسانية ببوح متحرر من عصمة اللغة , وفساد الذائقة , وكيد التعبير . انها أرواح من ثلاثة أنساق للصمت المتمرد , هي :                  

 

أ ـ صمت اللغة

 

كيف تصمت اللغة؟

 

انها تصمت حين لا تحيل الى معنى او غرض يهم أحداً , وتصمت اللغة حين تصبح رموزاً مبهمة كلياً , وتصمت اللغة حين تكون رطانة علم غير انساني مثلما يحدث لخرسان الهندسة الوراثية , الذين يتكلمون بإشارات الأصابع غير الناطقة :

 

[أصابعه تتلاسن مع المتكلمين: ولدٌ ضحية الهندسة الوراثية] ـ دقيقتان .. ودقيقة واحدة ,               هايكو عراقي , ص85

 

ب ـ صمت الكتابة كيف تصمت الكتابة كونها صمت ظاهر في صورة التدوين؟.

 

نرى ان الكتابة تصمت بفعلين الخوف والغفلة :

 

ـ الخوف من ان يُساء فهمها , والخوف من ان تُرفض معانيها .

 

ـ اما الغفلة فهي غفلة القول في غير أوانه , وغفلة عدم اجادة الافصاح البليغ , وغفلة ان               لا تكشف الكتابة هموم الفرد والجماعة . جُل هذه الثيمات نجدها في الآتي ـ بحسب زعمنا :                [اقرأ بصمت ،

 

صمتاً

 

أكتبه الآن] ـ دقيقتان .. ودقيقة واحدة , هايكو عراقي , ص98

 

ج ـ صمت الهايكو الهايكو يصمت لأجل ان تتحدث الأفكار والإشارات والفلسفة , فهو صمت المستعين بالجمال لتفادي ما يخرب البيئة والإنسان .. لنقرأ ونتأكد :

 

[ليس فكرةً ،

 

الهايكو مشهداً

 

تلمسه عيناي

 

في ظاهر الأشياء والباطن] ـ دقيقتان .. ودقيقة واحدة , هايكو عراقي , ص102

 

الهايكو , المشهد , يغطي نسق فكرة الجمال , وفكرة الجمال تبرر فلسفة الوجود الفاضحة لما في باطن الأشياء وظاهرها .. فضلاً عن ان الهايكو صورة تشهدها العين قبل العقل والعقل بعد الفهم , ثم يصير القول مشهداً حاملاً للإشارات التي يُستدل بها على معين الخير في كل كائن.

 

الهوامش

 

  1. بلقيس خالد , ديوان (دقيقتان .. ودقيقة واحدة) ـ هايكو عراقي ـ  , دار المكتبة الأهلية ودار الرافدين , العراق , البصرة , 2019

…………………………

جريدة الدستور العراقية/ 22/ تشرين الأول/ 2023

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة