22 سبتمبر، 2024 7:29 ص
Search
Close this search box.

“حيونة الإنسان”.. ملامح عن قمع الإنسان

“حيونة الإنسان”.. ملامح عن قمع الإنسان

مراجعة- حواس محمود                

يقدم الشاعر والكاتب المسرحي السوري الراحل ممدوح عدوان في كتابه ” حيونة الإنسان ” ملامح وصور كثيرة عن قمع الإنسان تجاه أخيه الإنسان ويحاول تسليط الضوء على الحالة التي وصل إليها الإنسان المعاصر من انحداره عن مستواه الإنساني عبر عمليات التعذيب والقتل والتشريد والإساءات المعنوية العديدة الأمر الذي جعل من المؤلف يستغرب ويستهجن الممارسات التي تصدر من الإنسان تجاه أخيه الإنسان لا تليق بالحيوانات – وكأنها أمور بديهية ومسلم بها –

ممدوح عدوان يرى أن عالم القمع ، المنظم منه والعشوائي الذي يعيشه إنسان هذا العصر هو عالم لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته ، بل هو عالم يعمل على ” حيونة ” الإنسان ( أي تحويله إلى حيوان ) ومن هنا كان عنوانه لهذا الكتاب ، وبحسب – عدوان – لعل الاشتقاق الأفضل للكلمة هو ” تحوين الإنسان ” ولكنه خشي ألا تكون الكلمة مفهومة بسهولة

آثار التعذيب بين الضحية والجلاد :

يرى المؤلف انه إذا كان بعض الواقعين تحت التعذيب يريدون كتم المعلومات أو الصمود ببطولة فان كثيرين آخرين لا يستطيعون الصمود فيقدمون اعترافاتهم ومهما بعدت المسافة بين الصامدين والمستسلمين فأنها لا تكون كبيرة لأن للجسم البشري حدوداً لاحتمال الألم ، وأول دفاع غريزي يقوم به هذا الجسد هو الإغماء لكي ينعدم الإحساس بالألم ونهايته -الموت طبعاً -، وللجلادين أساليبهم في ايقاظ هذا الإحساس مثلما أن لهم أساليب متقنة لتجنب موت الضحية ، وهناك من يقعون تحت التعذيب وهم أبرياء وجاهلون بما يحقق الجلاد فيه وهؤلاء يكتمون المعلومة ببساطة لأنهم لا يعرفونها مثلما أن هناك من يستمر في التعذيب وهو لم يعد يريد معلومات ، يريد أن يذل الطرف الآخر أو أن يتسلى .

وسواء خرج ضحايا التعذيب أصحاء أم مشوهين جسدياً يحاول المؤلف معرفة ما الذي يحدثه هذا التعذيب فيهم من الداخل ؟ وجدير بالإشارة أن الجلاد ( الذي يمارس التعذيب ) ليس هو في كثير من الأحوال من يطرح الأسئلة ، انه يقوم بالتعذيب فقط وعند وصول الضحية إلى الاستسلام يتم أخذ هذه الضحية إلى حيث تدلي باعترافاتها أمام المسؤول المعني الذي ربما حضر ” حفلات ” التعذيب وربما لم يحضرها ولكن ما الكيفية التي يقوم بها الجلاد بتنفيذ عمله ولماذا ؟ وبماذا ينعكس عليه ؟

يشير المؤلف إلى محاضرة د. لينغ بعنوان ” الواضح ” وهي منشورة في كتاب ” ديالكتيك التحرر ” بالإنكليزية يشرح لنا لينغ التجربة التي قام بها الدكتور ستا نلي ملغرام في جامعة بيل الأمريكية ( وهي ذاتها التجربة التي قدمها فيلم ” أنا المقصود بايكاروس ” /I FOR I Carus/ من إخراج هنري فونويل وتمثيل النجم الشهير ايف مونتان )

تجري التجربة على البشر بهدف الوصول إلى جوانب عن السؤال التالي إلى أي مدى يمكن أن يصل الإنسان في إيقاعه الأذى بإنسان آخر أو تسبب الألم له وهو الذي لا تربطه به أي رابطة سلبية أو ايجابيه

( وحتى معرفة مسبقة أو حب أو حقد أو مصلحة ) ؟

يكون الجواب في الفيلم ان اكثر من 60% من سكان الويلات المتحدة الأمريكية يصلون إلى أقصى الحدود المفترضة ( القتل ) ” طالما هناك سلطة يحترمونها أو يخافونها وهي التي توجه إليهم الأمر ” ومن ثم تتحمل المسؤولية القانونية أو الأخلاقية وقد بلغ المقدار عند الدكتور ملغرام /26/ من اصل /40/ أي مقدار 65 % ويعلق بطل الفيلم ايف مونتان قائلاً ” إذا فان ثلثي السكان في مجتمعنا ، المتحضر الذي يدعي الديمقراطية مستعدون لتنفيذ أي أمر مهما كان شنيعاً ”

وقبل ان يحاول أحد ان يتخلص من عبئ هذه النتيجة المخيفة بالقول كما جرت العادة ان هذه هي أمراض المجتمع الرأسمالي ، سارع المؤلف إلى القول ان المقدار قد يكون عندنا وعند غيرنا أعلى مما هو عليه في الويلات المتحدة الأمريكية.

المجازر الجماعية هي القتل الأكثر شمولية من ( الأذى الذي يوقعه إنسان بإنسان آخر ) وهي اكثر ما يخافه الإنسان في الحروب وبخاصة بعد استسلام المقاتلين لأعدائهم أو دخول الجيوش إلى المناطق المدنية العادية .

ويتساءل المؤلف بمرارة كبيرة أشبه بصرخة احتجاج قوية ضد الظلم الإنساني حين يتحول التعذيب إلى ما يشبه المتعة والتلذذ : فماذا نقول حين يكون العبث والتشويه بالجسد الإنساني الحي ؟ وحين يكون الجسد لإنسان ضعيف واعزل ومسالم ؟ وماذا نسميه من يضع انساناً مقيداً أو عاجزاً أمامه ثم ينهال عليه ضرباً وتجريحاً وتقطيعاً ، ليس في مباراة للفوز بل في زنزانة حين يكون معتقلاً وبين يدي من نسميه الجلاد أو خبير التعذيب .

 

 

ولادة الوحش بين الجلاد والأضحية :

 

يهدف التعذيب دوماً (سيان كان يريد الانتقام أم انتزاع الاعتراف و المعلومات أم لعقوبة ) إلى تغيير هوية المعذَّب من متمرد إلى خاضع على الأقل ، والنموذج الأوضح هو جلد “كونتاكونتي” لقبول اسمه الجديد في “الجذور” ثم ان بتر قدمه لكي لا يفكر في الهرب من حالة العبودية والاسترقاق التي يحياها .

ولكن التعذيب بالترويج يتسبب في حدوث تغيرات في المعذِّب ذاته إضافة إلى تغييرات التي تحدث للمعذَّب فقد كان القضاء على الخصم يتم بالقتل ولكن من خلال التعذيب ومن خلال التخويف ، بمعنى تحذير الناس من ان يفعلوا ما يعرضهم للتعذيب ، ويتم قتل الخصم أو الآخرين من الداخل من دون قتله أو قتلهم جسدياً .

فالبعد الاجتماعي للتعذيب هو ” العبرة ” ان المسألة تبدأ بفرض الإرادة وممارسة السلطة على المعذَّب ثم على الآخرين من خلاله ومن أجل ذلك كانت مشاهد التعذيب تتم أمام جمهور يجب أن يصبح المعذب – بفتح الذاء –

” عبرة لمن يعتبر ” أي ان المطلوب هو إرهاب الناس كلهم وإجبارهم على ان يقوموا بأنفسهم باختزال حياتهم ونواياهم وتطلعاتهم غير المرغوب فيها لكي لا يواجهوا المصير ذاته .

السلبطة السلطوية :

يتناول المؤلف موضوعاً هاماً جداً يتعلق بمعاناة الملايين من الناس وبخاصة في العالم العربي والإسلامي الذين يتعرضون للسلبطة السلطوية كما يسميها المؤلف فيقول : إذا كان المتنمر مدعوماً بسلطة قمعية يستخدمها لإثارة الذعر ويتحرك في ظل الذعر منها ، استطعنا ان نتصور الحالة التي يعيش فيها الناس كلهم تحت رحمة هؤلاء المتنمرين ، انهم رجال السلطة سلطة الدولة أو سلطة النـزعة الاجتماعية السائدة ذوو الصلاحيات غير المحدودة ،وهذا يرتبط حتماً بنظرة احتفاء إلى الطرف الآخر الأقلية الدينية أو العرقية أو أبناء البلد في ظل الاستعمار أو المواطنين في ظل الحكومات القمعية فالصلاحيات المتطاولة والتي تجتاح الحياة اليومية والأمن اليومي والحق الوظيفي تفعل فعلها في البلطجي ” المتنمر ” ذاته فتجعل شراهته للعنف تزداد ، هنا يرى نفسه بلطة لا شيء يقف في وجهه ولا أحد يستطيع مساءلته ، ولذلك فهو يستبيح البيوت والحارات والمنتجعات ويرى من حقه التطاول على الأعراض ويحمي التهريب أيا كانت المواد المهربة .

وبدل أن يكون الجلاد شخصاً يصبح مجموعة ، وبدل ان يكون وظيفة يصبح واجباً وممارسة اجتماعية ويومية، وبدل ان يكون التعذيب والإهانة في السجن يصبحان في الحياة العامة ، وبدل ان تكون عقوبة القاضي أو الحاكم هي التي يجب ان يحسب حسابها تصبح عقوبة المزاج اليومي والمتبدل والمتسلط والمتحكم لدى المتنمرين هي التي يرزح المجتمع تحت وطأتها ، ولكي لا يبدو النشاز الفردي يجب أن يتحول المتنمر الفرد إلى ظاهرة ولو مفتعلة ، ولهذا يتم إشراك اكبر عدد يمكن تجنيده في عملية الممارسة القمعية وهنا لا يعود السجن جدراناً وأبواباً مغلقة بل يصبح مجتمعاً بأكمله ويصبح الأمن الشخصي في البيت هشاً هشاشة أمن السجين في زنزانته .

ويصل المؤلف إلى الإشارة لنقطة هامة قلما تمت الإشارة إليها من قبل الكتاب والباحثين وهي ان من أحد أسباب الحروب الأهلية دور السلطة في إشعالها إذ يقول :

” ولنا ان نتصور أن من أبرز أساليب الاعداد للحروب الأهلية إقناع كل طرف ان الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى خطر على الوطن أو الدين أو المجتمع “.

الدولة القمعية :

يرى المؤلف ان الدولة القمعية هي دولة تتحكم بها فئة ( حزب ، عشيرة ، طائفة ،طبقة ) لا تحقق مصالح السواد الأعظم من الناس بل تحقق مصالح من تحكم باسمهم أو مصالح جزء منهم لسبب ما ، ومن الطبيعي ان يميل الناس إلى الاعتراض عليها وحين تكون هذه الفئة الحاكمة عاجزة عن تحقيق مصالح الغالبية العظمى من الناس ،كما تضطر إلى الإعلان اعلامياً ، لان هذه المصالح متناقضة مع طبيعة هذه الدولة ووظيفتها فان الحكم يلجأ إلى منع الناس من إعلان شكاواهم أو إيصال مطاليبهم بالتعبير السياسي المعروف بوساطة الأحزاب والمنظمات والنقابات ، وحتى بالتعبير الثقافي وكذلك تضبط حتى المواعظ الدينية ، وعندها تزداد نقمة الناس فتزداد مخاوف السلطة ، الأمر الذي يؤدي إلى تشديد قبضتها وبالإرهاب ( السجن والتعذيب والقتل والتسريح من العمل ومنع فرص العمل والتجويع ومنع التنظيمات وخنق حرية التعبير ) تحاول ان تجبر الناس على القبول بالأمر الواقع أو التأقلم معه أو السكوت عنه مع تجاهل رغبتها في ان يؤمنوا به ،ولو إلى حين .

ولأن السلطة تعرف أن الناس لا يمكن أن يختزلوا بهذه الطريقة القسرية اختزالاً نهائياً فانها تزيد من دائرة المستفيدين من فتاتها لكي تحولهم إلى جلادين أصحاب مصلحة في حماية النظام الذي يطمعهم هذا الفتات ، انهم يصبحون أدوات قمع يمارسون عملهم بحمية فأنهم يدافعون عما يستفيدون منه .

هذا ويعتبر الكتاب الذي بين يدينا كتاباً هاماً جداً في مرحلتنا الراهنة ( وإضافة هامة للمكتبة العربية ) خاصة وان مجتمعاتنا تعاني من آفة العنف والتطرف الإرهاب الذي نتج عن عوامل عديدة من أبرزها قمع الدولة أو إرهاب الدولة التي أنتجت بدورها ارهاباً أخر هو إرهاب الأفراد أو المجموعات التي تتستر تحت لباس الدين أو الايديولوجيا أو الطائفة أو القومية وهي حالات مرضية لن تنفع الأمة بشيء بل تضرها ضرراً بالغاً وشديداً وهي ذريعة القوى الكبرى للقيام بالتدخلات الخارجية وشؤون وشجون بلداننا .

لقد كان المؤلف الراحل ممدوح عدوان يدق هنا ناقوس الخطر فهل استجاب له صناع القرار وأصحاب الرأي والمشورة ؟! .    

اسم الكتاب : حيونة الإنسان

المؤلف : ممدوح عدوان

الناشر : دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع 2019 .

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة