ابتدأت مسيرة تشيخوف الابداعية عام 1880 , عندما انتقل من مدينته التي ولد فيها وهي –تاغنروغ في جنوب روسيا الى موسكو واصبح طالبا في الكلية الطبية بجامعة موسكو, وقد نشر في سنوات دراسته تلك كثيرا من القصص القصيرة في المجلات الفكاهية الروسية , التي كانت تصدر آنذاك, وهي مجلات من الدرجة الثانية ان صح التعبير , وكان الهدف من النشر هو الحصول على بعض النقود من اجل تذليل متطلبات العيش ليس الا , اذ ان وضع العائلة كان عندها صعبا. وتمضي الايام و السنوات ويصبح تشيخوف كاتبا معروفا ولامعا في بلده روسيا وفي ارجاء العالم ايضا ,وهكذا بدأ مؤرخو الادب والنقاد بالبحث عن كل ما قام بنشره طبعا في مسيرة حياته, وعندئذ رجعوا الى مجلات الدرجة الثانية تلك والتقطوا منها القصص القصيرة التي كتبها ونشرها هناك في سنوات الدراسة الجامعية و اعادوا اصدارها ضمن الاعمال الكاملة لنتاجاته, ونتناول في مقالتنا هذه واحدة من تلك القصص بالذات وهي بعنوان – ( فرحة ) و التي نشرها تشيخوف في عام 1883 عندما كان لا يزال طالبا في كلية الطب بجامعة موسكو, اي في بداية مسيرته الابداعية , ونحاول – عبر قراءة تحليلية وتاريخية لها – ان نحدد قيمتها الفنية وايجادملامح العناصر التشيخوفية – ان صح التعبير – في ثناياها , و نتكلم عن موقف الكاتب نفسه والنقد الادبي تجاهها فيما بعد .
نشر تشيخوف قصته القصيرة ( فرحة ) في العدد رقم 3 لشهر كانون الثاني / يناير 1883 لمجلة ( زريتل ) ( المشاهد ) وكانت بعنوان – ( شرف عظيم ) وبتوقيع تشيخونتيه , وهو أحد الاسماء المستعارة العديدة لتشيخوف في بداية طريقه الابداعي , وقد أجرى عليها فيما بعد تصحيحات في الاسلوب وتم تغيير العنوان ايضا عندما قرر تشيخوف ان تدخل هذه القصة القصيرة ضمن مجموعته القصصية التي أصدرها الناشر الروسي ماركس في ثمانينات القرن التاسع عشر في مدينة بطرسبورغ , والقصة هذه هي واحدة من تلك القصص المبكرة التي أدخلها تشيخوف نفسه فيما بعدضمن مؤلفاته المختارة التي أصدرها لاحقا , وكل هذه الوقائع تؤكد بلا شك اعتزاز تشيخوف بهذه القصة القصيرة , رغم انه كتبها عندما كان طالبا في الكلية ومن اجل كسب بعض النقود لتمشية امور الحياة اليومية آنذاك ليس الا .
مضمون او حدثتلك القصة بسيط جدا كما هو حال كل القصص القصيرة المبكرة لتشيخوف ذات السمات الهزلية, والتي يمكن حتى ان نسميها ب – ( اللامضمون ) او ( اللاحدث ) , اذ يدخل البطل في الساعة الثانية عشرة ليلا الى شقة اهله وبيده جريدة ويوقظ جميع من في البيت ليخبرهم بان احدى الصحف كتبت عنه خبرا وانه بالتالي اصبح معروفا ومشهورا ( في روسيا كلها ), ويؤنبهم لانهم جهلة و لا يطالعون الصحف ولا يتابعون ما تنشره من انباء عن المشاهير, وعندما يقرأ والده الخبر المنشور في زاوية اخبار الناس في تلك الصحيفة امام أفراد كل العائلة المندهشين, يتبين انه يشير الى ان صاحبنا سقط تحت عجلات عربة امس لانه كان سكرانا مع صديق له ولم يصب بأذى, وهكذا تنتهي القصة بخروجه من بيت عائلته مسرعا وبيده الجريدة كي يذهب الى بيوت الاقارب والاصدقاء الآخرين ليعلمهم بذلك الحدث الذي اصبح نتيجته مشهورا ومعروفا , لأن الصحف تنشر فقط اخبار المشاهير.
كتب أحد الباحثين الروس قبل فترة مقالة طريفة عن قصص تشيخوف المبكرة الهزلية تلك بعنوان جميل وهو –( افكار جديٌة حول قصص تشيخوف الهزلية ), وجاء فيهاجملة اود ان اتوقف عندها قليلا , وهي, ان– ( الكاتب كان يضحك أما القارئ فكان يبكي ) , واريد ان أقول لهذا الباحث باني متٌفق معه فيما ذهب اليه وهو ان الكاتب الشاب والطالب في كلية الطب بجامعة موسكو تشيخوف كان يضحك ويسخر فعلا عندما كتب هذه القصة وغيرها من القصص الهزلية , ولكني اريد ان اطرح عليه السؤال الآتي – ( هل ان القارئ هنا كان يبكي ؟ ), و اجيب عن هذا السؤال قائلا , باني شخصيا – كقارئ – لم أذرف اي دمعة عندما قرأت القصة القصيرة تلك , بل ضحكت وحتى قهقهت مثل مؤلفها تشيخوف , ضحكت من الموقف الهزلي هذا, وضحكت من تفاهة هذا الشخص وضحالته , وهكذا تحول ضحكي بالطبع الى شجب لهذه الضحالة والتفاهة التي يمكن ان تحدث في مسيرة الحياة اليومية لاي انسان في كل المجتمعات وبغض النظر عن سمات وطبيعة تلك المجتمعات كافة, والشجب غير البكاء – في رأي المتواضع – , اذ اني أرى ان الشجب أعمق وأعلى من البكاء,وهذا ما حققه تشيخوف في قصصه تلك , وربما , او على الاغلب , حتى دون تخطيط مسبق من قبله , بل كان كل ذلك تعبيرا طبيعيا عما يكمن في أعماقه من أفكار . واود ان اشير هنا الى انه يوجد تعبير معروف في تاريخ النقد الادبي الروسي في القرن التاسع عشر يرتبط بالكاتب العظيم غوغول ونتاجاته الابداعية وهو – ( ضحك عبر الدموع ) , و يوجد مثل هذا التعبير بلغتنا العربية ايضا قبل مئات السنين من ميلاد التعبير الروسي هذا , واقصد به طبعا قول المتنبي العظيم الذي ذهب مثلا – ( ضحك كالبكا ) , ولكن كل ذلك لا ينطبق على تشيخوف وابداعه. ضحك تشيخوف لا يؤدي الى البكاء , بل الى المرح الحلو الفتٌان , المرح الجميل واللطيف , وقد شاهدت قبل فترة قصيرة– وبامعان – تسجيلا كاملا لحفلة فنية في احدى المدارس المتوسطة الروسية , حيث جرى تقديم تلك القصة القصيرة لتشيخوف على خشبة المسرح المدرسي من قبل التلاميذ , ورأيت كيف كان التلاميذ يضحكون ويقهقون ويصفقون ويتمتعون وهم يشاهدون احداث هذه القصة ويتفاعلون معها, ومن المؤكد طبعا , ان ضحكهم وتصفيقهم جعلهم اعلى واسمى من تفاهة وضحالة ذلك الحدث , وتذكرت ما قرأته مرة في مقالة البروفيسور الدكتور كاتايف – رئيس قسم تاريخ الادب الروسي في القرن التاسع عشر بكلية الآداب في جامعة موسكو ( وهو من أبرز المتخصصين الروس في ادب تشيخوف بالوقت الحاضر ) حول هذه القصة عندما أشار الى انها تجسٌد المحاولات الاولى لفلسفة تشيخوف الابداعية وتطبيقاتها , وأشار كاتايف ايضا الى ان هذه القصة يمكن (مثل حال الكثير من قصص تشيخوف القصيرة الاخرى ) ان تتحول الى مسرحية كوميدية ببساطة, وفي هاتين النقطتين من هذه القصة بالذات ( اي التعامل الفلسفي في ثنايا الابداع الفني اولا , وامكانية مسرحة القصص القصيرة ثانيا ) نرى بوضوح بدايات سمات عبقرية تشيخوف وخصائصه , و التي ظهرت في قصصه المبكرة,و تبلورت وبرزتوتجسٌمت فيما بعد اثناء مسيرته الابداعية لاحقا , و هي التي استطاع الكاتب المسرحي العراقي المعروف عادل كاظم ان يفهمها و يستوعبها ويتعامل معها تطبيقيا قبل اكثر من خمسين سنة ويحول قصته ( المنتقم ) الىمسرحية ( انظر مقالتنا بعنوان عادل كاظم وتشيخوف ) , وكذلك قام بذلك كل من الفنان العراقي الكبير بدري حسون فريد والفنانة العراقية القديرةعواطف نعيم , عندما تعاملا مع قصص تشيخوف الاخرى ( انظر مقالتنا بعنوان تشيخوف في العراق ). ختاما أود ان اشيرهنا الىانالمترجم المبدع المصري الكبير وزميلي في الدراسة بكلية الاداب في جامعة موسكو وصديقي الحبيب الدكتورابو بكر يوسفقد افتتح مختاراته الرائعة والشهيرة في اربعة مجلدات لترجمات مؤلفات تشيخوف الى العربية بهذه القصة القصيرة بالذات , ولا اريد ان احمٌل الفرضيات اكثر من طاقاتها كما يقال, وبالتالي لا اريد ان أستنتج ان ذلك التسلسل في القصص لم يكن عفويا, ولكنني استطيع ان اقول– مع ذلك – ان هذا التسلسل لقصة ( فرحة ) في تلك المجلدات ينسجم ويتناغم ويتطابق مع روحية هذه المقالة الوجيزةحول قيمة ومكانة القصة القصيرة تلك واهميتها ,و يؤكد الاستنتاجات التي أشرنا اليها.