الفقراء ممن ينتسبون الى آدم العاري إلا من دمعة حزن خسارة الفردوس ، هم أكثر كائنات الأرض من تخفق قلوبهم في انتظام ، ولايجزعون من شيء في هذا العالم سوى شوقهم لديمومة الرغيف ، لأنه بالنسبة لهم البقاء جالسين على دكة الحلم ، كما بوذي أمام سطوع الضوء ينتظر كشوف القادم من أيامه ، ولهذا كان الفقراء منذ عهد حضارة القرى وحتى اليوم ينظرون الى الآتي شابعٌ للبطون وقاتل لوساوس الليل والظنون.فيما أغنياء وساسة وملوك الأرض تكون جلطتهم الدماغية والقلبية وداء النقرس والهلع من ظل القاتل والحاسد ، أسرع من طلقة مسدس الاغتيال ، فتراهم ينظرون الى هدوء الفقير بحسد وغيرة ، ونتاج هذا الحسد ظهر الإعلان الدولي لحقوق الإنسان ، وكان الأجدى أن يظهر قبله الإعلان الدولي لحقوق الفقراء.
يقول الصوفيون : إن الفقر هو الوحيد القادر على صناعة زرقة الروح لمن يعاني من تخبط الألوان في حياته ، فهو أي الفقر ( شحة المال و ودوام الحال ، ودمع العيال ، وبريق الآمال ، ومحنة الرجال ، ولبس الخشن والأسمال ، وصانع الحسرة والسؤال ، ومحنن الصحارى والجبال ) وهذه من أوصاف الفقر ، يمثل قدرا كتبته لحظة الولادة ،فما يتغير إلا بقناعة الركون الى الأمل الإلهي. ولأني من الذين شملتهم سحابة الفقر ، كنت أرى فيه دائما منجما لصناعة الخيال والوصول الى المنى الجميل حتى من خلال اختراع حكاية وهمية وتصديقها.
يصنع الفقراء أوهامهم من خلال رغبة في صباح جديد يأتي معه اليوم الآخر المحمل بالوعود والآمال والتوكل على الله ، وظل هذا التوكل قائما بذاته ولم تغيره أي شموليه إذ لازم الفقر الأكثرية الساحقة من البشر ليشكلوا وجدان الأرض ولأجلهم ظهرت الفلسفات ومذاهب الأدب والقوانين ومسلات الحكمة والموسيقى والفنون. فالفقر بضاعة الإبداع ، وهو أكثر هواجس النفس البشرية من يركن الى القناعة على أساس :إن الله كتب علي هذا ، وما يكتبه الله الخضوع إليه عبادة ، فربما ينتظرني خلود الأبد وهو خير من خلود الدنيا المرهون بعمر تحكمه البطاقة المدنية ومراحل نمو الجسد ( طفولة ، صبا ، شباب ،شيخوخة ،كهولة ) ثم يأتيك هذا القول الحكيم : كل ابن أنثى وإن طالت سلامتهُ ………..يوما على آلة الحدباء محمولُ
وعلى الحدباء تتساوى قدرية البشر ، وتبدأ مطافات العدم تلج فينا ذهنية ما قد يكون بعد ذلك…!وأي كان ذلك التكوين ، فأن الفقراء يرون من الحياة التي نعيشها اليوم حديقة متسعة لنزهة النفس وبهجتها ، إنهم يدركون فيها صناعة الأحلام ، ومن يحلم جيدا تمدد السماء حياته الى ابد التيه في صفاء اليوم ودورته ،فلا يشعر بإيقاع دقات ساعة بك بن وهي تحسب عمره ، فقد وقع مع قناعته بخلود بهجته في خانة الأبد ، أن الأبد في خلق سعادة الروح ،وليس الدرهم سوى من آواني قمامة البيت.ومثلي ، يعيش المليارات من البشر مع إيقاع يومهم المتجدد فيما يعيش أباطرة المال مع إيقاعات شاشات البورصة وذلك ما يجعلهم اجف من يباب الصحراء على أفواه قافلة بخيل حمل ذهب الدنيا كله في سفره ،وما حمل جرة ماء ،فداهمه العطش ،ومات ،فيما دفنت الرمال كل ثروته الطائلة ،وكان يشعر قبل موته إن قطرة الماء تساوي طنا من الذهب.لكن القطرة أبت أن تقترب لشفتيه ، فشرب ذهبه ومات من لحظتها متحجرا من جسده ومشاعره.
الفقراء صورة مدهشة للخلق الجمالي لوجودنا الأرضي ، وحدهم من يستطيعون أدراك هاجس الروح بنظرة الأمل ، ولهذا كان الحلاج ( المتصوف ) يرى في متسولة بغداد ممن يبسطون للمارة ( يد الحاجة ) في طقوس الاستجداء والتسول، أنهم وحدهم من يصنعون بهجة الروح في ضوء النظرة التي يطلقونها لمن يتوسلون إليهم بعطاء ، وكان يقول : أياديهم في امتدادها طريق جنة لمن يريد أن يجعل من ماله وسيطا للوصول الى الكفاف والعفاف.اشربوا نظرات العطف في مآقيهم تشربون ماء زمزم وسلسبيل جنائن آدم.أولئك هم من يسمونهم في العرف الشيوعي ( زهور الأرض ).بين باسط اليد وباسط الخد خيط من الضوء ، فالأول يبغي خبزا لقتل الجوع ، والثاني يبغي قبلة أو صفعة .وكلاهما ( اليد والخد ) هم ارق مساحات الجسد بعد القلب، والخد الذي ارتهن برؤى يسوع أن تعطي الخد الثاني لصافع الخد الأول هو أيضا كما راحة اليد منطقة للشعور الجمالي بقناعة ما فينا من وجدان وحلم وأماني.
رؤية أدركتها من سحر طفولة الأمس ، عندما كان أبي يحرث الدنيا شمالا وجنوبا من اجل عشر أرغفة وقنطار تمر ، وكانت صفعات أبناء الاغنياء تطبع على خدودنا مزاحهم الثقيل ، لأننا اضعف من أن نكون نرد الصاع صاعين .كان أبي يقول :قصر جارنا ،إن نظرت إليه شزرا يكون دمارنا ، فرزقنا عنده ،وخبزنا من حمده ، ودورة يومنا لا تدور إلا مع دورة حماره ،ومزاج ليله ونهاره.وعليه كنت أتلقى تلك الصفعات بطيب خاطر ، وعندما كبرت أدركت جيدا لماذا كان يسوع ينطقها ، ربما لأن أثرياء أورشليم من الأطفال اليهود كانوا يقسون بها على ابن مريم . وهكذا هي أزمنتنا ، واقعةٌ أصلا تحت تأثير هذين الهاجسين ( بساط اليد وصفعة الخد ) ، وحدهما من يبقيا ملازمين لنشاط الذاكرة ودمعة العين ورسالة الحب.
وربما بهما يكمل اليوم دورته ويعاود الربيع علينا مرة أخرى.
وربما معكم سأهمس لكم كما تهمس قطرة المطر لنافذة الدمية النائمة: طوبى للرحماء فأنهم يرحمون..