على الرغم من أن الكثير من الناس يعلقون جهلهم بمصادر الأمور ومواردها على الصدفة الصامتة، فهم يعلمون أن هذه الشماعة خرساء بكماء وتتحمل كل ما من شأنه أن يكون ناقوس خطر يقرع في آذان السامعين وهم غافلون!!
نعم لا أظن أن صانع القرار العراقي ظاهراً انتبه إلى هذا التوافق بين بدء الدعاية الانتخابية، ويوم الأول من نيسان (إبريل)، ولكن بالمقابل لا أظن أن صانع القرار الحقيقي غفل عن ذلك أبدا، كل شيء في هذا الكون يحدث بقدر، ولا يمكن ابداً أن يحدث خارج النظام، والنظام الكوني كما هو معلوم علميا يجري بخطين متوازيين ولكل خط منهما جهة تمثله، خط متنامٍ، وخط يتسارع باتجاه الاندثار، والخط المتنامي بينه قانون التطور، وخط الاندثار أشار له قانون الثرموداينمك، ولذلك توهم بعض من يجهل مجرى القانونين؛ أن الثرموداينمك هو من ينقض التطور، من دون أن ينتبه إلى أن كلا من عمليتي الهدم والبناء خطان متوازيان متلازمان منذ بدء الخليقة وليسا متقاطعين؛ كل منهما يجري لغاية ولهدف، ووجود الهدف في القانونين دليل قاطع يهدم ما ذهب إليه الملحدون بأن التطور غير هادف على المدى البعيد، ولعل وجود قانون الثرموداينمك كشف عن الهدف من وراء وجود التطور، وكما قيل : الضد يظهر حسنه الضد.
المهم هو أن نعرف أن كلا من سفينتي الهدم والبناء تجريان في بحر الحياة، ولكن سفينة البناء غايتها النجاة، وسفينة الهدم يكشف عنها عنوانها وإن كانت ترفع شعارات البناء، وتنشد قصائده وتترنم بترنيماته، ولكن واقع حالها مع كل خطوة عملية تخطوها تكشف عن أن شعارات البناء ما هي إلا كذبة لا تزداد مع سرعة السير إلا انكشافا ووضوحا، وسفينتي الهدم والبناء اليوم متمثلتان؛ بحاكمية الناس والانتخابات، وحاكمية الله وقائدها الإلهي المخلص والمنقذ العالمي.
ولذا فسفينة الهدم على الرغم من علو أصوات راكبيها ومحاولاتهم خداع الناس إلا أن واقع جريانها يكشف جهتها ويفضح كذبها وخداعها، ولذا فإن بداية الدعاية الانتخابية في الأول من إبريل (نيسان) لم يكن اعتباطا، ولم ينتبه له ربابنة السفينة، بل قهرا عليهم ونتيجة غفلتهم واستخفافهم كانت هذه الإشارة الواضحة التي هي كشمس في رابعة النهار لا يغطيها الغربال، ولا ينكر رؤيتها إلا من استطاب العمى والرضا بالبقاء في ساحة الخداع والكذب، وإلا ما معنى هذا التوافق العجيب بين كذبة نيسان وبدء الدعاية الانتخابية غير أن الدعاية الانتخابية ما هي إلا كذبة كبيرة تكشف أمام المروجين لها والراغبين في صعود سفينتها إنما هم يركبون السفينة الخاسرة، وتكبرهم على سفينة النجاة لن ينجيهم مما ينتظرهم، والعجيب أن الناس كلها متفقة على أن الانتخابات ليست سوى خدعة كبيرة صنعها صانعوها ليسلبوا من الناس إرادة الحياة والصلاح باسم الحياة والصلاح، فلا يوجد اليوم عراقي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب لا يتكلم عن الفساد واستشرائه وسببه، ولا يختلف القائل بهذا الأمر سواء كان رأساً في العملية السياسية أو شخصاً بسيطاً ليس من أهل العير ولا النفير!!
ولعل أخطر دور ، بل لعل الدور الارتكازي للترويج إلى سفينة حاكمية الناس ودعوة الناس إليها تلعبه المؤسسة الدينية التي ينتظر منها المواطن أن تكون صادقة في إرشاده إلى ما يحييه وينفعه، وليس أن تبعث به في قافلة الهلاك والهدم، وكان يُنتظر من هذه المؤسسة وهي على طول السنوات الماضية ما فتئت تتحدث عن الفساد وانتشاره بكل مفاصل المجتمع بدءا من الرأس حتى الذيل، وليس في هذا الجسد المريض مساحة للعافية بسبب هذه السفينة الخاسرة التي تعفنت فيها الامال أن تكون ناصحة لا أقل برفع يدها وغطاءها الذي يوهم الناس بأن لا سفينة تنجيه في هذا البحر المتلاطم الأمواج غير سفينة الانتخابات، واتخاذ موقف الحياد، وإن كان وجودها وسلطتها توجب عليها أن لا تسكت عن الحق وبيانها ولا تسكت للباطل وفساده، وهي تعلم تمام العلم أن الساكت عن الحق شيطان أخرس!! وهذا أقل ما كان يؤمل منها بعد تلك الخسارات الكارثية التي عصفت في بلد حاله كحال الجمل (يحمل ذهبا على ظهره ويأكل العاقول)!!
فلم يعد مقنعا كل ما يدور في تلك السفينة الخاسرة من وعود وخطابات، حتى بدا المرشحون الذين ملأت صورهم أزقة الأحلام وزواغير الظلام وهم يعرضون وعودهم وما يسمونه برنامج انتخابي تماما كتلاميذ في المرحلة المتوسطة يقفون أمام الكاميرات ليرددون كلمات حفظوها أنشودة كما يؤدي التلميذ أمام معلمه ليقنعه بأنه يحفظ الواجب حسب، ولكن هل يدرك معنى ما يقول؟؟!! الجواب الأكيد تأخذه من فم المرشحين وهم يقدمون أنفسهم وبرامجهم الانتخابية (المضحكة المبكية)، وأذكر لكم صورة منها؛ أحدهم يقول: سأعمل على إصدار قانون …، وسأحاول محاربة الفساد وهدر المال العام سواء المأخوذ سرقة أو جهلا أو … (ونسي الثالثة) ولم يتذكرها إلا عندما قام بإعادة السطر من أوله: وسأحاول محاربة الفساد وهدر المال العام سواء المأخوذ سرقة أو جهلا أو لعدم تحمل المسؤولية!!!
وانظروا إلى الدعوات الانتخابية؛ كلها بلا استثناء لم يدخر أياً منها جهدا في إظهار صورة المرشح وإلى جانب صورة رئيس كتلته، ولعل وجود صورته إلى جنب صورة رئيس كتلته لهو دليل آخر يضاف إلى دليل أن الدعاية لا تعدو أن تكون كذبة نيسانية صرف؛ حيث أن المرشح يقول بصريح العبارة: إنني على عهدي لسيدي وولي نعمتي الذي لا أخرج عن رأيه حتى تصيح الساعة!! وأظن هذا العهد الذي تنطق به صور المرشحين يذكر القارئ أو يستدعي لذاكرته ذلك العهد الذي كتبه الملك السعودي عبد العزيز آل سعود للمندوب البريطاني بيرسي كوكس والذي يقول فيه: أقرّ وأعترف ألف مرة، لسير برسي كوكس؛ مندوب بريطانيا العظمى، لا مانع عندي من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود أو غيرهم، كما تراه بريطانيا، التي لا أخرج عن رأيها، حتى تصيح الساعة..!!
ولو شئتم أن تقرؤوا ما تشاؤون في رسائل الدعاية الانتخابية فاقرؤوا؛ فأحدهم حامي ثروة العراق، وآخر باني العراق، وثالث؛ حافظ أمن العراق، و…. و….، وكأن تلك الدعايات تتحدث عن عراق لا وجود له على أرض الواقع … عراق موجود في الخيال العباسي الذي صنع ألف ليلة وليلة، وحكايات الشاطر حسن والأميرة، عراق لا وجود له إلا في خيال العباسيين الذين في زمنهم وصلت المجاعة بالناس حداً أكلوا فيه القطط التي كانت تطمع في بقايا موائد المترفين، وهذه الحادثة التاريخية التي لا يقرؤها المنشدون للعصر العباسي في تاريخ ابن خلكان، ونحن اليوم نعيش الزمن نفسه وبتفاصيله، فعندما تسمع بموازنات انفجارية سريعا يقفز إلى رأسك: أن مقولة الخبز والبصل التي صارت اليوم حلما عند المعدمين … ما هي إلا أسطورة في خيال الذين لا يحبون الخير لتلك العملية (الديمقراطية) التي أمطرت على رأس العراقيين ما لا يحلمون به … لست أقصد عطاء بل بلاء ضعفت عن حمله الصم الرواسي.
ألم يحن الوقت لينتبه الناس إلى هذه الإشارات الكونية التي تكشف عن عاقبة تلك المسيرة التي يجتهد المستفيدون منها في تسويقها إلى أنهم يسوقونها في زمن تسويق الكذب؟؟!! ولا يقول عاقل أن الصدق يحتاج إلى تسويق في سوق الأكاذيب، لأن الصدق يكفيك أن تدل عليه ولا تروج له أو تزوقه أو تنسب له ما ليس فيه ليثبت أنه صدق، ولكن الكذب وحده هو من يحتاج إلى الدعاية والتزويق والتنميق لأنه يخفي خلفه وجها قبيحا مصطبغ بالفساد، قال تعالى{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}(البقرة/204-205)، ابحثوا ودققوا وتبينوا الراعي من الذئاب، من قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الأسف والحسرة ….