المواطن العربي والعراقي خاصة، مازال حديث العهد بتطور نظام الحكم الديموقراطي ودولة المؤسسات، بسبب تراكم وترسخ الأفكار الشمولية التي كانت مفروضة عليه والتي اعتاد عليها منذ فترة ليست بالقليلة.
فإنتقال المواطن من حالة نظام الحكم الشمولي إلى حالة جديدة أخرى مغايرة، قد تحدث أختلالاا بارزا في شخصيته، وخللا حادا في توازنه، وتعكس نتاجا جديدا في التحليل النفسي لذاته العربية والانسانية.
وتعتبر هذه الفترة هي الأخطر في سلوكه السياسي_ الاجتماعي، وهي آلأكثر شبها بمرحلة المراهقة التي يمر بها الإنسان في مراحل متقدمة من حياته كحالة برزخية من التقلب من حال إلى حال إن صح التعبير.
لذلك ووفق هذا المفهوم يكون المواطن في هذه المرحلة أكثر عرضة للاغواء والاغراء وسلوك الطرق المدلهمة وارتكاب الأخطاء التي ربما قد تكلفه غاليا، كأن تفقده مستقبله، أو على الأقل أن يتخذ قرارات مفصلية خطيرة قد تكون مفرق طرق لحياته الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، فضلا عن انه لايستطيع التمييز بين من يضره أو ينفعه من المواقف والحكام.
أما إذا كان على قدر معين من امتلاكه على تجربة ذاتية وكم ثقافي متواضع وشيئا من دراية سياسية ووعي عصامي بسيط يتوافق مع مساحة تفكيره وتحركه، فإن قراراته تكون صائبة، ويحتمل ان يكون استقراءه للأمور دقيقا وناضجا وبنسبة معينة، وخطواته متوازنة قد لايصيبها الوهن والهوى، والولوج والاندفاع بحالة مما تشبه حالات مصادرة العقل، أو الولوج من غياهب العقل الجمعي، أو الانغماس بتأثير الجو العرفي المجتمعي السائد في الساحة الأم.
والتجربة لاتولد الا من خلال جملة متاعب وممارسات جمة ومتنوعة، وتحقيقات معمقة في ميدان حياته الفائتة، أو من خلال فشل ما وإرهاصات وانتكاسات في مواقف فردية وجماعية سالفة.
وهناك أمور قد تكون التجربة والخبرة معها ناجعة، و لربما يأتي نفعها بارزا ومميزا إذا عززت بالمعطيات التي يقدمها العقل والعلم والممارسات الاجتماعية والثقافية الاخرى، وأحيانا لايأتي الفلاح من تجربة أو خبرة، ذلك لأن الميادين السياسية المعقدة لاترضخ لقاعدة أو قانون ما يتخذ كمهماز يمكن اتباعه والإهتداء به، حتى وإن سلمنا بانها تفلح بوجود مقومات ذاتية تكتيكية، لكنها تبقى ناقصة ومهمشة لغياب عناصر النجاح، كالعقل والمناخ والفرصة والاعوان والحظ والمال والبيانات والقاعدة والآليات والأدوات، أوحتى لو أستعين بنقل خبرة و قوالب جاهزة من ميدان آخر لدعمها، فإن هذه القوالب سترضخ حتما لقوانين النجاح والفشل والتآمر والتهجين، ولايستطيع أحد ان يتكهن أويضمن احتمالات النجاح فحسب.
إذا أخذنا العراق كنموذج لهذا البحث، فاننا نجد أن جميع الحالات التي رافقت العملية السياسية فيه، كالحالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والصحية والتعليمية والبنيوية، اخذت تتطور بطرق تميزها على إن للعراق هوية وبصمة خاصة له تختلف عن جميع تلك البصمات التي أريد للعراق اعتمادها والتي جربت في دول أخرى مرت بنفس التجربة، وهذا التميز والاختلاف لن يأتي من عدم أو من فراغ بسبب المقومات التي تميز بها العراق والعراقيون كوطن وشعب له معتقداته وثقافته وتقاليده وأعرافه وتاريخه العريق.
“يذكر ان للمثلت المحوري- بأقطابه الثلاث، الدين والمال والإعلام- الدور الكبير بالتأثير على جميع تلك المقومات وتعديلها على وفق الآيدوليجيات المطروحة على الساحة بمختلف انواعها وأنماطها وتجاذباتها وأجندتها وتبعيتها.ويبقى المثلث المحوري هو صاحب الدور “الجوكري” في تقويم أو ابطال وتعطيل أي عملية حراك سياسية، أو طائفية، أو انتخابية.”
ثم لاشك ان التطور في نظام الحكم بدأ في العراق من أول لحظة من سقوط النظام، إذ كانت تجربة النظام المؤسساتي الجديد قد بدأت بوادرها بالظهور من أول وهلة عندما انبثقت الصحف بالصدور دون رقيب أو قيد، ومكاتب الأحزاب هي الأخرى قد بدأت بالانتشار بشكل واسع في جميع المدن والقصبات،كما إن وسائل الاعلام المسموعة والمرئية أزيح عنها الستار وأميط لها الفضاء الملائم وباعداد هائلة بفضل تيسر الأدوات الحديثة المعفاة من الكمارك والمكوس المنتشرة في الأسواق المحلية.
كان هذا الإنبثاق بجميع مستوياته وانواعه انطلق بما يشبه الماراثون لتكون فيه نتائج الإصطفاف الجديد ليس على نسق واحد، مقارنة بالإصطفاف التأسيسي الأول عندما كانوا فيه بشكل غرماء على شفا نقطة الانطلاق، ويزداد هذا الاختلاف والتباين في الإصطفاف بشكل عكسي كلما يقتربوا من نقطة النهاية، واقصد بها نقطة الولوج إلى الحالة المثالية لإعلى السلم في تطور نظام الحكم بحيث يصبح أنموذجا قابلا للتصدير، ونظرية قابلة للتطبيق.
من هنا لابد ان نرجع بذاكرتنا إلى الوراء قليلا لنستذكر أن مجمل العمليات الماراثانوية بجميع أصنافها وأدواتها وشخوصها انتجت لنا نماذجا وأنساقا متناقضة ومتباينة في الأداء،ومتناظرة في المفهوم، وهي التي لعبت دورا كبيرا في صنع الهوية السياسية الجديدة للعراق.
وإذا إجرينا مقارنة بين آليات وأدوات وشخوص الأمس واليوم، منذ بداية الانطلاق إلى هذا الآن، نجد ان أن الكم قد تضائل وأنحسر، والنوع تبدل وتغير، ولن تفلح جميعها في اجتياز خط نهاية هذا الماراثون بنجاح، كتناقص اعداد الصحف والمجلات بنسب متفاوتة، وإختزال قوائم الناخبين إلى النصف، بينما وفي نفس الوقت يلحظ وجود تطور ملموس في وعي وثقافة الناخب من خلال التجربة والخبرة التي اكتسبها من خلال كرنفالات صناديق الاقتراع الماضية،ومن خلال التجارب التي اكتسبها أيضا من خلال السنين العشر المنصرمة من سقوط النظام.
ونحن في صدد هذه الأيام، أيام الإنتخابات علينا كمواطنين ناخبين ان ندرك ان العلاقة بين المرشح الذي يطرح برنامجه السياسي للانتخاب وبين الناخب الذي يدلي يصوته، علاقة عهد وتعاقد بموجب”عقد اجتماعي تلقائي، كما أسماه جان جاك روسو” وهو عقد واجب الوفاء والاحترام والتنفيذ، والالتزام به يجب ان يكون التزاما أخلاقيا من ناحية المبدأ، وواجبا من ناحية قانونية،كما عملت به أغلب نظم الحكم الديموقراطية التي أعتمدت الأقتراع، وبموجب هذا العقد ان على المرشحين بعد الفوز، واجبات والتزامات يقومون بتنفيذها ويسعون لتحقيقها بما يصب في مصلحة البلد العليا، ومصلحة تلك النخب والشرائح التي انتخبتهم واوصلتهم إلى دفة الحكم وليمثلوهم تحت قبة البرلمان المركزي أو المحلي بكل أمانة وشرف، وهي بحد ذاتها معادلة كناتج من نواتج “العقد الاجتماعي” الآنف الذكر، وكميزان ذي كفتين، كفة المرشح الذي أصبح عضوا نائيا، وكفة الناخب الذي ينتظر تحقيق تلك الحقوق، وان أي اعتلال وتفاوت بين الكفتين ذلك يعني ان اشارة سلبية ما قد حصلت في تلك المعادلة والتي يجب اصلاحها ومعالجتها على الفور.
ولانريد ان نحمل الحكومة والأجهزة المرتبطة بها مسؤولية إصلاح ذلك الخلل فحسب، بل ان للشعب دور كبير بإصلاحه وبكفالة الدستور والذي ضمن لهم حق التظاهر السلمي والتعبير عن الرأي وان يقول كلمته متى يشاء و بشكل حضاري متمدن، بعيدا عن الاملاءات والتجاذبات والأجندة الخارجية، أو من خلال إجراءات بقية الأعضاء الممثلين له في قائمة أو كتلة ما، وعلى منظمات المجتمع المدني والمفوضية المستقلة للانتخابات والمحكمة العليا والنزاهة، لهن دور كبير ومؤثر وفاعل في تقويم أي خلل وتقاعس، ومراقبة الأداء.وإذا أريد لنظام الحكم ان يتطور إلى مافيه الخير والصلاح للعراق، علينا ان ننتظر، إذا أمدنا الله بالأعمار، لنرى نهاية الماراثون السياسي ليصل بنا حتما إلى مرحلة ان من يخوض الإنتخابات بالمستقبل ربما حزبان عملاقان أو ثلاثة أحزاب رئيسية تضم من بين ثناياها جميع النخب السياسية العراقية، لتتنافس على تمثيل الشعب في الحكومة والبرلمان بعد طرح برامجها السياسية وخوض الانتخاباب، فالفائز منهم يتسلم الحكومة، ومن لم يحالفه الحظ في الفوز عليه ان يطور برنامجه للتنافس للفوز بالمرة القادمة ويبقى في مزاولة دوره بالمعارضة تحت قبة البرلمان وفق الأطر الديموقراطية، ومراقبة اداء الحكومة التنفيذية.
وتبقى ألانتخابات في جميع مراحلها وأطوارها، هي في أحسن الحالات “كرنفال” سيء الإخراج والأداء، إذا كانت لاتمتلك الحد الاعلى من النزاهة والشفافية، أو إذا أفتقرت للمعايير الدولية والوطنية والذاتية،إذ تجعلنا نتساءل عن الحد الذي بلغه الاستخفاف بعقولنا، والضحك على ذقوننا من لدن النخب السياسية.