خاص : بقلم – د. مالك خوري :
(غولدا) هذا الفيلم كان “موضوعيًا” في شيء واحد فقط: تأريخ نجاح غولدا مائير في انتزاع هزيمة عربية كبرى من رحم واحد من أهم الانتصارات العربية في صراعهم الوجودي مع إسرائيل. هذا النجاح/ الهزيمة ما زلنا ندفع ثمنه حتى اليوم وعلى العديد من الأصعدة. فقط أنظر التعليقات النقدية الكاريكاتورية لبعض العرب عن الفيلم، وهي أشبه بطلبات تصريح حُسن سلوك عنوانه ادعاء “الموضوعية” وعدم “التسّييس” لنقدهم تجاه فيلم تُمثل فيه السياسة والتحيز السياسي الركن الأساس لاختياراته الدرامية ولشكل الأداء التمثيلي للفنانة التي اضطلعت بدور مائير.
مَن مِن الذين شاهدوا هذا الفيلم، “بموضوعيته” الكاذبة والمصطنعة؛ شكلاً ومحتوى، قادر على تميّيز خباثة هذا العمل في محاولته المتحيزة والواضحة لفبركة ملاك من شتات شخصية تاريخية مجرمة ؟! مَن مِن مشاهدي مثل هذا الفيلم اليوم يعرف أي شيء وبالتالي قادر على فرز الحقيقة عن الخيال لاستعادة الجانب الأهم في الشخصية الحقيقية لواحدة من أكثر القيادات انتهازية ومواربة في فاشيتها في تاريخ الحركة الصهيونية ؟!
وبالنهاية، مَن مِن مشاهدي الفيلم، ضمن واقعنا المعرفي الحالي، والذي أصبحت تمتهن فيه حرفة محو الذاكرة التاريخية لشعوبنا، سيكون قادرًا على استعادة حقيقة ما جعل غولدا مائير واحدة من أهم قيادات دولة إسرائيل تاريخيًا… إسرائيل نفسها التي بنّت منطق وجودها على تزييف التاريخ ونشر أكاذيبها حوله ؟! مَن منهم سمع بما قالته هذه الفاشية في الشهر الثاني لتسّلمها رئاسة الوزارة في إسرائيل حين قالت أنه: “ما من شيء اسمه فلسطينيون” (مقابلة مع فرانك غايلز في “الصنداي تايمز” في 15 حزيران/يونيو، 1969) ؟!.
وقبل أن يتهمني أحدهم بعدم التعاطي مع الفيلم “كفيلم” أقول: مهلاً وكفى استهزاء بعقول الناس. فإن أداء هيلين ميرين لشخصية غولدا في الفيلم كان ضعيفًا ونمطيًا في مجمله. ميرين هي بلا شك من أهم ممثلات السينما في العالم اليوم ومن أكثرهم قدرة على التألق في أي دور تقوم به. لكنها في “غولدا” هي تبدو “باردة” بل مقيدة في قدرتها على التشابك مع دورها وخصوصًا مع القيادات العسكرية في الفيلم، وبالمقابل هي تظهر أكثر انهماكًا في نفخ دخان السجائر كتعبير عن استسلامها أمام مرض السرطان الذي ينهش بها. وبالنتيجة تأتي هذه النسخة السينمائية لغولدا مائير التي قدمتها هيلين ميرين فاقدة للديناميكية التي تُميز أداء ميرين عادة وغير مستوعبة لتعددية أبعاد وعمق الشخصية، بما في ذلك أبعادها وخلفياتها المظلمة والإجرامية.
وبرأيي فإن السبب في هذا لا يكمن في قدرات ميرين نفسها، بل يرتبط بإصرار الفيلم على اصطناع شخصية تاريخية لغولدا مائير “تُحيّد” قدر الأمكان المكونات الأعمق التي تجبل هذه الشخصية التي كانت رائدة في تأمين الدعم المالي العالمي لجهود المنظمات العسكرية والمدنية الصهيونية والتي عملت على اقتلاع وقتل وطرد الفلسطينيين من أراضيهم خلال أربعينيات القرن المنصرم. ولو عبر الأداء (افتراضًا) عن المكونات الأكثر تعقيدًا في شخصية غولدا، لكانت الصورة الأقرب إلى الملائكية لها كما يراها الفيلم تعرضت للاهتزاز، وهذا يتناقض مع البناء الدرامي والثيّمي لشخصيتها في الفيلم..
الفيلم هو مثل آخر للمحاولات العديدة لإعادة صياغة (أو تثبيّت) النسخة الإمبريالية لتاريخ العالم ومنطقتنا بشكلٍ خاص. وهو عمل سياسي بإمتياز (وعن سابق تصور وتصميم). وبالتالي فإن أي محاولة من قبل البعض للتعاطي معه “بحيادية” هو إما للمسّاهمة في ذر الرماد في العيون، أو للتعبير عن اختيارهم الانتهازي (لكن الحذِر) لطريق تسّويق النسخة الصهيونية لتاريخ المنطقة أملاً منهم في فرض التطبيع مع كيان فاشي غاصب يُمثل خطرًا وجوديًا على كل شعوب المنطقة ومستقبلهم.