15 نوفمبر، 2024 8:39 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (94) مبدأ الفيلسوف”مو”: “أحب الناس جميعا بقدر واحد”

قصة الحضارة (94) مبدأ الفيلسوف”مو”: “أحب الناس جميعا بقدر واحد”

خاص: قراءة- سماح عادل

انتقل الكتاب إلى عرض الفلاسفة الآخرين بعد كونفيشيوس. منهم من دعا إلى الحب والسلام، ومنهم من دعا إلى التمتع بملذات الحياة وتفكير الإنسان في نفسه وفقط. وذلك في الحلقة الرابعة والتسعين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

فلاسفة الجدل..

يحكي الكتاب عن حال الفلسفة بعد عصر كنفوشيوس: “لقد كانت المائتا عام التي أعقبت عصر كنفوشيوس أعوام جدل شديد وردَّة عنيفة، ذلك أنه لما كشف العلماء عن لذة الفلسفة وبهجتها قام رجال من أمثال هْوِ ادزه، وجونج سون لويانج يتلاعبون بالمنطق ويخترعون القضايا المنطقية المتناقضة. واحتشد الفلاسفة من جميع أنحاء البلاد في مدينة لويانج، وكانوا يستمتعون في عاصمة الصين بحرية القول والتفكير. وغصت عاصمة البلاد بالفلاسفة المسمين تزونج- هنج- كيا أي “فلاسفة الجدل”، الذين جاءوا من كافة أنحاء البلاد ليعلموا الناس على اختلاف طبقاتهم فن إقناع أي إنسان بأي شيء أرادوا إقناعه به.
فجاء إلى لويانجمنشيس الذي خلف كنفوشيوس في منصبه، كما جاء إليها جَونْج- دْزَه أعظم أتباع لو- دْزَه، وشِون- دْزَه القائل بأن الإنسان شرير بطبعه، ومودي نبي الحب العالمي”.

مو..

ويواصل عن فيلسوف شهير: “قال منشيس عدو مودي “لقد كان يحب الناس جميعا، وكان يود لو يستطيع أن يبلى جسمه كله من قمة رأسه إلى أخمص قدمه إذا كان في هذا خير لبني الإنسان، وقد نشأ مودي في بلدة لو التي نشأ فيها كنفوشيوس، وذاعت شهرته بعد وفاة الحكيم الأكبر بزمن قليل. وكان يعيب على كنفوشيوس أن تفكيره خيالي غير عملي، وأراد أن يستبدل بهذا التفكير دعوة الناس جميعاً لأن يحب بعضهم بعضاً. وكان من أوائل المناطقة الصينيين ومن شر المجادلين المحاجين في الصين؛ وقد عرف القضية المنطقية تعريفاً غاية في البساطة فقال:
هذه هي التي أسميها قواعد الاستدلال الثلاث:
أين يجد الإنسان الأساس؟ ابحث عنه في دراسة تجارب أحكم الرجال الأقدمين.
كيف يلم الإنسان به إلماما عاما؟ افحص عما في تجارب الناس العقلية من حقائق واقعية.
كيف تطبقها؟ ضعها في قانون وسياسة حكومية، وانظر هل تؤدي إلى خير الدولة ورفاهية الشعب أو لا تؤدي إليهما”.

الدين رهان مربح..

وعن أهمية الدين بالنسبة له: “وعلى هذا الأساس جَد مودي في البرهنة على أن الأشباح والأرواح حقائق واقعية، لأن كثيرين من الناس قد شاهدوها، وكان من أشد المعارضين لآراء كنفوشيوس المجردة غير المجسمة عن الله، وكان من القائلين بشخصية الله. وكان يظن كما يظن بسكال أن الدين رهان مربح في كلتا الحالين: فإذا كان آباؤنا الذين نقرب لهم القرابين يستمعون إلينا فقد عقدنا بهذه القرابين صفقة رابحة، وإذا كانوا أمواتا لا حياة لهم ولا يشعرون بما نقرب إليهم فإن القرابين تتيح لنا فرصة الاجتماع بأهلينا وجيرتنا، لنستمتع جميعاً بما نقدمه للموتى من طعام وشراب”.
وبهذه الطريقة عينها يثبت مودي أن الحب الشامل هو الحل الوحيد للمشكلة الاجتماعية؛ فإذا ما عم الحب العالم أوجد فيه بلا ريب الدولة الفاضلة والسعادة الشاملة التي بها “يحب الناس كلهم بعضهم بعضاً، ولا يفترس أقوياؤهم ضعفاءهم، ولا تنهب كثرتهم قلتهم، ولا يزدري أغنياؤهم فقراءهم، ولا يسفه عظماؤهم صغارهم، ولا يخدع الماكرون منهم السذج”.

الرغبة في التملك..

ويضيف الكتاب عن أفكاره: “والأنانية في رأيه مصدر كل شر سواء كان هذا الشر رغبة الطفل في التملك أو رغبة الإمبراطوريات في الفتح والاستعمار. ويعجب مودي كيف يدين الناس أجمعون من يسرق خنزيراً ويعاقبونه أشد العقاب، أما الذي يغزو مملكة ويغتصبها من أهلها، فإنه يعد في أعين أمته بطلا من الأبطال ومثلا أعلى للأجيال المقبلة. ثم ينتقل مودي من هذه المبادئ السلمية إلى توجيه أشد النقد إلى قيام الدولة حتى لتكاد عقيدته السياسية تقترب كل القرب من الفوضى، وحتى أزعجت هذه العقيدة ولاة الأمور في عصره.
ويؤكد لنا كتاب سيرته أن مهندس الدولة في مملكة جو هَم بغزو دولة سونج ليجرب في هذا الغزو سلما جديدا من سلالم الحصار اخترعه في ذلك الوقت، فما كان من مودي إلا أن أخذ يعظه ويشرح له عقيدة الحب والسلم العالميين حتى أقنعه بالعدول عن رأيه، وحتى قال له المهندس: “لقد كنت قبل أن ألقاك معتزماً فتح بلاد سونج، ولكني بعد أن لقيتك لا أحب أن تكون لي ولو سلمت إلي من غير مقاومة ومن غير أن يكون ثمة سبب حق عادل يحملني على فتحها”. فأجابه مودي بقوله: “إذا كان الأمر كذلك فكأني قد أعطيتك الآن دولة سونج. فاستمسك بهذه الخطة العادلة أعطك ملك العالم كله””.

السخرية من السلمية..

وعن رد فعل من حوله علي أفكاره السلمية يوضح الكتاب: “وكان العلماء من أتباع كنفوشيوس والساسة أتباع لوينج يسخرون من هذه الأفكار السلمية؛ ولكن مودي رغم هذه السخرية كان له أتباع، وظلت آراؤه مدى قرنين كاملين عقيدة تدين بها شيعة تدعو إلى السلام، وقام اثنان من مريديه وهما سونج بنج، وجونج سون لونج بحملة قوية لنزع السلاح، وجاهدا في سبيل هذه الدعوة حق الجهاد. وعارض “هان- في” أعظم النقاد في عصره هذه الحركة، وكان ينظر إليها نظرة في وسعنا أن نسميها نظرة نيتشية، وكانت حجته في معارضته أن الحرب ستظل هي الحكم بين الأمم حتى تنبت للناس بالفعل أجنحة الحب العام.
ولما أصدر شين هوانج- دي أمره الشهير “بإحراق الكتب” ألقيت في النار جميع الآداب المودية كما ألقيت فيها جميع الكتب الكنفوشية؛ وقضى هذا الحريق على الدين الجديد وإن لم يقض على عقيدة المعلم الأكبر وكتاباته”.

– يانج ـ جو، أناني..

وعن ظهور فلسفة أخرى مغايرة تماما: “وكانت عقيدة أخرى، تختلف عن العقيدة السابقة كل الاختلاف، قد أخذت تنتشر وتشتد الدعوة إليها بين الصينيين، فقد قام رجل يدعى يانج- جو لا نعرف عنه شيئاً إلا ما قاله عنه شانئوه وجهر بهذه الدعوة المتناقضة، وهي أن الحياة ملأى بالآلام وأن اللذة هدفها الأعلى، وكان ينكر وجود الله، كما ينكر البعث، ويقول إن الخلائق ليست إلا دمى لا حول لها ولا طول، تحركها القوى الطبيعية العمياء التي أوجدتها، والتي وهبتها أسلافها دون أن يكون لها في ذلك خيار، ورسمت لها أخلاقها، فلا تستطيع أن تتحول عنها أو أن تبدلها غيرَها.
فأما الحكيم العاقل فيرضى بما قسم له دون أن يشكوا أو يتذمر، ولكن لا يغتر بشيء من سخافات كنفوشيوس ومودي، وما يقولانه عن الفضيلة الفطرية والحب العالمي، والسمعة الطيبة. ومن أقواله أن المبادئ الخلقية شراك ينصبه الماكرون للسذج البسطاء، وأن الحب العالمي وهمُ يتوهمه الأطفال الذين لا يعرفون كنه البغضاء العالمية التي هي سنة الحياة”.

عبدة الشهوات..

وعن الاستمتاع بالملذات: “وأن حسن الأحدوثة ألعوبة لا يستطيع الحمقى الذين ضحوا من أجلها أن يستمتعوا بعد وفاتهم بها، وأن الأخيار يقاسون في الحياة ما يقاسيه الأشرار، بل إنه ليبدو أن الأشرار أكثر استمتاعاً بالحياة من الأخيار. وأن أحكم الحكماء الأقدمين ليسوا هم رجال الأخلاق والحاكمين كما يقول كنفوشيوس بل هم عبدة الشهوات، الذين كان من حظهم أن استبقوا المشترعين والفلاسفة، فاستمتعوا بكل لذة دفعتهم إليها غرائزهم.
نعم إن الأشرار قد يخلّفون وراءهم سمعة غير طيبة، ولكن ذلك أمر لا يقلق عظامهم. ثم يدعونا يانج- جو إلى أن نفكر في مصير الأخيار والأشرار، فيقول: “إن الناس كلهم مجمعون على أن شون، ويو، وجو- جونج، وكنفوشيوس كانوا خير الناس وأحقهم بالإعجاب، وأن جياه، وجو، شرهم جميعا.
ولكن شون قد اضطر إلى حرث الأرض في جنوب نهر هو، وإلى صنع آنية الفخار بجوار بحيرة لاي، ولم يكن في وسعه أن يستريح من عناء العمل لحظة قصيرة، بل إنه لم يكن يستطيع أن يجد شيئاً من الطعام الشهي والملابس المدفئة، ولم يكن في قلب أبويه شيء من الحب له، كما لم يكن يجد من أخوته وأخواته شيئاً من العطف عليه. فلما نزل له “ياو” آخر الأمر عن المُلك، كان قد تقدمت به السن، وانحطت قواه العقلية؛ وظهر أن ابنه شانج جو إنسان ناقص العقل عديم الكفاية؛ فلم يجد بدا من أن ينزل عن الملُك إلى يو. ومات بعدئذ ميتة محزنة. ولم يكن بين البشر كلهم إنسان قضى حياته كلها بائسا منغصا، كما قضى هو حياته.
“وكان يو قد صرف كل جهوده في فلح الأرض، وولد له طفل ولكنه لم يستطيع أن يربيه فكان يمر على باب داره ولا يدخلها، وانحنى جسمه وانضمر وغلظ جلد يديه وقدميه وتحجر. فلما أن نزل له شون آخر الأمر عن العرش عاش في بيت وطئ حقير، وإن كان يلبس ميدعة وقلنسوة ظريفتين. ثم مات ميتة محزنة، ولم يكن بين الآدميين كلهم من عاش معيشة نكدة حزينة كما عاش يو”.

الفلاسفة..

وينتقل الكتاب إلى الحديث عن الفلاسفة الأربعة: “وكان كنفوشيوس يفهم أساليب الملوك والحكام الأقدمين، ويستجيب إلى دعوات أمراء عصره. ثم قطعت الشجرة التي يستظل بها في سونج، وأزيلت آثار أقدامه من ويه، وحل به الضنك في شانج وجو، وحوصر في شان وتشي؛… وأذله يانج هو وأهانه، ومات ميتة محزنة. ولم يكن بين بنى الإنسان كلهم من عاش عيشة مضطربة صاخبة كما عاش كنفوشيوس.
“ولم يستمتع هؤلاء الحكماء الأربعة بالسرور يوما واحدا من أيام حياتهم، وذاعت شهرتهم بعد موتهم ذيوعاً سوف يدوم عشرات الآلاف من الأجيال، ولكن هذه الشهرة هي الشيء الذي لا يختاره قط من يعنى بالحقائق ويهتم بها. هل يحتفلون بذكراهم؟ هذا مالا يعرفونه. وهل يكافئونهم على أعمالهم؟ وهذا أيضاً لا يعرفونه وليست شهرتهم خيراً لهم مما هي لجذع شجرة أو مَدَرة”.

حياة الرفاهية..

وعن حاية الرفاهية التي عاشها جو: “أما (جياه) فقد ورث ثروة طائلة تجمعت مدى قرون طويلة؛ ونال شرف الجلوس على العرش الملكي؛ وأوتي من الحكمة ما يكفيه لأن يتحدى كل من هم دونه مقاماً؛ ومن القوة ما يكفي لأن يزعزع به أركان العالم كله. وكان يستمتع بكل ما تستطيع العين والأذن أن تستمتعا به من ضروب الملذات؛ ولم يحجم قط عن فعل كل ما سولت له نفسه أن يفعله. ومات ميتة هنيئة؛ ولم يكن بين الآدميين كلهم من عاش عيشة مترفة فاسدة كما عاش هو. وورث جو (شِنْ) ثروة طائلة تجمعت في مدى قرون طويلة، ونال شرف الجلوس على العرش الملكي، وكان له من القوة ما يستطيع به أن يفعل كل ما يريد؛… وأباح لنفسه في قصوره فعل كل ما يشتهيه، وأطلق لشهواته العنان خلال الليالي الطوال؛ ولم يكدر صفو سعادته قط بالتفكير في آداب اللياقة أو العدالة، حتى قضى نحبه كأبهج ما يقضى الناس نحبهم. ولم يكن في الآدميين كلهم من كانت حياته داعرة فاجرة كما كانت حياة جو.
وقد استمتع هذان الرجلان السافلان في حياتهما بما شاءا من الملذات وأطلقا لشهواتهم العنان، واشتهر بعد وفاتهما بأنهما كانا من أشد الناس حمقاً واستبداداً، ولكنهما استمتعا باللذة وهي حقيقة لا تستطيع أن تهبها حسن الأحدوثة. فإذا لامهم الناس فإنهم لا يعرفون، وإذا اثنوا عليهم ظلوا بهذا الثناء جاهلين، وسمعتهم (السيئة) لا تهمهم أكثر مما تهم جذع شجرة أو مَدَرة”.

فلسفة أنانية..

ويجمل مؤلفا الكتاب آرائهما: “ألا ما أعظم الفرق بين هذه الفلسفة وبين فلسفة كنفوشيوس وهنا أيضاً نظن أن الزمان وهو رجعي كالرجعيين من الآدميين قد أبقى لنا آراء أجل المفكرين الصينيين وأعظمهم، ثم عدا على الباقين كلهم تقريبا فطواهم في غمرة الأرواح المنسية. ولعل الزمان محق في فعله هذا، ذلك أن الإنسانية نفسها ما كانت لتعمر طويلا لو كان فيها كثيرون ممن يفكرون كما يفكر يان جو.
وكل ما تستطيع أن ترد به عليه هو أن المجتمع لا يمكن أن يقوم إذا لم يتعاون الفرد مع زملائه أخذاً وعطاء وإذا لم يتحملهم ويصبر على أذاهم، ويتقيد بما في المجتمع، من قيود أخلاقية، وإن الفرد الكامل العقل لا يمكن أن يوجد في غير مجتمع، وأن حياتنا نفسها إنما تعتمد على ما فيها من قيود. ومن المؤرخين من يرى في انتشار هذه الفلسفة الأنانية بعض الأسباب التي أدت إلى ما أصاب المجتمع الصيني من انحلال في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد. فلا عجب والحالة هذه أن يرفع منشيس، جنسن زمانه، عقيرته بالاحتجاج الشديد وبالتشهير بأبيقورية ينج جو وبمثالية مودي فقال:
“إن أقوال ينج جو ومودي تملأ العالم؛ وإذا سمعت الناس يتحدثون وجدتهم قد اعتنقوا آراء هذا أو آراء ذاك. فأما المبدأ الذي يدعو إليه ينج فهو هذا. “كل إنسان وشأنه” وهو مبدأ لا يعترف بمطالب الملك. أما مبدأ مو فهو هذا: “أحب الناس جميعا بقدر واحد”- وهو مبدأ لا يعترف بما يحق للأب من حب خاص. ومن لا يعترف بحق الملك ولا بحق الأب كان في منزلة الحيوان الأعجم. فإذا لم يوضع لمبادئهما حد، وإذا لم تسد مبادئ كنفوشيوس، فإنهما سيخدعان الناس بحديثهما المقلوب، ويسدان في وجوههم طريق الخير والصلاح.
“ولقد أزعجتني تلك الأشياء وأمرضت قلبي، فوقفت أدافع عن عقائد الحكماء والأقدمين، وأعارض ينج ومو، وأطارد أقوالهما المنحطة، حتى يتوارى هؤلاء المتحدثون الفاسدون فلا يجرءوا على الظهور. ولن يغير الحكماء من أقوالي هذه إذا ما عادوا إلى الظهور”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة